يحوي العالم كثيراً من المياه العذبة، لكنها ليست موزعة بالتساوي. وفي ظل سوء الادارة ومحدودية الموارد والتغيرات البيئية، ما زال نحو خُمس سكان العالم يفتقرون الى مياه شفة مأمونة، و40 في المئة يفتقرون الى خدمات النظافة الأساسية بما فيها مياه الاستعمال ومرافق الصرف الصحي.
"المياه مسؤولية مشتركة" هو عنوان تقرير الأمم المتحدة حول تنمية الموارد المائية في العالم الذي تم إطلاقه في 22 آذار (مارس) 2006 يوم المياه العالمي، وذلك خلال مؤتمر المياه العالمي الرابع الذي عقد في العاصمة المكسيكية. ويصدر التقرير كل ثلاث سنوات، ويعتبر أشمل تقييم لموارد المياه العذبة في العالم. وقد ركز إصداره الثاني هذا، الذي هو ثمرة عمل مشترك لـ24 وكالة تابعة للأمم المتحدة وهيئات دولية أخرى على أهمية الحكمية في ادارة الموارد المائية ومكافحة الفقر.
يقول التقرير ان نظم الحكمية "تحدد من يحصل على أي ماء، ومتى، وكيف، ومن له الحق في المياه والخدمات المتعلقة بها". وهذه النظم ليست مقصورة على الحكومة، بل تشمل السلطات المحلية والقطاع الخاص والمجتمع المدني. كما تشمل مجموعة قضايا لها علاقة وثيقة بالمياه، من الصحة والأمن الغذائي الى النمو الاقتصادي واستعمال الأراضي وصون النظم الايكولوجية الطبيعية التي تعتمد عليها مواردنا المائية.
فعلى رغم تحقيق تقدم جوهري ومطرد في قطاع المياه، ووفرة المياه العذبة على النطاق العالمي، فان تقديرات برنامج المراقبة المشتركة لمنظمة الصحة العالمية واليونيسف تشير الى أن 1,1 مليار نسمة ما زالوا يفتقرون لامدادات كافية من مياه الشفة، ونحو 2,6 مليار يفتقرون الى تمديدات صحية أساسية. وهؤلاء الأشخاص هم من بين الأفقر في العالم. ويعيش أكثر من نصفهم في الصين والهند.
واذا استمر التقدم بالمعدل الحالي، فان مناطق مثل تلك الواقعة جنوب الصحراء الافريقية الكبرى لن تفي بهدف الأمم المتحدة الانمائي للألفية الذي يقضي بخفض نسبة المحرومين من مصدر مستدام لمياه الشفة المأمونة الى النصف بحلول سنة 2015. أما الهدف الانمائي للألفية الذي يقضي بخفض نسبة المحرومين من خدمات نظافة أساسية الى النصف بحلول سنة 2015، فلن يُستوفى عالمياً اذا استمرت الاتجاهات الحالية. ويرى التقرير أن "سوء الادارة والفساد وغياب المؤسسات الملائمة والجمود البيروقراطي ونقص الاستثمارات الجديدة في بناء القدرات البشرية والبنية التحتية المادية" مسؤولة الى حد كبير عن هذا الوضع.
حين لا يتوافر المياه
سوء نوعية المياه هو سبب رئيسي لسوء المعيشة والصحة. فعلى الصعيد العالمي، قتلت الأمراض الاسهالية والملاريا نحو 3,1 مليون شخص عام 2002، نحو 90 في المئة منهم أطفال تحت سن الخامسة. ويمكن انقاذ حياة ما يقدر بـ 1,6 مليون شخص سنوياً من خلال تأمين مصادر مياه شفة مأمونة وخدمات نظافة وصرف صحي.
وتتراجع نوعية المياه في معظم المناطق. وتشير الدلائل الى أن تنوع الكائنات الحية والنظم الايكولوجية للمياه العذبة يتدهور بسرعة، وغالباً أسرع من النظم الايكولوجية الأرضية والبحرية. والدورة الهيدرولوجية التي تعتمد عليها الحياة تحتاج الى بيئة سليمة لكي تؤدي وظائفها.
