لم يكن يوم الثلثاء 17 نيسان (أبريل) الماضي يوماً عادياً في تاريخ المجتمع العلمي العربي، بل كان يوماً مجيداً وعلامة تكنولوجية فارقة، بإطلاق أول قمر اصطناعي عربي مخصص للأغراض العلمية والتصوير الفضائي، هو القمر المصري ''إيجيبت سات -1".
انطلق هذا القمر بواسطة القاذف الأوكراني الروسي ''دنيبر'' من قاعدة بايكنور في كازاخستان، وانطلقت معه الأحلام بتقدم مستوى البحث العلمي في مصر، وتحسين الأداء وخطط التنمية، والنهوض بعدة مجالات تكنولوجية مرتبطة بمجال الفضاء. وقد ضاعف من قيمة هذه الخطوة نجاح ''دنيبر'' أيضاً في إطلاق ستة أقمار عربية أخرى، سعودية الهوية، خمسة منها للاتصالات والسادس (سعودي سات-3) قمر بحثي تجريبي للاستشعار عن بعد يمثل الجيل الثالث من سلسلة أقمار تجريبية أنتجتها المملكة بالتعاون مع وكالة الفضاء الروسية.
نظراً إلى قدراته وخصائصه الفنية، يعد ''إيجيبت سـات ـ 1'' أهم أقمار الاستشعار العربية قاطبة. وهو يمثل أيضاً أهم اطلاقات برنامج الفضاء المصري، الذي تضم أجندته قمراً ثانياً للاستشعار عن بعد (إيجيبت سات-2) يزمع إطلاقه سنة 2012 من واقع الخبرة المكتسبة من تجربة القمر الأول والاستعانة بالخبرات الدولية الأخرى، وقمراً ثالثاً (ديزرت سات-1) لاستكشاف الصحراء بحلول سنة 2017، ويؤمل أن يكون هذه المرة بخبرة وخامات مصرية.
يقول مدير برنامج الفضاء القومي المصري الدكتورمحمد بهي الدين عرجون ان تصميم القمر المصري وبناءه استفرقا نحو خمس سنوات، بتقنية وخبرة أوكرانيتين وبمشاركة خبراء مصريين من تخصصات مختلفة. وهذا بغرض اكتساب الخبرة وبناء قاعدة علمية مصرية، تؤهل لتصنيع قمر مصري خالص مستقبلاً، وهو أحد أهم أهداف برنامج الفضاء المصري. أما عن مواصفاته الفنية، فوزنه يبلغ نحو 165 كيلوغراماً، وقد ثبتت به كاميرتان، الأولى تعمل في حيز الضوء العادي والثانية في حيز الأشعة تحت الحمراء. وسوف يدور هذا القمر في مدار خاص به على ارتفاع 668 كيلومتراً فوق سطح الأرض، مكملاً دورة حول الكرة الأرضية مرة كل 90 دقيقة، أي بمعدل 16 دورة يومياً. ويستطيع أن يقوم بمسح كامل الأراضي المصرية مرة كل 70 يوماً، معطياً صوراً فضائية تغطي الواحدة منها مساحة من الأرض بطول 46 كيلومتراً وتبلغ قدرتها التصويرية المكانية 8 أمتار. وسوف يستخدم هذا القمر في رصد الموارد والثروات المعدنية والمائية للأراضي المصرية، والتعرف على درجة التصحر ونسبة تلوث الشواطئ، وحصر الأراضي الزراعية ومراقبة العشوائيات، والتخطيط العمراني، وإدارة الأزمات والكوارث الطبيعية، وغيرها من التطبيقات الحيوية.
