في جنوب شرق سيبيريا، يحاول شعب الإفنك الرحّل الحفاظ على نمط حياته في وجه الزحف الحضري. لقد تلاشت الثقافة التقليدية لهذا الشعب المتمرس في تربية أيائل الرنة وصيد الحيوانات البرية والأسماك، نتيجة الاحتكاك بالحضارة الغربية. وتناضل عالمة الأعراق الفرنسية ألكساندرا لافرييه لانقاذ تراثه، وهي تزوجت رجلاً من الإفنك، وأسست مدرسة بدوية مترحّلة تتيح للأطفال تلقي العلوم الحديثة من دون التضحية بتقاليد أسلافهم. وتقديراً لجهودها المستمرة منحت جائزة رولكس لروح المغامرة عام 2006.
ألكسندرا لافرييه مواطنة فرنسية، لكنها شعرت دائماً أنها تنتمي الى أقصى الشمال. تقول: ''كنت في طفولتي أمضي ساعات في متحف الجنس البشري في باريس، محدقة في معروضات شعب الانويت (الاسكيمو) وشعوب سيبيريا''.
والآن، تمضي ألكسندرا (37 عاماً) ردحاً كبيراً من السنة بعيداً عن ترف باريس، في منطقة شديدة القساوة وسط غابات التيغا في سيبيريا، حيث تنخفض الحرارة شتاء الى ما دون 50 درجة مئوية تحت الصفر.
درست ألكسندرا اللغة الروسية في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية ومركز الدراسات المنغولية والسيبيرية في باريس. وتعلمت الياكوتية، وهي لغة سيبيرية محلية، من مهاجرين يعيشون في فرنسا. وفي العام 1994 رافقت هذه الشابة بعثة من المصورين الفرنسيين، كمترجمة ومتخصصة بالأعراق البشرية، فجابت معهم خلال ثلاثة أشهر منطقة ياكوتيا السيبيرية، التي فتنتها وهي طفلة. وهناك تعرفت على شعب الإفنك (Evenk) الأمر الذي غيّر مجرى حياتها. تقول: ''وجدتهم يكرمون الضيف أكثر من سائر الشعوب السيبيرية، وقد حافظوا على ثقافتهم ولغتهم أكثر من غيرهم''. وها قد مضت ثلاث عشرة سنة ولم تفتر عاطفتها، فقد تزوجت بدوياً من الإفنك من جبال ستانوفوي، ورزقا طفلة.
يعود أول ذِكر للإفنك كصيادين ورعاة لأيائل الرنة الى القرن السابع عشر، عندما لامست الامبراطورية الروسية أثناء توسعها شرقاً هذه المجموعة العرقية. في ذلك الزمن، لم يكن هناك احترام للتنوع الثقافي. وفي القرن العشرين حظرت الحكومة السوفياتية طقوسهم الشامانية، لكنهم حافظوا على معتقداتهم وتقاليدهم، غالباً في غاية السرية. وفي أواخر الستينات قررت السلطات اجبار أطفالهم على اتباع المنهج الدراسي النظامي، ما يفرض التحاقهم بمدارس داخلية حكومية وإقصاءهم عن أسرهم وحياتهم البدوية لأشهر وسنوات.
عرفت ألكسندرا لافرييه أن تعليم الأطفال هو العنصر الأهم لضمان مستقبل ثقافة الإفنك. فكرست وقتها وجهدها طوال ثماني سنوات لتأسيس المدرسة المتنقلة التي حلم بها الإفنك منذ وقت طويل. هذه المدرسة البدوية تعمل منذ مطلع 2006، بعد حملة ناجحة أطلقتها لافرييه للتغلب على العقبات الادارية الكثيرة التي اعترضت طريقها. وهي نجحت في تحقيق ما عجز عنه الآخرون لمدرسة بدوية تخدم أقلية سيبيرية. فبعد أن حصلت على موافقة وزارة التعليم الروسية والسلطات المختصة في اقليم آمور جنوب شرق سيبيريا، مُنحت المدرسة وضع ''مدرسة اختبارية رسمية''، وهو اعتراف يمهد الطريق لتجارب مماثلة في أماكن أخرى من سيبيريا.
أخيراً، أصبح لأطفال الإفنك مدرسة ترتحل معهم، تتكيف مع نمط حياتهم، ولا تقتضي منهم الانفصال عن أهلهم فترات طويلة وهم يتعلمون.
وتقديراً لهذا الانجاز الفذ، منحت ألكسندرا لافرييه عام 2006 ''جائزة رولكس لروح المغامرة'' التي ستكرس قيمتها النقدية، وهي 100 ألف دولار أميركي، لتسديد نفقات المدرسة خلال السنوات الثلاث الأولى الحرجة على الأقل، ما يغطي كلفة اللوازم التعليمية والأجهزة السمعية والبصرية، ورواتب ثلاثة مدرسين من الإفنك بمن فيهم لافرييه، ودليل، ومجموعة أيائل من الرنة للتنقل. كما تغطي الجائزة نفقات الكتب التي سوف تنتجها المدرسة البدوية عن لغة الإفنك وثقافتهم، وتوزيعها.
