شاعت في العراق مؤخراً ظاهرة انتشار القوارض في البيوت والحقول والمحال التجارية، متسببة في أضرار صحية وبيئية واقتصادية كبيرة. وأصبحت تسمع حكايات غريبة وطريفة كل يوم، يرويها الأقرباء والأصحاب والجيران والباعة. فهذا طفل استيقظ في منتصف الليل صارخاً متألماً من عضة جرذ. وذلك صبي ما زالت آثار قرضة الجرذ واضحة على أنفه. وهنا عجوز رفعت تفاحة من سلة بائع الفاكهة لتودعها الكيس، فاذا بفأر يقفز من تحتها ويحمل المرأة على الفرار وهي تولول.
يقال ان عدم توافر المقدار الكافي من النظافة، والانسدادات في شبكات المجاري، هي من أسباب كثرة القوارض. غير أن شيوع الظاهرة في المزارع والأسواق وحتى أبنية الدوائر الرسمية والمعامل يجعل البعض يجزمبأننا نواجه هجمة واسعة لا تعرف أسبابها. وهناك من يؤكد أن ضعف وسائل المكافحة هو السبب الرئيسي. ولعل ما يثير حيرة الناس أنهم مهما قتلوا من هذه الجرذان فان أعدادها في تزايد.
أخبرتنا أم نورس، وهي ربة بيت تسكن في منطقة الشعلة: ''لا يسعكم أن تتصوروا حجم المعاناة التي نعيشها أنا وأطفالي بسبب وجود الجرذان في بيتنا. فقد حاولنا مكافحتها كثيراً. وفي كل مرة نقتل جرذين أو ثلاثة، ولكن من دون فائدة اذ يظهر بعدها عدد أكبر. لا نعرف من أين تأتي، ربما من خارج البيت أو عن طريق شبكة الصرف الصحي القديمة''. وعن الأضرار، قالت إن الجرذان التهمت المادة العازلة للفرن، وقرضت المادة البلاستيكية لأسلاك الغسالة مما كاد يحدث تماساً كهربائياً لولا انتباه أهل البيت عن طريق المصادفة، هذا فضلاً عن قضم المفروشات والملابس.
وأضافت: "كل هذه الاضرار هينة أمام حالات الرعب التي تصيب الأطفال حين يرون أحجامها الكبيرة وأشكالها السوداء. صاروا يخشون الذهاب الى دورة المياه بعد أن خرج منها أحد الجرذان. وعندما نحس بوجودها في بعض الليالي نجتمع وننام في غرفة واحدة ونوصد كل المنافذ جيداً، ونترك لها بقية المنزل لتقضي سهرتها كيفما تشاء".
وروى لنا زهير علي من حي المأمون: ''في إحدى ليالي الصيف، وفيما أنا نائم مع عائلتي، سمعت صوتاً قريباً. فنهضت من فراشي وأنرت الغرفة. واذ تأكدت من وجود جرذ، أخرجت أطفالي على الفور وجلبت مادة الزرنيخ السامة ووضعتها على قطعة جبن. وبعد فترة قصيرة وجدته ميتاً في احدى الزوايا. ولكن ماذا لو هاجم احد أطفالي؟''
وتابع قائلاً: ''نحن في استنفار دائم، فأبواب البيت موصدة معظم الأحيان خشية دخول الجرذان علينا في أية لحظة آتية من بيوت الجيران أو الحدائق المنزلية أو من شبكة الصرف الصحي. وذات مرة حاصرتُ مجموعة منها في باحتنا الخلفية وقضيت على خمسة. ترى، اذا كنت وعائلتي نسكن في ما يعتبر منطقة راقية، فماذا عن المناطق الشعبية؟''
خسائر بالملايين
محطتنا الأخرى كانت ''أسواق جميلة'' وهي من أكبر المراكز التجارية في بغداد. هناك التقينا العديد من أصحاب المحلات والمتاجر الكبيرة للتعرف على معاناتهم في هذا الاطار. قال حسين علوان: "ان مسألة وجود القوارض في متاجرنا أصبحت طبيعية جداً، وقد اعتدنا عليها رغم ما تسببه لنا من خسائر كبيرة. فهي تسببت ولا تزال في إتلاف الكثير من البضائع، خصوصاً الغذائية والعلفية. وأعتقد أن السبب وجود محالنا في منطقة تعاني من قلة الخدمات، لا سيما أن منظومة الصرف الصحي قديمة وغالباً ما تطفح المياه الثقيلة في المنطقة".
سألناه عما اذا حاول تجار السوق مكافحة الجرذان، فأجاب إنهم قاموا بعدة محاولات، "وفي احدى المرات استطعنا القضاء على مجموعة كبيرة منها، ولكن يجب الاعتراف بأن طرقنا بدائية جداً وخطرة، لأن بعض السموم الخاصة بمكافحتها ذات مخاطر وآثار جانبية على المواد الغذائية المخزونة لدينا".
