بقلم محمد عبدالفتاح القصّاص
مجلَّد مصوَّر يستكشف 22 موقعاً طبيعياً في العالم العربي، في نصوص موجزة ومئات الصور الملوَّنة
النظرة المتعجلة على خريطة العالم ترى النطاق العربي الممتد من المحيط الأطلسي الى الخليج العربي صحارى قاحلة، إلا في واحات قليلة في أحواض الأنهار ومناطق الجبال. والصحارى تلفت النظر بلون الجفاف الأصفر الذي يبدو على نمط واحد ووتيرة لا تثير. لكن "كتاب الطبيعة" لنجيب صعب، البسيط في عرضه، يرد على هذا النظر المتعجل، ويأخذ بيد القارئ الى مواقع للتنوع البيئي والثراء الاحيائي، ويدله على مواطن للجمال والروعة في كل ركن من أركان هذا النطاق الواسع والزاخر بتراثه الطبيعي، كما هو زاخر بتراثه الحضاري.
كان أهل النطاق العربي القدامى يرون في الصحارى الممتدة على مدى رحلات الشتاء والصيف ظواهر من أشكال الأرض وتكاوين السطح، يجعلون منها معالم للطريق ومواقع لذكريات اللقاء والوداع. كانوا من قربهم من الأرض في رحلات السفر على الجمال يلحظون النبات وهو يتغير في مراحل النمو وفي مواسم السنة، وكيف يكون اذا جاد المطر على الأرض، وكيف يكون اذا شح المطر وجفت الأرض. كانوا يذكرون في أشعارهم، التي هي سجل حياتهم، أنواع النبات وصفات كل منها ـ اللون والشذى والنغم الذي يخرج اذ يتمايل النبت مع النسيم ـ ويذكرون أنواع الحيوان وصفاته في السكون والحركة. الأدب العربي زاخر بكل هذا الثراء البيئي والأحيائي، الذي يعرفه من كان على الصلة الحميمة بالطبيعة وعناصرها، وأُلفته لصيقة بما تزخر به من تنوع الموائل وتنوع الكائنات. وكان النبات البري مادة الدواء والرقى.
لما تغير الزمان، وأصبحنا من سكان الحضر في المدن الحديثة ذات العمائر الشاهقة وطرق الاسفلت، حرمنا من تلك العلاقة الحميمة، وفقدنا تلك المعارف الممتعة التي ألهمت الشعراء. و"كتاب الطبيعة" يحدثنا عن مساعي بعض الدول العربية الى أن تجعل في قلب المدن وفي أطرافها وفي النطاقات بين المدن غابات وحدائق تجمع بين نمو النبات والحيوان. بذلك تكون البيئة التي تعيد للانسان صلته بالطبيعة. هذا أمر يجمع بين الثقافة والمتعة، ويُصلح في نفس الانسان عناصر تتضرر بحياة المدن المكتظة.
كان العرب في ربوع شبه الجزيرة جميعاً أول من أقام الأحمية، وهي مواقع من الأرض غير مباحة للرعي الجائر وتقطيع الشجر وقتل الحيوان من دون ضابط. وقد بقيت أراضي الحمى في الحجاز وبلاد الشام على مدى الزمان، قبل الاسلام وحتى القرن التاسع عشر. ثم تغير الزمان وذهب بها. وهذا الكتاب يدلنا على أن الدول العربية بدأت تعود الى هذا التراث القديم لتجدد عهده. ها هي المحميات الطبيعية في كل ربع، وها هي مراكز تربية الانواع المهددة بالانقراض وإكثارها وإعادتها الى مواطنها الأصلية. الكتاب يشير الى نماذج من هذا العَوْد الأحمد الى العناية بالتراث الطبيعي، والى المؤسسات الحكومية التي تنهض بهذا العمل الحضاري البارز.
لا يقتصر العمل في صون التراث الطبيعي على الهيئات الحكومية، انما يدلنا الكتاب على أن الهيئات الأهلية تنهض بدورها وتشارك الهيئات الحكومية في العمل. هذه مسألة هامة، لأن النجاح المحقق في رعاية الطبيعة يكون بالمشاركة الأهلية وتأييد الناس وإقبالهم على العون في التخطيط وفي التنفيذ. والتجربة الاردنية رائدة في هذا المجال.