وعلى هذا النحو، ستكون لهذا القمر فوائد تنموية واقتصادية عديدة، إذ سوف يسهم في التخطيط الاستراتيجي للدولة، ودفع عجلة التنمية، وتوفير ملايين الدولارات التي كانت تنفق سنوياً في شراء الصور الفضائية للأغراض البحثية. وبرنامج الفضاء المصري هو برنامج قومي ينصب غرضه على الاستخدام السلمي للفضاء وأغراض التنمية، فضلاً عن أهداف أخرى جانبية تتيح لمصر دخول عالم الفضاء واكتساب القدرات العلمية والتقنية وبناء الكوادر العلمية، بما يتيح اقتحام المجالات والصناعات التكنولوجية الأخرى المصاحبة لتكنولوجيا الفضاء، ومنها صناعة البصريات والمستشعرات والاتصالات.
الدول العربية وعالم الفضاء إن أمر إطلاق قمر اصطناعي أو تبني برنامج فضائي قد خرج منذ زمن من مرحلة التجريب والسرية إلى مرحلة التطبيق العلمي والاستثمار الاقتصادي. ولم تعد استخدامات الفضاء قاصرة على مجالات محددة مثل التجسس والملاحة والبث التلفزيوني، كما كانت في الماضي، بل تعدت هذا كله إلى تطبيقات أخرى جديدة وغير تقليدية في الطب وإدارة الكوارث الطبيعية وأعمال الإنقاذ والإغاثة وحماية البيئة وغير ذلك. كما تجدر الإشارة إلى أن كلفة تصنيع قمر اصطناعي لم تعد عبئاً اقتصادياً كما كانت في السابق، حيث صغُر حجم القمر وتحسنت اقتصادياته بحيث أصبحت كلفة تجهيزه وإطلاقه في متناول الجميع.
من هذا المنطلق، لم يتردد عدد غير قليل من دول العالم النامي، رغم المشاكل والأثقال التي تعصف بها، في الإقبال على هذه الأداة التكنولوجية الهامة وتبني برنامج فضائي للاستفادة من الاستخدامات المتطورة. من هذه الدول على سبيل المثال كوريا والأرجنتين وتركيا وإيران ونيجيريا. وقد ارتأت بعض الدول العربية أخيراً ضرورة الاستفادة من تطبيقات هذه التكنولوجيا الواعدة، فكان أن قررت بعد طول تردد اقتحام هذا المجال وادخال تقنياته ضمن منظومتها العلمية، لمتابعة القفزة المعلوماتية والتكنولوجية الهائلة التي غزت معظم أرجاء العالم، ومن هذه الدول مصر والسعودية.
وبمراجعة جهود الدول العربية عموماً في مجال الفضاء، يتبين أن كل انجازاتها قبل 17 نيسان (أبريل) الماضي لم تتعدَّ إطلاق قمرين أو ثلاثة للبث التلفزيوني وللاتصالات، وهي تطبيقات استهلاكية ولا تمت بصلة الى تكنولوجيا الاستشعار عن بعد. وبصفة عامة يمكن تقسيم الدول العربية إلى ثلاث فئات، اعتماداً على مدى الجهود التي بذلتها للاستفادة من تطبيقات الفضاء العلمية وعلى حجم الإنجازات الملموسة التي حققتها في هذا المجال. الفئة الأولى تضم دولاً أقدمت بعد طول تردد على دخول مجال الفضاء، وقد بذلت في هذا الاتجاه خطوات جادة، بل أرسى بعضها بالفعل برنامجاً قومياً فضائياً وإن كان محدوداً، كما حققت نجاحات ملموسة ومنها اطلاق أقمار تجريبية وبحثية. ومن أبرز تلك الدول مصر والسعودية، وقد تميزت السعودية بخروج أحد أبنائها إلى الفضاء الخارجي، وهو الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز، ضمن رحلة المكوك الأميركي ''ديسكفري'' في منتصف عام 1985، كأول رائد فضاء عربي يقوم برحلة من هذا النوع.
الفئة الثانية تضم دولاً أبدت رغبة في دخول هذا المجال، لكنها لم تحقق انجازات ملموسة ولا تزال تحمل من الأمنيات أكثر من الوقائع والتفعيلات، ومن أبرز تلك الدول سورية والمغرب والجزائر، وإن حققت الأخيرة بعض النجاحات بإطلاقها قمراً تجريبياً محدود القدرة هو ''ألجير سات-.''1 وتضم الفئة الثالثة تلك الدول التي ألهتها المشاكل السياسية والنزاعات عن محاولة اقتحام هذا المجال، وبالطبع تدخل في هذا النطاق غالبية دول المنطقة.
