كريس نايلور (بيروت)
يستضيف لبنان أعداداً كبيرة من الطيور المهاجرة في فصلي الربيع والخريف، نظراً لموقعه كأحد أهم الطرق التي تسلكها هذه الطيور. وهي في معظمها تواصل رحلتها عبر الأجواء اللبنانية، في أسراب كبيرة أو منفردة، من دون أن يتنبه لها أحد، لأنها غالباً ما تطير تحت جنح الظلام. لكن الكثير منها يحتاج الى التوقف ليستريح ويروي ظمأه ويتغذى.
لو تخيلنا أن الطيور تسلك "طريقاً سريعاً"، لكانت بحاجة الى "محطات خدمة" لكي تتزود بـ"الوقود" قبل متابعة سيرها. ومستنقع عميق في البقاع الغربي هو من الأماكن "الطبيعية" القليلة المتبقية حيث تستطيع الطيور تلقّي هذه الخدمة، لأن أجزاء كبيرة من لبنان باتت مأهولة أو تستغل زراعياً بكثافة أو يمارس فيها الصيد العشوائي. ويضجّ مشهد الحياة البرية في عمّيق بالحيوية في الربيع، حين تحوم في الأجواء ألوف طيور اللقلق والكركي والبجع وغيرها، أو تجوب الحقول المغمورة بالمياه حول المستنقع بحثاً عن الضفادع والجنادب لتتغذى أو احتماء من الرياح الربيعية المصحوبة بالمطر.
كان مستنقع عميق يقدم هذه الخدمة منذ ملايين السنين. ومن الأسباب التي جعلت منه "محطة" جيدة احتواؤه على تشكيلة من الموائل يقدم كل منها المأوى والطعام لأنواع مختلفة من الطيور. فبرك المياه المكشوفة توفر ملاذاً للبط والغرَّة ودجاج الأرض. والحقول المغمورة بالمياه تؤوي الطيور المخوِّضة. وتلوذ بغابات القصب أنواع كثيرة من الطيور المغردة، ومنها أزرق العنق ذو الجمال اللافت، في حين تجثم النسور والعقبان والصقور على صفوف الأشجار.
مستنقع عميق جنة للطيور ومقصد لهواة مراقبتها، وقد سجل فيه أكثر من 244 نوعاً منها. لكنه أيضاً زاخر بالفراش (53 نوعاً) والزواحف (15 نوعاً) والبشّارات (54 نوعاً) والثدييات (22 نوعاً). ورغم وجود 4 أنواع فقط من البرمائيات، فان كثرة أعدادها تعوض بعض النقص. وثمة أوقات يصعب فيها السير دون أن يدوس زائر المستنقع عدداً من الضفادع.
قد يعجب المرء من غزارة هذه الأرقام، ولعله ليس في لبنان موقع آخر يحوي مثل هذا التنوع. ولكن من المهم الا ننسى أن كل نوع هو مدهش في ذاته، من الضبع المخطط النادر الى السمندل الناري القزحي الألوان والسلاحف اللطيفة والفراشات السنونية الخلابة.
وكما هي الحال في معظم المناطق اللبنانية، تعرَّض مستنقع عميق لتغيير كبير في الماضي القريب. كان في يوم من الايام يغطي عشرات الكيلومترات المربعة، لكن سنين من تصريف المياه وتوسيع الرقعة الزراعية أبقت ملاذاً لا تزيد مساحته على ثلاثة كيلومترات مربعة. ثم ان الحرائق غير المنضبطة والرعي الجائر والصيد العشوائي قلصت فائدة المستنقع للحياة البرية. والبرك الطبيعية التي كانت مستجمعات دائمة للمياه في الماضي باتت تجف في فصل الصيف، مما حول المستنقع خلال السنوات الثلاثين المنصرمة الى أرض رطبة موقتة.
واستمر الوضع على هذه الحال حتى انطلاقة مشروع لحماية المستنقع، تشارك فيه عائلة سكاف الملاّكة في المنطقة ومنظمة "أروشا لبنان". ويجري العمل منذ 1996 على عكس الأضرار الحاصلة. ومن خلال برنامج للدراسات العلمية، أجري مسح إحصائي لكثير من الأنواع النباتية والحيوانية، وبدأ تحليل تعقيدات هيدرولوجيا المستنقع. وتوضع حالياً خطة لادارة المحمية تنظم رعي الأغنام والماعز، وأعيد توطين جاموس الماء الذي يرعى بطريقة أكثر ملاءمة لسلامة المستنقع. وضمن عناصر الخطة مكافحة الحرائق ومنع الصيد والحد من تصريف مياه البرك. وساهم آل سكاف بزيادة المساحة المغمورة بالمياه عبر تحويل الحقول الى غابة من القصب ومرعى مائي تستفيد منهما الحياة الفطرية المحلية. وثمة مباحثات لاضفاء "وضع قانوني" على مستنقع عميق بحيث يصبح أول محمية وطنية على أراض خاصة.
وقد أعد فريق "أروشا" برنامجاً للتثقيف البيئي يقرّب عجائب الخلق الى طلاب المدارس والجامعات الذين يزورون المستنقع لتمضية يوم من العمل الميداني. فيراقبون الطيور بالمنظار، ويحددون الأنواع التي تلوذ بغابات القصب، ويخوضون في البرك لاستكشاف يرقات الخنافس وفراخ الضفادع والأسماك في عالمها المذهل تحت المياه.
هكذا يدركون أنهم مسؤولون عن تأدية دور واجب لحماية مخلوقات الله الرائعة.
كريس نايلور ممثل منظمة "أروشا" في لبنان. ويمكن التعرف على نشاطات المنظمة من موقعها على الانترنت www.arocha.org
|