بين القحل واستنزاف المياه الجوفية والري بمياه الصرف المعالجة، ماذا يختار الفلسطينيون؟
أصبح التخلص الآمن من المياه المنزلية العادمة، بما فيها الفضلات الآدمية السائلة، من الاحتياجات البيئية الضرورية لكثير من المدن والمخيمات والقرى الفلسطينية. واذا أخذنا بعين الاعتبار محدودية وصول المواطن الفلسطيني الى الاحتياج الأدنى من الماء لتغطية النظافة الصحية (100 ليتر للفرد يومياً وفق مقررات منظمة الصحة العالمية) تصبح حماية مصادر المياه ضرورة قصوى، وخاصة الجوفية وهي المصدر الوحيد لمياه الشرب حالياً. لكن هذه الحماية تحتاج الى موافقة الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي، ضمن اطار جلسات فنية مغلقة لما يسمى "لجنة المياه الفنية" لا يعرف عنها المجتمع المحلي أو الدولي شيئاً.
التخلص من المياه العادمة بشكل غير سليم يؤدي حتماً الى تكوّن مستنقعات آسنة تشكل مرتعاً خصباً للبعوض، ومصدراً للأمراض ومنها الملاريا والاسهال والطفيليات المعوية. ويزداد الأمر سوءاً عند استعمال المياه العادمة غير المعالجة لأغراض الري الزراعي، مما يشكل خطراً صحياً ليس فقط على المزارعين وانما أيضاً على مستهلكي المحاصيل المروية بهذه المياه.
لقد بات ممكناً معالجة المياه الى درجة من التنقية تسمح باعادة استعمالها لأغراض زراعية، وذلك في كثير من بلدان العالم المتقدمة والنامية، البعيدة عن فلسطين أو المحيطة بها. لكن جميع المحاولات المحلية بقيت على مستوى مشاريع ريادية صغيرة باء معظمها بالفشل، والقليل منها تم ضمن أطر الأبحاث والدراسات الجامعية أو مشاريع منظمات أهلية محلية.
مياه صالحة للري
تكثر في فصل الصيف محاصيل الخضر والقثائيات الموسمية والفواكه. معظم هذه النباتات والأشجار يمكن ريها بمياه عادمة معالجة الى درجة تحقق السلامة العامة للمزارع والمحصول والمستهلك. فاذا أخذنا البطيخ والشمام مثلاً، تروى مساحات شاسعة مزروعة بهما داخل "الخط الأخضر" وخصوصاً في ما يسمى "منطقة دان" قرب تل أبيب. ان طريقة الري بالتنقيط، وأسلوب شحذ الجودة لمياه الصرف المعالجة بنظام تربة ـ رشح جوفي (Soil Aquifer Treatment - SAT)، يتيحان ري مثل هذه المحاصيل ضمن مؤسسات زراعية تعاونية منذ أكثر من 50 عاماً.
في عام 2002 بلغت نسبة المياه العادمة المعالجة بطريقة ناجعة لأغراض الزراعة في المناطق الاسرائيلية 60 في المئة من مجمل ما يجمع من مياه عادمة. وبلغت نسبة المياه المعالجة المستخدمة في الزراعة 27 في المئة من المعدل الكلي لما يستهلك من مياه للري. وتشمل المزروعات المروية بمياه الصرف المعالجة ذات الجودة العالية محاصيل زراعية للاستهلاك البشري، ومنها الفاصوليا والفلفل بأنواعه والخيار والشمام والبطيخ والباذنجان والخس، والأشجار المثمرة كالدراق والخوخ والتفاح والحمضيات والافوكادو.
معظم هذه المنتجات تغمر الأسواق المحلية، الاسرائيلية والفلسطينية، ويصدر بعضها الى أوروبا وأميركا وبعض دول الجوار، دون الاشارة الى أنها رويت بمياه عادمة معالجة بشكل متقدم وتدر ملايين الدولارات على المزارعين والشركات التي تدير هذا القطاع من الزراعة. لكن دراسة شملت مواطني الريف الفلسطيني في محافظة رام الله والبيرة بينت أن نحو 60 في المئة لا يرغبون باستهلاك هذه المحاصيل. وأبدى 85 في المئة من المستجوبين عدم رغبتهم بتقديم مشاركة مالية لانشاء محطات معالجة صغيرة على المستوى المنزلي، واعادة استخدام مياه الصرف المعالجة لأغراض الري الزراعي.
القوانين البيئية والتوعية البيئية تساهمان في تقبل هذا الأمر. في بعض البلدان الشحيحة بمصادر المياه وصل الأمر الى أبعد من ذلك، حيث تستخدم مياه الصرف المعالجة لأغراض الشرب. وقد وصل الحال ببعض سكان المخيمات الفلسطينية الى أكثر من ذلك. ليس هذا هو المطلوب، ولكن يمكن المساهمة في حماية المصادر الشحيحة وتقبل فكرة إعادة استخدام المياه العادمة المعالجة في الري، ليس لري الخس والخضر التي تؤكل نيئة، بل لري الأحراج واللوزيات وأشجار الزيتون التي دمرت، ولري أعلاف الأغنام بدل رعيها على الأطباق الورقية ونفايات البلاستيك المتناثرة هنا وهناك.