أما على مستوى التعاون الإقليمي العربي، فلا توجد أي محاولة للتعاون الفضائي المشترك، ولا أي بادرة لإنشاء وكالة فضاء عربية مشتركة، تحاكي مثلاً تجربة وكالة الفضاء الأوروبية وتهدف لتوحيد جهود الدول العربية في هذا المجال من أجل اختصار الوقت والمسافة اللازمين للوصول الى عالم الفضاء وتقنياته.
اللوبي الإسرائيلي وحرب الاشاعات باعتبار إطلاق ''ايجيبت سات-''1 نقلة تكنولوجية ومعلوماتية هامة تصب في مصلحة مصر وتنمية المنطقة العربية عموماً، كان من الطبيعي ألا يعجب هذا إسرائيل ومن ورائها اللوبي الصهيوني. فكان أن خاضت صحيفتا ''معاريف'' و''جيروزاليم بوست'' وغيرهما من وسائل الاعلام في الدولة العبرية حملة مسعورة للتشكيك في أهداف القمر المصري، مدعية أنه سوف يخصص لأغراض عسكرية وخصوصاً التجسس العسكري على إسرائيل.
وعلى رغم أن هذا الاتهام شرف، وكنا نتمنى أن يكون حقيقة، على الأقل لتحقيق بعض التوازن العسكري والاستراتيجي مع دولة متخمة بالأسلحة ودأبت على معاداة كل جيرانها، إلا أنه ينافي الواقع لأكثر من سبب. الأول أن الدقة التصويرية الأرضية للقمر المصري لا تزيد على 8 أمتار، وهي لا تقارن بإمكانات الأقمار التجارية والعسكرية المتاحة فعلاً والتي تصل دقتها التصويرية إلى أقل من متر، ما يعني أن قدرته على رصد العربات والمعدات القتالية مثلاً سوف تكون معدومة أو محدودة للغاية. ثاني هذه الأسباب أن عملية تصنيع القمر وتطويره تمت منذ البداية في العلن ومن خلال مناقصة عالمية مفتوحة تقدمت لها 9 دول، ووقع الاختيار في النهاية على أوكرانيا لأسباب تتعلق بالتمويل والتقنية المطلوبة لا بقدرات أو أغراض عسكرية. أما أهم هذه الأسباب فهو أن القمر المصري يخضع منذ البداية للقانون الدولي للاستخدام السلمي للفضاء، كما أن مركز الفضاء العالمي التابع للأمم المتحدة في فيينا على علم بجميع تفاصيله الفنية والتقنية، ما يعني أنه لا يوجد شيء مخفي أو سري بخصوصه.
وبعيداً عن هذا التشويش المتعمد، يقول الواقع ان المنطقة بحاجة فعلاً لإطلاق قمر عربي للاستشعار عن بعد، يتيح الحصول على المعلومات من دون محاذير أو وصاية أو مراجعة مسبقة من أحد. فأراضي الدول العربية تمتد عبر مساحات شاسعة وتعج بثروات هائلة وخير وفير، وتحتاج إلى أداة فاعلة مثل المسح الفضائي والاستشعار عن بعد لاستكشافها واستغلالها في تنمية شعوب المنطقة وتحسين مستوى الفرد فيها.
أخيراً، ينبغي التأكيد على أن إطلاق قمر علمي أو إنشاء برنامج فضائي لا يعد جوراً على الأولويات التنموية والاقتصادية في أي بلد عربي، أو ترفاً معرفياً، كما قد يحسب البعض، بل هو استثمار واعد في مجالات كثيرة، وهو بناء معرفي وتنمية فاعلة تفرضها تحديات الحاضر وآفاق المستقبل.