أعلنت جميع الدول العربية اتخاذها تدابير احترازية لمنع وصول انفلونزا الطيور وانتشاره، من مراقبة الطيور المهاجرة ومنع استيراد الدواجن من البلدان الموبوءة الى إعدام الدواجن المصابة وشراء جرعات أدوية لمعالجة اصابات بشرية. لكن، بعد ظهور الوباء في العراق ومصر، تواجه السلطات العربية أزمة ثقة بشفافية بياناتها حول خلو البلاد من انفلونزا الطيور وصحة استعدادها لمواجهة وباء محتمل
إبَّان ذروة الهلع التي صاحبت إعلان اكتشـاف إصابة طيـور مصرية بفيروس H5N1 في 17 من شباط (فبراير) 2006، توقفت ذات صباح لأشـتري دواءً. فجأة اقتحمت الصيدلية حمامة بيضـاء حطَّـت على أحد الرفوف، وكانت تترنَّـحُ كمخمور. وبـلا أدنى ذرة من تردد، أخرجت منديلي ووضعته على أنفي وفمي، وانطلقت خارجاً من الصيدلية، تاركاً الصيدلاني يواجه مأزق التعامل مع الحمامة واحتمال أن تكون مريضة بالإنفلونزا المرعبة أو حاملةً للفيروس القاتل.
لم يكن سلوكي إلاَّ تجسيداً لحالة الهلـع التي تسود العالم كله. حتـى الدول التي أعلنت أنها آمنـة من هذا الفيروس تعيش في ترقُّـب وحـذر. فاحتمال وصوله وارد رغم كل ما يمكن اتخاذه من إجراءات "رصـد" و"رقابة" و"حظـر"، وهي الكلمـات التي ترددت كثيراً في خطط وترتيبات الدول التي لم يزرها الفيروس وبينها معظم الدول العربية.
الوضـع حـرج للغـايــة، فقد أصبح انتشـار الفيروس يمثل "تهديداً عالميـاً" حســب ما أعلنه اجتماع لوزراء خارجية الاتحـاد الأوروبي. وفي 21 آذار (مارس) 2006 كشف خبراء في "المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض" في أتلنتا أن الفيروس تطور فعلاً الى سلالتين منفصلتين، مضيفين: "عام 2003 كان لدينا فيروس واحد من سلاسة H5N1 يمكن أن يسبب وباء انفلونزا بشرياً، والآن لدينا اثنان". الفيروس لم يكتشف بعد في الولايات المتحدة، لكن خبراء ومسؤولين توقعوا وصوله الى السواحل الأميركية هذه السنة.
شهدت البشرية على مدى الثلاثمئة عام الماضية عشـر هجمات وبائية من انفلونزا الطيور، أهمها الانفلونزا الإسبانية التي انتشرت عام 1918 وراح ضحيتها 50 مليون إنسـان، والانفلونزا الآسيوية عام 1957 وانفلونزا هونغ كونغ عام 1968 وقضت كل منهما على مليون إنسـان. ومع اكتظـاظ الأرض بسكانهـا (حاليـاً نحو 6,4 مليارات نسمة) فإن موجة معتدلة من هذا الوباء يمكن أن تقتل عدة ملايين من البشـر. وتفاوتت تقديرات الخسائر بصورة ملفتة، إذ توقع نفر من الخبراء أن يتراوح عدد ضحايا الهجمة الحالية للفيروس بين مليونين وخمسين مليوناً إذا ما انتشـر الوباء.
كيف أقتل دواجني؟
يقول واقع الحال ان السؤال الآن ليس ما إذا كان وباء انفلونزا الطيور سيصيب البشر، وإنما متى سيحصل هذا، وهل نحن قادرون على التعاطي معه؟
من راقب الأحداث في الشهور القليلة الماضية يلمس أن استجابة البشر في كل دول العالم، غنيها وفقيرها، لم كن على النحـو المرجو، وثمة أوجه قصـور عديدة قد ينفذ منها الوباء. حتى معظم الدول الأوروبية غير مستعدة بما فيه الكفاية، ففضـلاً عن الأدوية والأمصال هناك بنود أخرى يجب أن تُســتوفى، مثل مدى استيعاب المستشفيات للحالات المصابة، ففي حالة انتشـار الوباء سيلزم عزل المصابين كي لا تنتشر العدوى.
وفي مصـر، عندما انتقد النائب البرلماني شريف عمر استعدادات وزارة الصحة، وهو طبيب، وتساءل في جلسة 21 شباط (فبراير) الماضي في مجلس الشعب هل المستشفيات جاهزة لحالة انتشار وبائي للمرض، تصدَّى له رئيس لجنة الصحة في المجلس مؤكداً أن الوزارة "مستعدة تماماً"، وأضاف واثقاً إن المرض لو انتشـر بين البشـر "لن يكون وباءً" بل حالات محدودة! ونحن نشك كثيراً في صحة ما تفضل به رئيس اللجنة، فكلنا يعرف أن معظم المستشفيات الحكومية المصرية عاجز عن تقديم الخدمات الصحية للمواطنين في الظروف الاعتيادية، فما بالك عند وقوع الواقعة وانتشـار الوبـاء، الذي يستبعد رئيس اللجنة الصحية حدوثه، من دون سند علمي.
