قبل أشهر، تظاهر عدد من راكبي الخيول في باريس احتجاجاً على أمرين: انقراض العربات التي تجرها الأحصنة أو البغال، على عكس عواصم أوروبية أخرى، وتزايد تلوث ''مدينة النور'' مع تزايد الاعتماد على السيارة. شارك في التظاهرة عدد من الذين يأخذون على السيارة احتكار الطرق الباريسية، ورفعوا شعارات معادية لمن وصفوهم بـ ''الأنانيين''، في إشارة الى أصحاب السيارات، وبخاصة سائقي التاكسي الذين يعتقدون أن باريس لهم ولزبائنهم وأن الآخرين عالة عليهم وعلى المدينة.
وقد التقى سائق أجرة أحد أصدقائه المنخرطين في ناد لركوب الخيل وكان على رأس المتظاهرين، فقال له بين الجد والهزل: ''هل أنت من أنصار صاحب الحمار؟'' وكان يعني فرنسياً قصير القامة يعرفه معظم الباريسيين، لأنه يشق كل يوم عدداً كبيراً من شوارع باريس ومعه ثلاثة حمير أو أربعة، يسوقها قرب ساحة الأوبرا غير بعيد عن المحلات التجارية الضخمة، فيراها أطفال الباريسيين أو السياح فيرغبون في ان تلتقط لهم صور معها مقابل مبلغ رمزي. ويبدو أن ما يحصّله يكفيه ليعيش مطمئنـاً، لأنه يبدو سعيداً كلما مر قرب مبنى إذاعة فرنسا في الدائرة السادسة عشرة وهو في طريق العودة الى منزله خارج العاصمة الفرنسية.
هذا الرجل السعيد لا يحبه أصحاب سيارات الأجرة، لأنه كثيراً ما يعطل عليهم أعمالهم متى وجدوه أمامهم. لكنهم هذه الأيام يفضلونه كثيراً على راكبي الدراجات الهوائية، لأن ''صاحب الحمار'' شخص فريد من نوعه في العاصمة الفرنسية، وهو جزء من فولكلور، أما أصحاب الدراجات فعددهم يزداد يوماً بعد آخر. زد على ذلك ـ وهذا ما يقوله سائقو السيارات ـ أنهم يفاجئونهم في أي لحظة ويقطعون عليهم الطريق ويدفعونهم الى الخطأ والتسبب في حوادث أحياناً.
هواة الدراجة في باريس يردون هذه التهمة على أصحابها ويرون فيها كثيراً من المغالاة. صحيح أنهم يقرون بأن بعضهم لا يلتزم قواعد السير، لكنهم يجدون لأنفسهم أعذاراً فيها كثير من الصواب. فباريس كانت قبل عشر سنين في مؤخر العواصم الأوروبية التي أنزلت الدراجة في المنزلة التي تستحق، وبالتالي فإن الذي كان يركب دراجة هوائية ويتجول عبر شوارع المدينة أو دروبها الصغيرة كان فعلاً يغامر بحياته. وإذا كان المثل يضرب اليوم بلندن في تزايد عدد ضحايا راكبي الدراجات في حوادث السير، فإن ناشطي جمعيات هواة الدراجة الهوائية في العاصمة الفرنسية يعتبرون أن باريس كانت ولا تزال تبز مدينة الضباب في هذا السجل. لكنهم يقرون بأن وصول اليسار الى بلديتها عام 2001 شجعهم على المضي في المعركة الطويلة التي يخوضونها لإرساء مصالحة فعلية بين الباريسيين والدراجة.
فمن أهم الملفات التي اهتم بها الاشتراكي برتران دولانويه، عمدة المدينة الحالي، ملف قطاع النقل لمحاولة تخفيف زحمة السير والحد من تلوث المدينة. وكان مضطراً الى التحرك في هذه الطريق لأسباب عدة، من أهمها أن باريس تستفيد كثيراً من المرتبة الأولى عالمياً التي تحتلها فرنسا اليوم من حيث إقبال السياح. فالسائح الذي يختار مدناً أو مناطق أخرى غير باريس غالباً ما يدرجها في رحلته ولو لليلة واحدة. ومن الطبيعي أن يسعى دولانويه الى تحسين صورة مدينته لدى زوارها، خصوصاً عبر إيجاد مكان للدراجة الهوائية فيها. وهو يدرك من جهة أخرى أنه لولا حزب الخضر لما فاز في الانتخابات البلدية قبل ست سنوات، بل إن المسؤول عن قطاع النقل في بلدية باريس دونيه بوبان ينتمي الى حزب الخضر، وقد ظل يحرص منذ ستة أعوام على إرغام سائقي السيارات على الاعتراف براكبي الدراجات.
تجربة ''فيليب''
في منتصف شهر تموز (يوليو) الماضي سجل أنصار الدراجة انتصاراً كبيراً على أنصار السيارة من خلال البدء في تنفيذ تجربة جديدة أطلقت عليها تسمية ''تجربة فيليب''. وكلمة Velib مستمدة من كلمتين فرنسيتين هما Velo وتعني الدراجة الهوائية وliberte وتعني الحرية. ولما كان ركوب الدراجة يعطي الراكب انطباعاً بأنه حر، اقترحت بلدية باريس مزج الجزءين الأولين من الكلمتين، وباتت Velib تطلق على شبكة توفر للباريسيين وزوار باريس في مرحلة أولى عشرة آلاف دراجة هوائية موزعة على 750 محطة في دوائر العاصمة العشرين، ولا يفصل بين المحطة والأخرى أكثر من 300 متر. وينتظر أن يتضاعف عدد الدراجات والمحطات بعد عام وتطوير الشبكة في السنوات المقبلة.