تدلنا فصول الكتاب الموجزة على أن الصون يمتد من البر الى البحر، لأن البحار تزخر بثراء أحيائي عظيم، خاصة في النطاقات الشاطئية. للبلاد العربية شواطئ على محيطات وبحار عديدة ومتباينة: البحر المتوسط في اقليم المناخ المعتدل. والبحر الأحمر يمتد من الشمال الى الجنوب في اقليم دافئ، ويمثل دهليزاً يصل المحيط الهندي الدافئ في الجنوب والبحر المتوسط المعتدل في الشمال. وبحر العرب جزء من المحيط الهندي. وشواطئ الأقاليم العربية الغربية (المغرب وموريتانيا) جزء من الاطلسي. هذا التنوع البيئي والاتساع الجغرافي يجعل للثراء الأحيائي البحري أهمية خاصة. والكتاب يشير الى بعض هذا.
الصيد والقنص من الرياضات التي عُني بها العرب، وهي رياضة ذات تقاليد وتعتمد على ما يتذرع به الانسان من دربة وقوة واحتمال، وما يعتمد عليه من الخيل والصقور والكلاب. هذه جميعاً كانت عناصر للفروسية والرياضة. وكانت تأخذ من الحيوان البري العدد المحدود الذي يرضي الصياد دون أن يدمّر جملة الحيوان. لكن دورة الزمان وضعت بين أيدي الناس بنادق سريعة وسيارات جعلت من الصيد أداة تدمير، وسلبته متعة الرياضة، فبات أداة حصاد مهلك. سبّب ذلك فقد العديد من الأنواع البرية التي هي جزء من تراث الامة، وأصبح علينا أن نعمل على رد هذا الدمار. الكتاب يشير الى مساع عربية لاحياء تربية الصقور، والعودة الى الصيد ـ الرياضة، كما يشير الى مساع عربية لاعادة الأنواع التي اندثرت أو كادت تندثر.
يعتمد الكتاب على كلمات موجزة وصور معبرة، كأنه وهو يقول للقارئ القليل، يدعوه الى النظر الى الصور ليرى فيها الكثير فيقول لنفسه ما سكت عنه الكتاب، ويستوعب من الصور معارف ودروساً يستخلصها لنفسه. ومن المحقق أن كل قارئ سيرى أشياء غير التي لحظها القارئ الآخر، وهذا فرق بين الكلام المكتوب في النص وما يستخلصه الانسان بالنظر. تلك متعة اضافية لهذا الكتاب المصور. انه ليس كتاباً تعليمياً يلقن القارئ المعارف، انما هو كتاب يحفز القارئ على تبيّن المعارف في الصيغ المناسبة لذاته.
ليس الكتاب حصراً للمحميات الطبيعية في البلاد العربية، ولا هو توثيق للجهود والمشروعات التي تنهض بها الدول والمؤسسات العربية في مجالات حماية البيئة وصون التنوع الاحيائي، انما هو عرض لنماذج من هذا كله، ويدل على أن البلاد العربية جادة في الاسهام في الجهد العالمي لحماية البيئة وصون التنوع الاحيائي، وهو الجهد الذي عبّرت عنه عدة مواثيق دولية التزمت بها دول العالم. هذا الاسهام العربي في المساعي الدولية يستحق الترحيب والثناء، ونحن نطلب المزيد لتعويض ما فات وما ضاع.
للاقليم العربي مسؤولية خاصة في هذا المجال، اذ يقع فيه واحد من أهم مراكز النشأة للمحاصيل الرئيسية وعلى رأسها القمح. يقع هذا المركز في نطاق الهلال الخصيب (الذي يمتد في سورية والاردن ولبنان وفلسطين وغرب العراق وجنوب تركيا). لا تزال الاقارب البرية لهذه المحاصيل ضمن التنوع النباتي البري في هذا النطاق، وتحمل صفات وراثية هامة يفيد منها مربو الاصناف في استنباط السلالات الجديدة. صون هذه الثروات الوراثية يستحق الاهتمام الخاص في اطار مسؤوليتنا تجاه العالم.
هذا الكتاب الفريد جزء من جهود التنوير والتثقيف التي تبذلها دار "البيئة والتنمية"، وقد تحوّلت بحق الى مؤسسة بيئية عربية. إنها نقاط مضيئة في الليالي المدلهمة، لأنها ـ على نحو ما يقول هذا الكتاب ـ إشارات الى ما يبعث الأمل من الأعمال الجادة والجهود الموفقة في حماية البيئة والتراث الطبيعي، ليكون لنا ولأجيال من الأبناء والأحفاد تأتي من بعدنا.
كتاب الطبيعة، لنجيب صعب، صدر عن المنشورات التقنية. ص.ب 5474-113 بيروت، لبنان. هاتف 742043-1(961+)، فاكس 346465-1(961+).