أما شهاب الساعدي فقال: "كل الجهود التي نبذلها تضيع سدى، لأن منطقتنا مفتوحة وانتقال القوارض من محل الى آخر سهل جداً. كما أعتقد أن طريقة خزننا للمواد بدائية وغير صحيحة، وباستطاعة القوارض التنقل بين الأكياس والعبث بمحتوياتها. ان كل الظروف مؤاتية لتواجدها وتكاثرها".
عبدالرضا حاتم صاحب متجر آخر حدثنا عن الخسائر: "سعر طن الحمّص 400 دولار، والجرذان تمزق 75 في المئة من أكياسه. واذا حسبنا أن كل كيس يسقط منه كيلوغرام، لك أن تتصور مدى خسائرنا. ولقد صرنا نمتنع عن التعامل بعدد من السلع. فهناك مثلاً معجون ايراني المنشأ يحظى باهتمام هذه الجرذان، فتراها تمزق الكرتون وتفتح ثقوباً في علب المعجون وتتلذذ بتناوله".
سألناه عما اذا كان اتصل بمختص في مكافحة القوارض، فأجاب: "بصراحة، كلا، ولكن هذا يبيّن الاهمال الواضح من الجهات المختصة، سواء وزارة الصحة أو أمانة بغداد. والمفارقة أن موظف الرقابة الصحية، الذي يقوم بالبحث عن المواد التالفة أو المنتهية الصلاحية، غالباً ما تراه يجلس في المتجر والقوارض تتراكض أمام ناظريه، من دون أن يستفسر أو يعلّق أو يطالب بمكافحتها، عارضاً على الأقل سبل المكافحة الناجحة".
وبادرنا رياض العقابي قائلاً: "ما ان نفتح محلاتنا صباحاً حتى نكتشف آثار القوارض وقد سرحت ومرحت، وكأن شخصاً عبث بالبضائع وخلق الفوضى. حينئذ نضطر الى رش المحل بالمبيدات. وهذا يخلق لنا مشاكل جديدة، اذ تموت الجرذان والفئران تحت كميات هائلة من البضائع، وبعد مدة تبدأ بالتعفن وتنتج عنها روائح كريهة جداً. وهذا ما يحمل الزبائن على عدم المكوث للشراء، مما يضطرنا الى اخراج المواد الغذائية والبحث عن الجيف المتحللة. ولك ان تتصور كم هذا الأمر متعب ومضيعللجهد والوقت".
عبدالحسين الجواري تاجر معروف بين زملائه بخبرته في مكافحة القوارض. قال: "كل مرة أقضي على العشرات، الا أني لم أستطع التخلص منها نهائياً، لأنها تأتي من المحال المجاورة. والمشكلة أن أصحاب المتاجر لا يقومون بمكافحتها سوية. وأجد من الأصح أن يتفقوا على يوم واحد في الأسبوع مثلاً لاجراء حملة مكافحة، فهذا يعطي نتائج أفضل".
أما عبدالكريم أحمد، وهو صاحب متجر كبير للبيع بالجملة، فقال ان المعاناة تعود الى سنوات، والجرذان منتشرة في البيوت والمحال وفي كل مكان، "خسائرنا كبيرة وتكاد تبلغ مليون دينار شهرياً (640 دولار)، فبضاعتنا غالية جداً مقارنة ببعض المواد الغذائية الأخرى، ولا أعتقد أن الوسائل البدائية قادرة على القضاء عليها. لذلك نناشد الجهات المعنية في وزارة الصحة وأمانة بغداد بجلب تقنية حديثة لمكافحتها''. وقبل ان نغادر متجره، روى لنا قصة طريفة: ''في أحدالأيام جاءني جاري الذي يعمل في محل لبيع العطور ومساحيق التجميل، وقال لي ان لديه أمانة لي. فرافقته الى محله، ووجدت هناك ما يقارب كيلوغرامين من الجوز قام أحد الجرذان بنقلها من متجري وتجميعها في احدى زوايا المحل المجاور".
قوارض متعاونة ومكافحة قاصرة
القوارض رتبة من اللبائن، أو الثدييات، تضم أكثر من 40 عائلة و1700 نوع، وتنتشر في جميع بقاع المعمورة الباردة والحارة والصحراوية والغابية، وتنشط على مدار السنة. وتعد من أكثر الحيوانات خصوبة، اذ بامكان زوج واحد منها انتاج ألفي قارض خلال سنة واحدة اذا ما توافرت الظروف الملائمة. وهي تعيش بين سنتين وثلاث سنوات، وتعتبر من الحيوانات الذكية جداً والمتعاونة إذ تتمتع بحسّ الفريق. فعند شعورها بأنها تناولت مادة سامة، مثلاً، تعود اليها وتبول عليها إنذاراً للبقية بعدم الاقتراب منها وتناولها. لذلك قامت احدى شركات المكافحة بابتكارمادة قاتلة لا يظهر مفعولها الا بعد ثلاثة أيام، للتمكن من ايقاع أكبر عدد من القوارض. وغالباً ما يساعد الانسان على تكاثرها وتواجدها بأعداد كبيرة، من خلال اهماله صحة البيئة والنظافة الشخصية. وقد تهاجم المرضى والمقعدين وكبار السن والأطفال بقضم أطرافهم.
