الزراعة من القطاعات الاقتصادية الرئيسية في لبنان التي تأثرت بحرب صيف 2006. وكانت مآسي المزارعين في المناطق التي شهدت أعمالاً حربية مباشرة في الجنوب أعظم من التي قاساها آخرون في أماكن أخرى.
في سهل البقاع والمناطق الساحلية الشمالية وسهول عكار، التي هي مناطق الانتاج الرئيسية في هذا الموسم، أينعت ثمار الدراق والاجاص والخوخ والتفاح والعنب وغيرها، وحان قطف معظم الخضار. لكن المزارعين وقفوا أمامها عاجزين بسبب نقص الأيدي العاملة، فالعمال الأجانب غادروا البلاد خلال الأسبوع الأول من الحرب. بل لو تأمنت أعمال القطاف والحصاد محلياً، لم تكن هناك طرق آمنة لنقل المنتجات الى الأسواق، لأن الطائرات الحربية الاسرائيلية كانت تقصف الشاحنات المحملة بالبضائع. وحتى لو تمكنت البضائع من الوصول الى سوق الجملة المركزي في المنطقة، فلا من يشتري وينقل الى المناطق المدينية الرئيسية، لأن الجسور قُصفت ودُمرت، وعانت البلاد من نقص حاد في الوقود، ولم يجرؤ الباعة على الذهاب بعيداً والمجازفة بحياتهم. ونتيجة لهذا الوضع، فقد المزارعون آلاف الأطنان من المحاصيل التي كانت ستسد الطلب على الغذاء في المدن. وقدرت الخسائر الزراعية المباشرة في البقاع بأكثر من 210 ملايين دولار حتى وقف اطلاق النار، على أن تعقبها خسائر لاحقة من تبعات الحرب. ودمرت محاصيل أكثر من 50 في المئة من المزروعات. وفي سهل البقاع الخصيب، شملت الخسارة أكثر من 60 ألف هكتار من البساتين المروية وحقول الخضار.
فقر في الأرياف
نضجت ثمار الاجاص والدراق والخوخ الفاخرة وغيرها من أنواع الفواكه وسقطت على الأرض، فضاقت سبل عيش المزارعين. وفرص تصنيع الفواكه على نطاق واسع ليست متاحة بسبب الافتقار الى المصانع المختصة في مناطق الانتاج. وتعذر تصدير المنتجات بسبب اقفال مراكز الفرز والتوضيب، والحصار، وخشية القصف الجوي، فقد كانت طائرات الاستطلاع الاسرائيلية الصغيرة من غير طيار تراقب تحركات جميع أنواع المركبات على طرق لبنان. وكانت الطائرات الحربية تقصف حتى سيارات البيك آب الصغيرة أثناء نقلها منتجات زراعية. وأدى قصف الطرق الدولية بين لبنان وسورية الى استحالة تصدير المنتجات براً الى بلدان الخليج. وخلال الأسبوع الأول من آب (أغسطس) قصفت مشاريع زراعية، فقتل عشرات العمال في سهل البقاع. لذلك هجر المزارعون حقولهم وبساتينهم العامرة بالخضار والفواكه، وتركوها لرعاة الغنم والماعز الذين أطلقوا قطعانهم لترعى في رحابها. وفي مناطق عديدة في البقاع اشتعلت النيران في بساتين الأشجار المثمرة بسبب الغارات.
وفي الجنوب، خلفت القنابل العنقودية والذخائر غير المنفجرة والألغام الأرضية مشكلة طويلة الأمد، ما أعاق عودة المزارعين للعمل في حقولهم. ويقدر أن الجيش الاسرائيلي القى أكثر من 150 ألف قنبلة على لبنان، نحو 10 في المئة منها لم ينفجر، ما يعني انتشار نحو 15 ألف قنبلة حية في أماكن متفرقة.
كل هذا أدى الى استفحال الفقر في المناطق الريفية، وهو من الأسباب الرئيسية لتدهور الأراضي. فالأراضي الزراعية المهجورة تتحول تدريجياً الى أماكن شبيهة بالصحراء، حيث تجف النباتات بسبب انعدام الري. وقد أهمل المزارعون تنظيف قنوات الري وتخلوا عن صيانة البنى التحتية الزراعية، ما سيفاقم انجراف التربة في موسم الأمطار.
ضياع الغلال
منذ الأسبوع الثاني لاندلاع الحرب، برزت أزمة نقص في الوقود اشتدت مع نهاية الأسبوع الثالث. وأُجبر أصحاب سيارات البيك آب الخاصة الذين كانوا يجازفون بحياتهم من أجل نقل المنتجات الزراعية الى المراكز المدينية على المكوث في منازلهم.
الياس أيوب، المزارع المعروف الذي يدير مزرعة عضوية في البقاع الغربي ويمتلك محلاً تجارياً لبيع منتجاته في منطقة الأشرفية في بيروت، قال ان معظم زبائنه إما غادروا البلاد أو لا يستطيعون الوصول الى محله بسبب النقص في مادة البنزين. وهو غير قادر على بيع الكميات القليلة من منتجاته العضوية التي يجازف في احضارها على رغم المخاطر وبعد المسافة وقلة البنزين. معظم مزروعاته التي تغطي مساحة 200 هكتار لحق بها الخراب. يقول: "نقطف الغلال، ولكن بسبب انعدام الأسواق ومعامل التصنيع نضطر الى اطعامها للماعز أو نرميها. إن مصدر رزقنا لهذه السنة قد دُمر بالكامل".
مزارع آخر يعني بزراعة الأشجار المثمرة في سهل البقاع قال انه خسر نصف محصول هذه السنة، ما يعادل نحو 35 ألف دولار، ما سيعرض اسرته المكونة من تسعة أفراد لصعوبات اقتصادية جمة. فهو لن يكون قادراً على تسديد الرسوم الدراسية لأربعة من أبنائه، ولا فواتير مشترياته الزراعية من أسمدة ومبيدات. وقال ان حالته هذه تنطبق على جميع المزارعين في المنطقة.
مربّو المواشي الفقراء فقدوا الأسواق التي يبيعون فيها الحليب، وتعذر عليهم الحصول على العلف بسعره العادي نتيجة الحصار البحري وانعدام وسائل الشحن. كما ان معامل التصنيع التي كانت تشتري الحليب منهم إما قصفت أو أقفلت أبوابها وإما خفضت إنتاجها، فباتت ترفض معظم كميات الحليب الذي ينتجه المزارعون. وقد دمرت الطائرات الاسرائيلية مصنع ألبان لبنان (Liban Lait) القريب من مدينة بعلبك، وهو أحد أكبر مصانع الألبان والأجبان في الشرق الأوسط، ما حرم مئات العائلات من مصدر دخلهم.
ان دمار الأراضي الزراعية والفقر اللذين سببتهما عمليات القصف سيؤديان الى ضرر بيئي طويل الأمد في جميع أنحاء لبنان.
بوغوص غوكاسيان مدير مركز الشرق الأوسط للتكنولوجيا الملائمة (MECTAT)