تجربة ناجحة في جامعة بيرزيت
ضمن الأبحاث التي يقوم بها معهد الدراسات المائية في جامعة بيرزيت، هناك بحث قيد التنفيذ ممول من الإتحاد الأوروبي من خلال المؤسسة الاسبانية
Agbar Foundation في مدريد، لمعرفة اثر التلوث البكتيري والطفيلي لمياه الصرف المعالجة في محطة المعالجة البلدية بمدينة البيرة على التربة والمحاصيل الزراعية، وأثر طرق الري على الجودة النوعية للمحاصيل المختلفة. تشير النتائج الأولية إلى عدم وجود مجهريات أو طفيليات مرضية في الصرف المهذب الجودة
(reclaimed effluent) نظراً لوجود مرحلة متقدمه تضم وحدة فلترة وتعقيم بمادة الكلور. وتدعم هذه النتائج المخبرية ما توصلت إليه نتائج دراسة سلطة المياه بالتعاون مع بلدية البيرة ووزارة الزراعة ومؤسسة
USAID حول خلو الصرف المهذب من كائنات حيوية مرضية. هذه النتائج ستشكل معطيات علمية وتجربة محلية من شأنها إضافة تعديل على معيار المواصفة الفلسطينية حول إعادة استخدام مياه الصرف المعالجة لأغراض الري الزراعي.
كما يقدم المعهد برامج تدريب وتوعية لزيادة إدراك المواطن الفلسطيني لضرورة تدوير مياه الصرف المعالجة لأغراض مختلفة، منها قطاعا الزراعة والصناعة، لما له من مردود اقتصادي وحماية للبيئة المائية وتقليل خطر تلوث المياه الجوفية وحماية الصحة المجتمعية، وتشجيع تقبل استهلاك محاصيل زراعية رويت بمياه صرف معالجة عالية الجودة مع سلامة أسلوب الري المتبع.
ولعل خير مثال ناجح للري بالمياه المعالجة في فلسطين هو ري الأشجار الحرجية والمسطحات الخضراء في حرج جامعة بيرزيت منذ عام 1980. مجمل المساحات الزراعية الممكن ريها سنوياً بالمياه المعالجة في محطة الجامعة يبلغ 100 دونم. وتعالج المياه العادمة (60 ألف متر مكعب سنوياً) بنظام الحمأة الهوائي المنشط، حيث أنواع معينة من البكتيريا تستخدم الاوكسيجين الذائب المزود عبر وحدات ضخ تهوئة ميكانيكية، فتنمو باستهلاك المحتوى الكربوني وتؤكسد مركبات النيتروجين الى نيترات. ومن ثم يتم تهذيب جودة المياه المعالجة باستخدام فلاتر رملية للتعقيم وازالة ما تبقى من مواد صلبة معلقة. أما الحمأة المثبتة هوائياً فلا تستخدم كسماد خشية احتوائها على مواد تضر التربة والنبات، كون المياه العادمة تحوي كميات من المركبات العضوية وغير العضوية مصدرها المختبرات العلمية في بعض الكليات ومعاهد الأبحاث المتعددة.
ان نجاح استخدام المياه العادمة المعالجة لأغراض الري الزراعي يكمن في وضع معايير ونظم محلية تضبط جودتها، ونظام ضبط ومراقبة حثيثة لجودة المنتج الزراعي، وتسجيل احصائي يرصد حالات مرضية سببها المياه المعالجة، والفحص المخبري لعينات أخذت بطرق علمية سليمة. أما الفحوص المجهرية التي تجرى حالياً ضمن مشاريع البحث في معهد الدراسات المائية فتشمل، على سبيل المثال لا الحصر، عدد البكتيريا القولونية، والمجهريات المرضية مثل السالمونيلا والشيقيلا، والفيروسات، وبيض ديدان النيماتود، وطفيليات الجارديا والكربتوسبريديوم وخصوصاً الحويصلات الحية منها.
هذا في ما يخص التلوث المجهري الممكن حدوثه عند استخدام مياه عادمة غير معالجة بطرق سليمة أو كافية. وماذا عن التلوث الكيميائي وأثره المتراكم البعيد المدى على صحة الانسان أو الحيوان الذي يتناول مثل هذه الثمار أو المحاصيل الزراعية، وخصوصاً ما يتعلق بمركبات عضوية وغير عضوية غير قابلة للمعالجة الحيوية؟ ما هو مصير الهورمونات الطبيعية أو الصناعية؟ أين تتراكم هذه المركبات، في التربة أم في الحمأة أم في النبات؟ في الثمر أم الورق أم الجذر؟ الاجابة والنتائج تبقى في إطار الأبحاث العلمية المحدودة التطبيق، ومعرفة التفاصيل تتطلب كثيراً من الاستثمار المالي والتكنولوجي.
الدكتور راشد الساعد أستاذ وباحث في معهد الدراسات المائية بجامعة بيرزيت في الضفة الغربية في فلسطين.