التلاميذ الـ 23 الملتحقون بالمدرسة تتراوح أعمارهم بين 6 و10 سنوات وينتمون الى مخيمات مختلفة. وهم يتمتعون بجميع المزايا التي يوفرها برنامج تعليمي كامل. وينتقل المدرسون من مخيم الى آخر وتتوقف المدة التي يقضونها في كل مخيم على المستويات والاحتياجات التعليمية للأطفال، الذين يتابعون تحصيلهم بأنفسهم بعد انقضاء المدة المخصصة لهم الى حين عودة المدرسة من جديد. واضافة الى المنهج الروسي التقليدي، تشمل مواضيع الدراسة اللغتين الانكليزية والفرنسية، وبرنامج توعية على الأنترنت، واستخدام جهاز كومبيوتر يشغله مولد كهربائي. وقد أصرت لافرييه على دروس اللغات والكومبيوتر لايمانها بأن التلاميذ يجب أن يمتلكوا وسائل سيحتاجونها للتعامل مع العالم الحديث والاستفادة منه. تقول: ''البنى التحتية الحكومية التي كانت توفر فرص العمل للإفنك تقفل الواحدة تلو الأخرى. لذلك ينبغي أن يكونوا مستعدين في المستقبل القريب جداً للدفاع عن حقوقهم، وأن يتعلموا عن اقتصاد السوق. قد يرغب بعضهم في تأسيس عمل أو مشروع خاص''.
التعليم المؤهِّل للعالم الحديث يتوازن حالياً مع رعاية تراث الإفنك في المدرسة المتنقلة، التي تمكن الأطفال من المكوث مع أهلهم وكبارهم، يتعلمون صيد السمك والاعتناء بقطعان الرنة ويمارسون طقوس شعبهم. وتتاح لهم الفرصة كي يدرسوا عاداتهم وتقاليدهم في الصف ويساهموا في المحافظة عليها.
وتعتمد لافرييه على تعاون تلاميذها في إعداد الكتب التي تنتجها، بما في ذلك دليل للثروات النباتية والحيوانية في غابات التيغا، يشرح كيف يستغل الإفنك بيئتهم ويديرونها في ظل الظروف القاسية التي تسودها، وكيف يتفرقون وينتشرون في الشتاء كي يستفيدوا الى أقصى حد من الموارد القليلة المتوافرة. وعندما يعود الطقس الدافىء يجتمعون في لقاء كبير قبل أن يسوقوا قطعانهم من أيائل الرنة الى مراع مرتفعة حيث حرارة الصيف أقل قسوة عليها. يلي دليل الثروات النباتية والحيوانية كتيب عن لغة الإفنك، وكتاب عن تقاليدهم ومعتقداهم. وسوف تساعد هذه المنشورات أبناء الإفنك الكثيرين الذين استقر بهم المقام في مناطق مختلفة من روسيا ليكتشفوا جذورهم من جديد. هذه المنشورات الجديدة ستكون عنصراً مهماً في اعادة إحياء ثقافة الإفنك.
منذ انتهاج سياسة البريسترويكا الاصلاحية في أواخر الثمانينات، اكتشفت روسيا غنى شعوبها العرقية وسعت لاعادة تأهيلها. ومُنح الإفنك، شأنهم شأن نحو 30 أقلية سيبيرية أخرى، وضعاً خاصاً ودرجة من الحكم الذاتي بهدف تعزيز هويتهم وتقاليدهم. لكن الموارد المتوافرة أقل من أن تصلح الضرر الذي سببته قرون من التآكل الثقافي. ولم يبق من شعب الإفنك في روسيا الا 30 ألفاً، تخلى معظمهم عن الحياة البدوية وعن غابات التيغا، وباتوا يعيشون في قرى وبلدات ومدن، من دون أي ذكريات عن تقنيات أسلافهم في صيد الطيور والأسماك. ففي أحوال كثيرة، تحول هؤلاء الرجال والنساء الى الزراعة، ولم يعد ثلثاهم يتكلمون لغتهم التقليدية. وقلّما يحسدون على نمط حياتهم المستقرة، فقد لاقوا صعوبة في التكيف مع المجتمع الروسي العصري. وكما هي حال جميع الأقليات السيبيرية، بلغت البطالة في أوساطهم حداً فاق بكثير المعدل الروسي. ولا تبلغ مرحلة التعليم العالي الا أقلية منهم.
من هؤلاء الإفنك المستقرين استقدمت لافرييه المدرسين اللذين يعملان معهـا في المدرسة البدوية المتنقلة. لكن العثور عليهما واقناعهما بقبول الوظيفتين تطلبا جهداً كبيراً. فالتخلي عن الحياة العصرية، مهما كانت متواضعة، من أجل العودة الى الحياة البدويـة التي تتطلب تحمل قساوة الشتاء السيبيري، قرار صعب حتى عندما تندر الوظائف.
النجاحات التي حققتها لافرييه لمصلحة الإفنك استندت الى معرفتها الاستثنائية بعالمهم، التي اكتسبتها جزئياً من خلال الدراسة وأساساً في ميدان العمل. ولئن أجرت أبحاثاً في مكتبات سبيبريا وأرشيفاتها، فإن المصدر الرئيسي لمعلوماتها هو الأشهر التي أمضتها كل سنة مع هؤلاء الناس منذ رحلتها الأولى عام .1994 فهي تشاركهم حياتهم البدوية، وتدرس تقاليدهم ونمط عيشهم، على الطرق وفي الغابة صيفاً وشتاء، داخل خيمة أو ركوباً على ظهر أيل. وتقوم لافرييه حالياً بتعريف العالم الخارجي على نمط حياة الإفنك من خلال المحاضرات والمقالات. وفي العام 2005 قدمت أطروحة دكتوراه الى معهد الدراسات العليا في باريس ونالت شهادتها بامتياز. تقول: ''لأنني أعرف كل شيء عن بدو الإفنك وظروفهم المعيشية وبيئتهم، كانت لدي الثقة بأن أقدم على مشروع المدرسة البدوية كمشروع ناف وقابل للحياة''.