في التراث يأجوج ومأجوج هم قوم كُثر عظيمو العدد، وفي بعض التراث أيضاً أن عددهم هو ثمانمئة ألف من البشر، وهو في ذلك الزمان "خلق كثير".
واليوم تجاوز الواقع الخيال، ففي أصغر دولة خليجية يمكن أن نرى هؤلاء القوم، من حيث العدد على الأقل، لأن أصغر دولة هنا على ضفاف البحر يمكن أن تكون بذلك العدد البشري أو أكثر.
يأجوج ومأجوج الحديثان في الاستخدام المجازي يدمران البيئة ويستنزفان الطاقة، وتكتظ بهما الشوارع. فإن كنت في الكويت أو المنامة أو الدوحة أو دبي أو أبوظبي أو حتى مسقط، فأنت تكاد تختنق من زحمة السيارات والناس، بل تستطيع أن تسافر من دبي إلى المنامة بالطائرة في غضون ساعة من الزمن، ولكنك تحتاج إلى وقت أطول وصبر أكبر في أوقات الذروة للتنقل من جنوب الكويت إلى شمالها، أو من وسط دبي إلى أطراف الشارقة. وتزداد "جرائم غضب" الشوارع، التي تقع بسبب الضغطالعصبي نتيجة ازدحام المرور، ومنها الحوادث المميتة.
والمنطقة كلها من شمالهاإلى جنوبها من المناطق القليلة في العالم التي تتغير خريطتها الجوية الكلية في غضون شهر أو اقل. فإن التقطت صورة جوية لاحدى المدن التي ذكرنا وعدت لتصويرها مرة أخرى بعد ثلاثين يوماً، سوف ترى أن الفرق كبير إلى درجة عدمالتشابه.
تسير في شوارع مدن الخليج 130 مليون سيارة حسب التقدير المحافظ، وتنفث فيها أعداد أكبر من المكيفات، وتكاد تختلط منازلها السكنية بمناطقها الصناعية، وتلقى في بحرها فضلات ليست آدمية فقط ولكن صناعية صلبة وسائلة، محايدة وقاتلة، حتى أصبحت بعض الشواطئ لا تصلح لأن تعيش فيها الأسماك.
وكل صباح تجد التحذير بعد التحذير في الصحف من خطورة استهلاك ما يجلبه البحر. ويصاب سكان المنطقة ببعض أكبر النسب في العالم من أمراض الحساسية المختلفة، وأمراض السكري وضغط الدم وبعض الأمراض الخبيثة التي لا توجد إلا في الدول الصناعية المكتظة بالسكان، وفيها نسبة عالية جداً من الولادات "المشوهة" أو المعتلة.ولم تعد دراسات الارتباط بين العاهات الوراثية والبيئة فعل شطارة أو تنجيم، بل أصبحت عمليةعلمية محسوبة.
هذه أرض يأجوج ومأجوج في الخليج: بنايات عمودية وغابات من الاسمنت المسلح تتكاثر، تتجمع حولها أكوام من الحديد التي تسمى سيارات بلا مرائب تختفي فيها. وتعيش غالبية الناس على شريط ساحلي ضيق، ولا توجد مساحات للتوسع الأفقي، وتتحمل البيئة أضعاف ما استعدت له من الضغوط الإنسانية والصناعية، وتستقبل مطلع كل فجر أقواماً قادمين من بقاع الأرض، بعضهم لم يسمع في حياته ما هي شروط النظافة أو ماذا يعني الاستحمام المنظم!
فيدراسة نشرت منذ سنوات في "مجلة العلوم الاجتماعية الكويتية"، دلل الكاتب على علاقةالتلوث بأسعار المنازل في مدينة خليجية هي جدة. فقد أصبحت البيانات الإحصائية تشير إلى ارتفاع نسب تلوث الهواء بأوكسيد الكبريت وأوكسيد النيتروجين في المنطقتين الجنوبية والجنوبية الشرقية من هذه المدينة. هذا الارتفاع يرجع إلى وجود مصفاة جدة، والمنطقة الصناعية، ومحطات توليد الطاقة الكهربائية. ونظراً الى ما لهذه الملوثات من آثار سيئة على الإنسان والبيئة التي يعيشفيها، فإن هناك فرقاً ملموساً في الأسعار بين الوحدات السكنية التي تقع في شمال جدة وتلك التي تقع في جنوبها، فالبيئة هنا تؤثر في الاقتصاد الوطني أيضاً.
وفي عدد من مدن الخليج تنبعث من بعض الشوارع روائح تؤثر على البيئة والسكان، فيهجر البعض إلى مناطق أخرى، ويضطر البعض الآخر إلى أن يعيش تحت وابل من تلك الروائح التي تتسبب في اعتلال الصحة وتعكير المزاج معاً. إن الأخبار التي تنقلها الصحف عنالروائح التي تغطي بعض مناطق الكويت، ومنها "إصابات وحالات حرجة" نقلتها "جريدة القبس" على سبيل المثال بتاريخ 26 و27 أيار (مايو) 2002، تظهر الحالة الخطيرةللتلوث الذي رصدته أيضاً بعض التقارير الدولية والمحلية.
لا يجادل أحد أننا لا نعيش في أرض يأجوج ومأجوج بالمعنى المجازي أكثر مما يصور التراث أنها مزدحمة وفوضوية. ومع ذلك كله فإننا نبني مدناً جديدة ونستورد سيارات جديدة ونستقدم عمالة جديدة مختلفة في الثقافة، ونسلمهانظافة الشوارع والمستشفيات وإعداد وجبات الأكل وقيادة السيارات، وحتى تربية الأبناء والبنات.
إن الكوارث البيئية تسبقها علامات الإنذار، وعلامات الإنذار في الكويت تكاثرت في السنوات الأخيرة الى درجة تثير العاقل وتنبه الغافل، ومن المهم والضروري أن نستعجل جلاء هذا الموضوع الإنساني والصحي والحضاري، وألا يبقى شعبنا عرضة للتلوث من مختلف المصادر.
إن الموضوع البيئي هو موضوع الساعة على المستوى العالمي. أحزاب "الخضر" في أوروبا تقوى سياسياً وتشارك في الحكومات لأنها اهتمت بالبيئة وصحة الإنسان. والموضوع البيئي هو أكثر إلحاحاً في الخليج منه في أية بيئة أخرى، والكويت بالذات هي الأكثر تضرراً.
لا تتوقف محاربة التلوث على استصدار تشريعات، أو عمل لجان، فأدواتها اقتصادية تشريعية نشر الوعي، وهي مدّخلات متشابكة تحتاج إلى أجهزة مستقلة غير خاضعة للضغط السياسي أو الاجتماعي.
محمد الرميحي كاتب كويتي