تسبب متحور "أوميكرون" في رفع معدل وفيات فيروس كورونا في العالم بوتيرة سريعة، حيث تجاوز عدد الوفيات في الولايات المتحدة وحدها حاجز الـ900 ألف شخص مطلع الشهر الماضي، كما زاد عدد الوفيات خلال الأسابيع الماضية في البرازيل بنسبة 167 في المئة، وفي الهند بنسبة 136 في المئة، في الوقت الذي أودت فيه الجائحة بحياة أكثر من 5.7 مليون نسمة في العالم منذ تفشيها.
ونتيجة هذا العدد الهائل من الوفيات، تكدست الجثث في المقابر وساحات الدفن الجماعية ومحارق الجثث على نحو غير مسبوق، لدرجة أن عمال المقابر في مدينة ساو باولو البرازيلية، على سبيل المثال، اضطروا إلى استخراج الرفات القديمة من بعض المقابر بغرض إعادة توزيعها في محاولة مستميتة لتوفير أماكن لدفن الجثث الجديدة، التي بات عددها يربو على عدة آلاف كل يوم.
ويقول العلماء إن المقابر تُعتبر من أهم مصادر تلويث التربة بالمعادن الثقيلة التي لا يتم الالتفات إلى خطورتها، ومع تفاقم أزمة كورونا، وزيادة عدد الجثامين التي توارى الثرى كل يوم، أصبح من الممكن أن تصل معدلات تلوث التربة داخل المقابر وحولها إلى مستويات بالغة الارتفاع، على نحو ينذر بتلوث المياه الجوفية في تلك المناطق أيضاً.
وأثناء عملية التحلل، تسيل من الجثة عدة ليترات من المياه وكميات ضخمة من المعادن الثقيلة في صورة خليط لونه يجمع ما بين البني والرمادي، ويطلق عليه اسم العصارة. ويتكوَّن 60 في المئة من هذا السائل من المياه، بالإضافة إلى نسبة تتراوح بين 30 و40 في المئة من الأملاح المعدنية. أما الـ10 في المئة الباقية، فتتكوَّن من مواد عضوية ومركبات كيميائية معدنية، مثل الكالسيوم والكروميوم والحديد والرصاص وغيرها. وتستغرق الجثة المدفونة نحو 3 سنوات قبل أن تبدأ هذه العصارة في التسرب إلى التربة.
وتناولت ليتسيا روكا جونكالفيز، الباحثة في جامعة ساو باولو الحكومية في البرازيل، هذه المشكلة البيئية في دراسة أوردتها الدورية العلمية "إنفيرومنتال ساينس أند بوليوشن ريسيرش" المتخصصة في مجال العلوم البيئية والتلوث، مشيرة إلى أنه "في ظل زيادة معدلات دفن الموتى بسبب جائحة كورونا، لابد أن نكون على وعي بالأضرار البيئية الناجمة عن هذه الظاهرة"، مضيفة في تصريحات للموقع الإلكتروني "بوبيولار ساينس" أن "هناك حاجة ماسة لتطبيق سياسات صحية للتخفيف من آثارها".
وأشارت جونكالفيز أيضاً إلى أن عملية حفظ الجثث من خلال عمليات تشبه التحنيط يعتبر مصدراً آخر خطيراً للتلوث بالمعادن الثقيلة، وأوضحت أنه خلال هذه العملية، يستخدم عمال المقابر مواد كيميائية مثل الفورمالدهايد ونيترات البوتاسيوم والطلاء المصنوع من الكروم، وعندما تبدأ هذه الجثامين المحفوظة في التحلل، فإن تلك المعادن الثقيلة تختلط بعصارة الجثث وتتسرب بدورها إلى التربة. كما أن بعض المستلزمات الطبية التي تبقي داخل الجثث بعد دفنها، مثل حشوات الاسنان وأجهزة تنظيم النبض والعظام والمفاصل الصناعية يمكن أن تسهم أيضاً في تلوث البيئة.
وعلاوة على ما تقدم، فإن النعوش نفسها التي تُصنع من أنواع مختلفة من الأخشاب والمعادن يتم طلائها بالورنيش والدهانات المختلفة، ويتسرب منها، بفعل التآكل تحت الأرض، مواد مثل الزينك والألومنيوم والنحاس، ويمكن أن تختلط بالتربة وتزيد من معدلات تلوث البيئة.
وحسب دراسة أوردتها الدورية العلمية "إنفيرومنت ديفيلوبمنت أند ساستاينبيلتي" المتخصصة في مجال البيئة والتنمية والاستدامة، فإن خطورة التلوث بالمعادن الثقيلة تمتد في دائرة نصف قطرها نحو 500 متر حول المقابر.
ويقول الباحث ألسيندو نيكل، المتخصص في مجال الهندسة البيئية في كلية "أي.إم.إي.دي" للهندسة والتطوير العمراني في البرازيل: "لا يمكننا أن نلقي باللوم في هذه المشكلة على المقابر"، موضحا، أنه في البداية كانت المقابر تقام على مسافات آمنة من الأحياء السكنية، ولكن مع التوسع العمراني، امتدت المناطق السكنية الكثيفة حتى وصلت إلى مسافات قريبة للغاية من المقابر. وأضاف أنه تم رصد هذه المشكلة في مدن مثل هو شي مينه في فيتنام وتشوان في جنوب إفريقيا.
وفي إدارة دراسة ميدانية، اختبر نيكل وفريقه العلمي 180 عينة تربة تم جمعها من 3 مقابر في مدينة كارازينهو في جنوب البرازيل، وتوصل إلى ارتفاع مستويات مادتي الكروميوم والرصاص في تلك العينات إلى نسب تفوق المسموح به وفق المعايير الصحية.
وتشير الدراسات إلى أن التلوث بالرصاص يسبب أضراراً في المخ والجهاز العصبي لدى الأطفال، ولدى تعرض البالغين للرصاص لفترات طويلة، فمن الممكن أن يصابوا بارتفاع ضغط الدم وأمراض الكلى والجهاز التناسلي وغيرها. أما التعرض لمادة الكروميوم، فإنه يؤدي إلى الإصابة بمشكلات في الجهاز التنفسي والحساسية بل والسرطان.
وأشار إلى أنه "مع استمرار اتساع المدن، فإن صناعة العقارات مازالت تبدي اهتماماً بالمناطق المحيطة بالمقابر" حتى بالرغم من هذه المشكلة البيئية الخطيرة.
وأعرب عن اعتقاده أن جائحة كورونا أكدت الحاجة الملحة لتوفير مقابر تراعي معايير الاستدامة البيئية عن طريق استخدام أحواض تعفن، من أجل معالجة العصارات التي تفرز من الجثث قبل أن تختلط بالتربة وتسبب تلوث البيئة. (عن "د ب أ")