وفي التقرير أن90 في المئة من الكوارث الطبيعية لها علاقة بالمياه، وهي في تزايد، وكثير منها ناجم من سوء استعمال الأراضي. والجفاف المأسوي والمتفاقم في شرق افريقيا، حيث تم اجتثاث مساحات شاسعة من الغابات لانتاج الفحم وحطب الوقود، هو مثال صارخ. والوضع الذي بلغته بحيرة تشاد في افريقيا، حيث تقلصت بنحو 90 في المئة منذ ستينات القرن العشرين، وسببه أساساً الرعي الجائر وتعرية الغابات ومشاريع الري الكبرى غير المستدامة. ويعيش حالياً شخصان من كل خمسة أشخاص في مناطق معرضة للفيضانات وارتفاع مستويات البحار. ومن المناطق الأكثر تعرضاً للخطر بنغلادش والصين والهند وهولندا وباكستان والفيليبين والولايات المتحدة والبلدان النامية القائمة على جزر صغيرة. ويشدد التقرير على أن أنماط تغير المناخ ستزيد من تفاقم الوضع.
ويتوقع أن يحتاج العالم الى طعام أكثر بنسبة 55 في المئة بحلول سنة 2030، مما يعني تزايد الطلب على الري الذي يستأثر بنحو 70 في المئة من كل المياه العذبة المستهلكة لاستخدامات بشرية. وقد ازداد انتاج الغذاء كثيراً خلال السنوات الخمسين المنصرمة، ومع ذلك فان 13 في المئة من سكان العالم (850 مليون نسمة، معظمهم في مناطق ريفية) ما زالوا يفتقرون الى ما يكفيهم من طعام.
سنة 2007، سيقيم نصف البشرية في مدن متوسطة وكبيرة. وسترتفع هذه النسبة الى نحو الثلثين بحلول سنة 2030، ما يؤدي الى زيادات كبيرة في الطلب على المياه في المناطق المدينية. وسيقيم نحو مليارين من هؤلاء في مستوطنات وأحياء بؤس عشوائية. وفقراء المدن هم الأكثر معاناة من انعدام المياه المأمونة وخدمات النظافة والصرف الصحي.
ويفتقر مليارا شخص في البلدان النامية حالياً الى أشكال موثوقة من الطاقة. والماء مورد رئيسي لتوليد الطاقة الضرورية للنمو الاقتصادي. وتستغل اوروبا 75 في المئة من امكانات الطاقة المائية المتاحة لها. أما افريقيا فلم تطور الا 7 في المئة من إمكاناتها، وما زال 60 في المئة من سكانها يفتقرون الى الكهرباء.
رشاوى وهدر وفساد
في أماكن كثيرة من العالم، تضيع كميات ضخمة من المياه تراوح بين 30 و40 في المئة أو أكثر، نتيجة تسربات من الأنابيب والقنوات وتمديدات غير مشروعة. ورغم عدم وجود أرقام دقيقة، يقدر أن الفساد السياسي يكلف قطاع المياه ملايين الدولارات كل سنة ويقوّض الخدمات المائية، خصوصاً للفقراء. ويستشهد التقرير باستطلاع أجري في الهند، حيث تبين أن 41 في المئة من المشاركين قدموا رشاوى صغيرة لتزوير قراءات العدادات، ودفع 30 في المئة مبالغ لتسريع أعمال الاصلاح، ودفع 12 في المئة مبالغ لتسريع الحصول على تمديدات جديدة للمياه والصرف الصحي.
وكانت خطة جوهانسبورغ التنفيذية، التي تبناها مؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة عام 2002، دعت دول العالم الى تطوير ادارة متكاملة للموارد المائية وخطط للاقتصاد في استهلاك المياه بحلول سنة 2005. ويشير التقرير الى أن نحو 12 في المئة فقط من البلدان فعلت ذلك، رغم أن الكثير منها باشر هذه العملية.