وتنتشر في العراق 8 عائلات من القوارض، أهمها الفئران والجرذان. وأكثر أنواعها شيوعاً الفأر المنزلي والجرذ النروجي القاتل والجرذ الأسود وفأر الحقل.
في مركز السيطرة على نواقل الأمراض التابع لوزارة الصحة، التقينا الدكتورة حميدة محمد حسن مديرة شعبة القوارض. سألناها عن المخاطر الصحية التي يمكن أن تسببها للانسان، فقالت انها تخزن وتنقل العديد من مسببات الأمراض، من بكتيريا وفيروسات وطفيليات وفطريات وعفن. وتكون عملية النقل بعدة طرق، منها التلوث ببراز القوارض وبولها وشعرها أو من خلال عضتها، أو باصابة حيوانات أليفة ينتقل منهاالمرض الى الانسان. وباستطاعة بعض أنواع القوارض مهاجمة الانسان، مثل الجرذ النروجي المفترس. وترد الى وزارة الصحة اصابات عديدة، منها حالات قضم أصابع وأماكن أخرى. ومن الأمراض التي تنقلها القوارض التهاب الدماغ والحمى النزفية والتهاب السحايا والتهاب الفم الحويصلي والتيفوس الفأري والتسمم الغذائي البكتيري وحمى عضة الجرذ.
وعن تدابير الحد من ظاهرة تكاثر القوارض والقضاء عليها، قالت الدكتورة حسن إن وزارة الصحة، من خلال دوائرها المنتشرة في بغداد والمحافظات، تقوم بتنفيذ خطة سنوية لمكافحة القوارض في المناطق السكنية وما تتضمنه من دوائر ومدارس وأسواق. ولكن هذه الحملات تقتصر على المناطق حيث الكثافة العددية للقوارض عالية جداً أو حيث تسجل اصابات أو ترد شكاوى عديدة من المواطنين، "فنحن لا نستطيع تغطية جميع المناطق، لقلة الأيدي العاملة المتوافرة لدينا وشحة مستلزمات تنفيذ تلك الحملات وأهمها المبيدات والآليات".
بغرض تخفيض الكثافة العددية للقوارض في المناطق الموبوءة، تم تنفيذ حملة ميدانية لمكافحتها في جميع محافظات العراق. وقد واجهت فرق العمل صعوبات عديدة، أهمها عدم تفهم بعض أصحاب المنازل وخوفهم وعدم السماح لفرق المكافحة بالدخول لضعف الوعي بأهمية هذا الموضوع.
واعتبرت الدكتورة حسن أن موضوع مكافحة القوارض لا يخص وزارة الصحة وحدها، فلها مخاطر اقتصادية قد تؤثر بشكل كبير في اقتصاد أي بلد، كما أنها تشوه الوجه الحضاري لأي منطقة تنتشر فيها. واضافت: "أعتقد أن العديد من القطاعات معنية بهذا الأمر، منها وزارات الداخلية والزراعة والتجارة والنقل والموارد المائية، والبيئة، والاعلام، والتربية، والتجارة، والتعليم العالي. وكانت هناك لجنة خاصة بمكافحة القوارض في كل وزارة، الا أن هذه اللجان لم تعد قائمة. ولا يمكن أيضاً إغفال دور أمانة بغداد، اذ كان هناكبرنامج وطني لمكافحة القوارض التي تعيش في شبكات المجاري يتم تنفيذه من قبل الدوائر البلدية، وكان لدى الأمانة وحدة تسمى وحدة مكافحة القوارض، وهي أيضاً لم تعد قائمة".
في جميع الأحوال، لا يخفى دور المواطن في زيادة الكثافات العددية للقوارض وانتشارها بشكل واسع عن طريق اهماله الشروط البيئية والصحية. ففي استطاعته الحد منها من خلال اهتمامه بنظافة داره ومحيطه والتحصين ضد دخولها، فضلاً عن تخلصه من السكراب (الخردة) أو أية مادة فائضة عن الحاجة قد توفر مأوى ملائماً لها. وحري به التخلص من النفايات وبقايا الأطعمة بشكل منظم فلا يتركها لفترات طويلة، خصوصاً في الليل حين تنشط الجرذان.