ومن ردود الأفعال لجوء الإدارات الصحية والأمنية في كثير من البلدان التي ضرب فيها الفيروس H5N1 الى إعدام أعداد كبيرة من الطيور الداجنة، مريضة كانت أو مشكوكاً في صحتها أو حتى سليمة. فتخلصت الصين من تسعة ملايين طائر داجن خلال سبعة أسابيع من بداية ظهور الإصابة بالفيروس. وفي العراق، أطلقت السلطات في شباط (فبراير) الماضي حملة للتخلص من الطيور الداجنة ضمن دائرة شعاعها 15 كيلومتراً ومركزها مدينة السليمانية في كردستان، التي ثبت وصول الفيروس إليها وانتقاله من الطيور إلى عدد من السكان. وبعد تزايد الاصابات في اسرائيل والأراضي الفلسطينية، أعلن الأردن اصابة دجاج في منطقة عجلون، وأن قطاع الدواجن يخسر مليون دينار يومياً (1,3 مليون دولار) وهو مهدد بالانهيار الكلي. وفي لبنان، أكد رئيس الوزراء فؤاد السنيورة عدم وجود أي اصابة، مشيراً الى حصول "إتلاف اقتصادي" لكمية من الدجاج عوّضت الحكومة على أصحابها. وقال وزير الزراعة طلال الساحلي: "لبنان محاط بالمرض من دول مجاورة، ما يعني أننا في دائرة لا نحسد عليها".
وفي مصر، دعا وزير الزراعة الى التخلص من الطيور التي تربى عشوائياً في المنازل وعلى السطوح. وانطلقت حملات محمومة شاركت فيها قوات الأمن المركزي، تطارد زرائب الدجاج وأبراج الحمام، وتم إعدام ملايين الطيور المنزلية ودواجن المزارع الانتاجية. وفرضت الحكومة غرامة عشرة آلاف جنيه (1700 دولار) على كل من يثبت عدم التزامه بالتخلص من دواجنه المنزلية.
قالت لي إحدى قريباتي الريفيات: "كيف أقتل دواجني بيدي وبدونها يجوع أبنائي؟" على أي حال، سارع كثيرون للتخلص من دواجنهم خوفاً من الغرامة، وليس من العدوى!
ان إبادة الطيور في المناطق المصابة ليست العلاج الوقائي الوحيد. وقد أوصى الاتحاد الأوروبي في منتصف شباط (فبراير) بعزل مواقع الدواجن المصابة في حدود دوائر شعاعها 3 كيلومترات، مع إقامة منطقة مراقبة صارمة في محيط دائرة شعاعها 10 كيلومترات. استهدف الاتحاد الأوروبي من سياسة العزل هذه حماية ثروة اقتصادية، فلا تنهار صناعة تربية الدواجن تحت ضغط الخوف من الفيروس، كما حدث في مصر، أكبر منتج للدواجن في العالم العربي، حيث أعلنت شعبة الثروة الداجنة في البورصة المصرية أن حجم خسائر هذه الصناعة حتى منتصف شباط (فبراير) بلغ نحو 1,6 مليار جنيه (280 مليون دولار)، بمعدل 5،12 مليون جنيه (2,2 مليون دولار) في اليوم الواحد.
ومن ردود الأفعال المرتبطة بموجة الهلع إحجـام قطاعات كبيرة من الناس عن تناول لحوم الدواجن. وقد أعلن رئيس الوزراء المصري الدكتور أحمد نظيف أمام مؤتمر لجمعية شباب رجال الأعمال في 8 شباط (فبراير) الماضي أن حكومته عاجزة عن إقناع الناس بصدق ما تعلنه من خلو مصر من انفلونزا الطيور، حتى أنه يفكر في أن يظهر هو ووزارته في التلفزيون وهم يأكلون الفراخ. وقد فعلها نظيره المغربي محمد جطو اذ ظهر على الشاشة وهو يأكل فخذ دجاجة معدَّة في "طاجين" على الطريقة المغربية.
والواقع أن نظيف كان يعبر عن أزمة ثقة ورثها من حكومات سابقة افتقدت للصدق والشفافية. كما أنه لم يتحرَّ الدقة، فهو أكد أن مصر خالية من انفلونزا الطيور، في حين أن الفيروس موجود. وقد أعلن اجتياحه للبلاد بعد أيام فاعدمت ملايين الطيور الداجنة، وسرعان ما انتقل الى البشر فتوفيت ضحيتان في آذار (مارس).