الموارد المالية المخصصة للمياه في ركود أيضاً. فبحسب التقرير، بلغ مجمل "المساعدة الانمائية الرسمية" لقطاع المياه خلال السنوات الأخيرة قرابة 3 مليارات دولار في السنة، اضافة الى 1,5 مليار في شكل قروض، خصوصاً من البنك الدولي. لكن نسبة صغيرة جداً (12 في المئة) من هذه الأموال وصلت الى من هم في أمس الحاجة اليها. ولم يتحول إلا نحو 10 في المئة لدعم تطوير السياسات والخطط والبرامج المائية.
يضاف الى ذلك تراجع استثمار القطاع الخاص في الخدمات المائية. فخلال تسعينات القرن العشرين، أنفق هذا القطاع ما يقدر بـ25 مليار دولار على امدادات المياه والصرف الصحي في البلدان النامية، معظمها في أميركا اللاتينية وآسيا. لكن كثيراً من شركات المياه الكبرى المتعددة الجنسيات باشرت الانسحاب أو تخفيض حجم عملياتها في العالم النامي بسبب المخاطر السياسية والمالية المرتفعة. ورغم أن أداءها كثيراً ما فشل في تلبية توقعات حكومات البلدان النامية والبلدان المانحة، يشدد التقرير على أنه "سيكون من الخطأ" تغييب القطاع الخاص، معتبراً أن الحكومات التي تعاني من ضغوط مالية ووهن في الأنظمة "هي بديل ضعيف للتصدي لسوء ادارة الموارد المائية وتقصير الخدمات المائية".
لقد ازداد استهلاك المياه ستة أضعاف خلال القرن العشرين، أي ضعفي معدل النمو السكاني. ويقول التقرير ان القدرة على تلبية الطلب العالمي المتزايد باستمرار سوف تعتمد على حسن حكمية الموارد المتاحة، التي يجب أن تشمل مؤسسات وافية وطنياً واقليمياً ومحلياً، وأطراً قانونية قوية وفعالة، وموارد بشرية ومالية كافية. وتتطلب الحكمية الجيدة أيضاً "حريات أساسية، مثل حرية التعبير والحق في التنظيم"، كما يقول التقرير الذي يشدد على أنه "اذا تعذر على المواطنين الوصول الى معلومات أساسية حول نوعية المياه وكميتها، فان ذلك سيحد على نحو خطير من قدرتهم على وقف المشاريع المائية غير السليمة بيئياً أو مساءلة الجهات الحكومية المعنية".
كادر
مياه العرب
لا توجد منطقة في العالم تندر فيها المياه مثل الشرق الأوسط وشمال افريقيا. ويزيد المشكلة حدة نقص التعاون بين الدول الـ22 التي تتقاسمها، والنزاعات والفشل في ادارة مواردها المائية المحدودة. فمن موريتانيا غرباً الى شبه الجزيرة العربية شرقاً تغطي الصحارى 87 في المئة من أراضي هذه المنطقة، كما أفاد تقرير المجلس العربي للمياه الذي عرض على منتدى المياه في مكسيكو الشهر الماضي.
وتعتمد المنطقة بنسبة 50 في المئة على مياه الأنهار التي تنبع من خارج حدودها مثل النيل ودجلة والفرات، وهو وضع هش يؤثر عليه كثيراً عدم الاستقرار السياسي والنزاعات التي تعرقل تنمية البنى التحتية المائية كما يشير التقرير.
في شبه الجزيرة العربية، توفر "بحيرة" المياه الجوفية أكثر من 80 في المئة من الموارد الطبيعية للمياه، الا انها باتت مهددة نتيجة الافراط في استخراج مياهها وزيادة نسبة ملوحتها. ويزداد الاعتماد على تحلية مياه البحر، وهي عملية مكلفة جداً. وفي عام 2002 وحده استثمرت المملكة العربية السعودية 7 في المئة من عائداتها النفطية في قطاع المياه (3,4 مليار دولار). وتملك دول مجلس التعاون الخليجي اعلى معدل وصول الى مياه الشرب، أما أضعفها فهي الصومال وفلسطين واليمن.
وتعتبر الكويت الأعلى عالمياً في معدلات الاستهلاك، مع أنها من أفقر الدول مائياً، اذ يصل متوسط استهلاك الفرد فيها الى 500 ليتر يومياً.