أربعة فصول عشناها خلال يوم واحد عبرنا فيه المغرب من غربه الى شرقه. انطلقنا من الدار البيضاء على ساحل المحيط الأطلسي متوجهين الى واحات تافيلالت التي تبعد نحو 700 كيلومتر. مررنا بغابات الفلين النادرة المحمية التي تعتبر ثروة وطنية. واجتزنا جبال الأطلس المتوسط حيث غابات الأرز واللزاب والصنوبر، ومنها الى الأطلس الكبير المكلل بالثلوج الذي يعلو نحو 4200 متر، وصولاً الى أرفود في جنوب شرق البلاد.
منطقة الواحات المغربية هذه تنبت خيرات كثيرة، على رغم مناخها شبه الصحراوي وأمطارها الضعيفة التي لا تتجاوز 250 مليمتراً سنوياً في الشمال و60 مليمتراً في الجنوب. فسهل تافيلالت منبسط على سفح الأطلس الكبير، يرتوي بمياه ثلوجه وعيونه، وبفيضانات الأودية، وبمياه سد الحسن الداخل الذي تم إنشاؤه بعد الفيضانات المدمرة التي اجتاحت المنطقة عام 1965 فشردت 25 ألف نسمة ودمرت 75 ألف شجرة زيتون وأكثر من 16 ألف نخلة.
ويضخ المزارعون المياه الجوفية من الآبار. وهي أيضاً تتدفق بقوة الجاذبية عبر قنوات نفقية تقليدية تدعى "الخطارات" تروي تلك الأراضي منذ مئات السنين. وتمتد المزارع على طول الأودية مكونة سلسلة من الواحات، حيث تنتشر أشجار النخيل والزيتون والتفاح وبساتين الحبوب والفصة (ألفالفا) والخضر والحناء.
رزقنا في بلادنا
في تلك الجهات قرى تطفو على خزانات مياه جوفية هائلة، ومع ذلك فهي عطشى ومزارعها في تقلص ويباس. ذلك لأن تلك المياه لا تصلح للري، فهي ذات ملوحة عالية ومحتوى معدني كبريتي كثيف، وما يصل الى تلك القرى من مياه عذبة لا يلبي حاجاتها.
ثمة مشروع رائد ينفذ في منطقة تافيلالت لاستغلال المياه المالحة في زراعة عالية الانتاج ومجدية اقتصادياً. وهو يعتمد أساسين: الري الموضعي بالتنقيط الذي يوصل الماء الى النبتة بلا هدر، وزراعة أصناف تتحمل الملوحة. تشرف على المشروع وزارة الفلاحة والتنمية القروية ويدعمه المركز الدولي الكندي لأبحاث التنمية (IDRC). وقال لنا المهندس محمد بوسفول، رئيس مصلحة تدبير الري في منطقة تافيلالت، ان ثمة مشاريع عديدة تم تنفيذها في الواحات للري بالتنقيط بالمياه العذبة، وقد تحسنت مردوديتها بنسبة 80 في المئة، مع الاقتصاد بالماء واليد العاملة المخصصة للسقي. لكن هذه أول تجربة في المغرب للري بالتنقيط بالمياه المالحة، مح تحسين المردودية عن طريق رفدها بالمياه العذبة من الخطارات والسد. ويقدم "المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي" التابع للوزارة مساعدات في التسميد والتسويق والصناعات التحويلية الغذائية.
في المنطقة ثمة 36 جمعية لمستخدمي المياه و10 تعاونيات لضخ المياه الجوفية وتوزيعها. وهي قامت باختيار ثلاثة مزارعين تمثل ضيعاتهم المنطقة كلها ـ العليا والوسطى والسفلى ـ قبلوا باستخدام مزارعهم للري بالمياه المالحة. الحاج مهداوي عبدالله أحد هؤلاء الثلاثة، وهو في السادسة والسبعين من العمر، وله ابنان متزوجان وثلاث بنات وأحفاد يعيشون معه في دار واحدة ويعملون في المزرعة التي تضم مئات أشجار النخيل المثمرة. قال : "الله تعالى خلق لنا رزقنا في بلادنا. هنا نبقى مع نخيلنا وأغنامنا".
الأغنام هناك من نوع الدمان الشائع في تافيلالت وورزازات، وهو بلا قرون، مقاوم للبرد، ويتميز بولادة 4 أو 5 حملان من بطن واحد. أما النخلة فهي شجرة مقدسة في تلك النواحي، فهي العمود الفقري لاقتصاد المنطقة اذ يساهم نتاجها في نحو 60 في المئة من الدخل السنوي للفلاح. وهي مقاومة للظروف الصحراوية الصعبة، من حرارة عالية ومطر قليل وملوحة، كما توفر مظلة وظروفاً ملائمة لنمو زراعات تحتية كالخضار والحبوب. وفي سهل تافيلالت نحو مليون و250 ألف نخلة تمثل 25 في المئة من الانتاج الوطني للتمور. لكن الجفاف المستمر أيبس نخلاً كثيراً ودمر مصدر رزق ألوف السكان المحليين.
المالح هو موجود
قدم لنا الحاج مهداوي أفخر تمور مزرعته، وهو يدعى "المجهول" ويباع بنحو 200 درهم (5 دولارات) للكيلوغرام الواحد: "هذه مسقيّة بالماء المالح. لو سقيت بالماء العذب لكانت النتيجة أفضل ثلاثة أضعاف، لكن المالح هو الموجود، وأنا أوازنه بما يتيسر من مياه عذبة. هكذا يتسنى لنا أن نسقي الأغنام، كما تحسنت المردودية أكثر من النصف. الحمدالله، التمر وافر، والحمل أفضل مما كان. الله عز وجل قال لسيدنا آدم: "أعطِ الأرض وهي تعطيك".
المياه العذبة ليست مجانية على الاطلاق في هذه المنطقة الفقيرة، فهي توزع بنظام الحصص وفي مقابل 30 درهماً (نحو 4 دولارات) في الساعة (بطاقة 30 ليتراً في الثانية). ويتضمن المشروع النموذجي الذي يدعمه مركز IDRC انشاء خزان تشاركي للمياه العذبة يستفيد منه ثلاثة فلاحين للري بالتنقيط، فتتقلص كلفة المياه عليهم الى الثلث.
أخبرنا منسق المشروع المهندس محمد أبو عزة، الذي رافقنا من الدار البيضاء الى تافيلالت، ان العمل جار على ترشيد المزارعين للري بالمياه المالحة المتوازنة من خلال دورات تدريبية وزيارات للمزارع التجريبية في إطار الجمعيات والتعاونيات. وتجرى دراسات لاختيار أنسب المحاصيل المتحملة للملوحة والمربحة تجارياً، ومنها الملوخية والبندورة (الطماطم) وأنواع من الحبوب.
لقد اطلعنا سابقاً على تجارب عالمية وعربية لزرع نباتات مقاومة للملوحة تروى بمياه البحر أو بمياه الآبار المتملحة القريبة من السواحل. أما في واحات تافيلالت الداخلية فالتجربة هي للري المالح بالتنقيط، وقد بدأ الفلاحون هناك يقطفون الثمار.