إجراءات عربية
إن مراجعةً للأخبار والتقارير حول الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الإدارات الصحية والغذائية والأمنية العربية توضـح أن معظمها كان في حالة استرخاء، حتى اقترب فيروس الانفلونزا من الحدود العربية ودخل العراق ومصر واسرائيل. وتغلُـبُ على هذه الإجراءات صيغة فعل المستقبل، رغم أن الفيروس ظهر في جنوب شرق آسيا منذ شهور طويلة. فدعت جامعة الدول العربية ـ متأخرةً جداً ـ إلى عقد مؤتمر طارئ لوزراء الصحة والزراعة العرب في النصف الأول من آذار (مارس) لتدارس الإجــراءات الواجـــب اتخاذها. وعزمت السعودية على شراء عقار "تاميفلو" بمبلغ 6,6 مليون دولار، واعتمدت ثلاثة مختبرات للتشخيص، وبدأت حملة للقضاء على تجمعات الغربان في المدن. وفي الســودان لم تتحرك الادارة إلاَّ بعد أن ضرب الفيروس جارته الشمالية مصر، فأعلن حالة الاستنفار القصوى، ومنع وارداته من الدواجن المصرية وبيضها. وفي مصر، اتهم وزير البيئة بالتقاعس عن اتخاذ أي إجراء منذ عام، بينما الثابت أن مصر تقع في مسار هجرات الطيور البرية، وقد حصلت وزارته على 40 مليون دولار لاتخاذ تدابير وقائية بهذا الصدد.
تشابهت الإجراءات والتدابير الاحترازية في المشرق والمغرب العربيين، وتكاد لا تختلف إلا في صياغة البيانات: مراقبة مسارات الطيور المهاجرة واستراحاتها، حظر استيراد الدواجن من الدول المصابة، مراقبة الحدود والموانئ، شـراء الأدوية وتخزينها، تدمير وحدات إنتاج الدواجن المصابة بالفيروس وإعلان خطط طورائ. وقد التفتت الإدارات السعودية إلى إجراء مهم، هو إخلاء التجمعات البشرية في حالة انتشار الوباء، فأعدت خطة وطنية لذلك. كما أن الخطة الوطنية الإماراتية أعطت السلطات حق اللجوء الى القوات المسلحة في حال ظهور الوباء وفشل محاصرته خلال 24 ساعة.
وكشفت الأزمة عدم استعداد العراق، المنهك بمشاكله وانقساماته وأول دولة عربية يضربها الفيروس، لمواجهة احتمالات الانتشار الوبائي لانفلونزا الطيور بين البشر. ودعت سلطاته الصحية المنظمات الدولية إلى إعطائه الأولوية في توفير الأدوية. وصرَّح جمال عبد الحميد، وزير الصحة في حكومة إقليم كردستان، بأن الإجراءات الوقائية التي تتخذها السلطات الصحية غير فعَّالة، أمام عدد الإصابات التي تزداد في كردستان.
شر البلية ما يضحك
المشاهد ليست كلها كئيبة، فثمة جانب مضيء وفعل إيجابي عالمي، اذ اجتمعت الدول المانحة في الصين في كانون الثاني (يناير) الماضي، ووافقت على رصـد مبلـغ مليـاري دولار للحـد من انتشـار انفلونزا الطيور. وكان البنك الدولي طلب ملياراً ونصف مليار، ولكن يبدو أن الهلع العالمي حـرَّك فضيلة الكرم عند المانحين فأعطوا مليارين!
هل ثمة أمل في القضاء على الفيروس H5N1 قريباً؟ أكد بيان صادر عن منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة أن هذا ما زال أمراً بعيد المنال في المستقبل القريب. كما أعلن الدكتور برنار فـالا، المدير العام للمنظمة العالمية لصحة الحيوان، أن علينا الانتظـار ثـلاث سـنوات على الأقل حتى يمكن القضاء على الفيروس القاتل في أفريقيا. وهذا يعني، ضمناً، أن العالم كله سـيبقى مهـدداً طوال هذه الفترة، وإن نجحت الجهود في القضاء على البؤر الفيروسية التي اكتشـفت خارج القارة السوداء.
نقلت وكالة أنبــاء الشرق الأوسط المصرية في 23 شباط (فبراير) عن وزير الزراعة المصري أن الأزمة سـتزول تمامـاً بحلول النصـف الثاني من آذار (مارس)، وذلك بانتهـاء موســم عودة الطيور المهاجرة! قال صديقي معلقاً على الخبر المضحك: "لعله يعني أن الطيور سـتأخذ معها الفيروس وترحـل! أليس ثمة احتمال أن يكون الفيروس استقرّ لدينا وأعجبته الحـال؟"
صـدق ظـنُّ صديقي، وخابت، للأسف، توقعات وزير زراعة مصر. فأنا أنهي كتابة هذه السطور في 23 آذار (مارس)، وأمامي صحيفة الأهرام الرسمية، وفيها خبر كبير يعلن الاشتباه بأربع اصابات بشرية جديدة، بعد وفاة امرأة وشاب من مربي الدواجن مصابين بانفلونزا الطيور.
وأكد وزير الصحة حاتم الجبلي أن عدد المزارع المصابة ارتفع الى 43، وثمة 360 بؤرة في 19 محافظة من أصل 26. وقد تم إعدام ملايين الدواجن بعد اصابات واسعة النطاق بالفيروس الذي تخلف عن ركب الطيور المهاجرة.