وقد حرص عمدة باريس على إطلاق التجربة الجديدة شخصياً، وألقى خطاباً قال فيه: ''علينا أن نغير أنماط سلوكنا وعقلياتنا لنهدي عشاق باريس قليلاً من الهواء وكثيراً من الحرية''. وعلق على كلامه برنار بيكو، رئيس إحدى الجمعيات الداعية الى تعزيز مكانة الدراجة الهوائية في باريس، فقال: ''العمدة يوجه خطابه هذا الى ركاب السيارات الذين سيجدون أنفسهم مضطرين الى تغيير سلوكهم تجاهنا''. والواقع أن التجربة لقيت نجاحاً كبيراً منذ إطلاقها، لأسباب كثيرة، منها أن أسعار تأجير هذه الدراجات رمزية. فبإمكان المرء استعمالها مجاناً لمدة نصف ساعة، ودفع يورو واحد فقط إذا استخدمها يوماً كاملاً، و7 يورو في الأسبوع، و29 يورو في السنة كلها.
استخدم هذه الدراجات في اليوم الأول من التجربة قرابة 40 ألف شخص. بل إن نجاح العملية فاق كل التوقعات، حتى أن الناس يقفون اليوم أمام مستودعات الدراجات الهوائية في طوابير تشبه تلك التي نراها أمام محطات سيارات الأجرة في مطاري شارل ديغول وأورلي الباريسيين.
وفي محاولة لاستخلاص العبر من التجربة بعد أسبوع واحد على إطلاقها، قسمت صحيفة ''ليبراسيون'' الفرنسية المستفيدين منها الى خمس فئات: المتيّمين، والكسالى، والشجعان، والمتحايلين، والضائعين. فالمتيمون هم عموماً الذين يجدون في استخدام الدراجة الهوائية متعة وأي متعة للذهاب الى عملهم أو للتجوال، وهم عموماً من الكوادر العليا والمبدعين. والكسالى هم أولئك الذين يستخدمونها في المنحدرات فقط، لأن سلوك الطرق الصاعدة يكلفهم عناء لا يرغبون فيه. والشجعان هم الذين يرغمون أنفسهم على إقامة علاقة جديدة مع الدراجة في باريس، عبر الانخراط لمدة سنة كاملة والعدول عن شراء تذاكر المترو. أما المتحايلون، وغالبيتهم من الشبان، فهم أولئك الذين يسعون الى الاستفادة من الشبكة مجاناً بالاقتصار على استخدامها لنصف ساعة فقط. وأما الضائعون فهم الذين لا يعرفون كيف يفكون الدراجات من الأوتاد التي تشد اليها، أو الذين لا يستطيعون السير الى جانب السيارات وسلوك الطرقات المعدة للدراجات الهوائية.
وبات واضحاً من خلال الجولة الميدانية التي قمنا بها عبر العاصمة الفرنسية لإعداد هذا التحقيق أن التجربة أصبحت تحث كثيراً من الأسر الباريسية على شراء دراجات وحملها فوق السيارات الى خارج باريس خلال العطل القصيرة والطويلة. حتى المسنّون غدوا مقتنعين أكثر بأنهم قادرون على ركوب الدراجة واستخدامها كما يستخدمها الشبان.
ديكتاتورية السيارة
بقدر ما يشعر هواة الدراجة الهوائيــة اليوم بالاعتزاز في باريس بعد إطلاق تجربة ''الفيليب''، يعتبر حماة البيئة أن الطريق لتخليص العاصمة الفرنسية من التلوث ومن ديكتاتورية السيارة لا تزال شاقة. فإذا كانت بلدية برلين الألمانية أنفقت في السنوات السبع الأخيرة 15 مليون يورو لتوسيع المسالك المعدة للدراجات وتعميمها، فإن طول هذه المسالك في باريس لا يتجاوز اليوم 370 كيلومتراً. أضف الى ذلك أن تجربة ''فيليب'' الجديدة تمولها شركة متخصصة في الإعلانات التجارية. فهي التي اشترت الدراجات مقابل السماح لها باستخدام أماكن كثيرة في المدينة لوضع ملصقاتها الاعلانية مجاناً.
ويرى حماة البيئة أن على بلدية باريس، وعلى الدولة الفرنسية، الذهاب أكثر في عملية إرساء المصالحة الجديدة بين العاصمة من جهة والترام والدراجة من جهة أخرى. ولا بد من التذكير هنا بأن عمدة باريس كان قد افتتح في 6 كانون الأول (ديسمبر) الماضي أول خط للترام في باريس يمتد على طول ثمانية كيلومترات تقريباً ويصل جنوبها الغربي بجنوبها الشرقي. وهذا غير كاف، لأن الخط لا تستفيد منه اليوم إلا ثلاث دوائر من بين دوائر باريس العشرين. وينتظر أن تستكمل المرحلة الثانية من المشروع سنة 2012.
وليس الترام غريباً عن باريس، فالعــام 1853 شهد تسيير أول ترام تجريبي في العاصمة الفرنسية، وأصبح الترام وسيلة نقل أساسية في المدينة عام 1895. وقد وضع حد لهذه المسيرة عام 1938 حين عمم استخدام الحافلات على حساب الترام. ويحلم كثير من حماة البيئة اليوم بأن تنقرض السيارة تماماً من مدينة الأنوار، وأن يتم التنقل فيها عبر مترو الأنفاق والترام والدراجات الهوائية... وحتى الخيول إذا كان ذلك يثلج صدور هواة ركوبها.