تحتل البرازيل المرتبة الاولى عالمياً في انتاج السكر. عام 1975، باشرت برنامجها لانتاج الايثانول من قصب السكر استجابة لارتفاع اسعار النفط. واليوم، بات هذا الوقود الكحولي يشكل نحو نصف مجموع الوقود الذي تستخدمه سيارات الركاب في البلاد. هذا النجاح البرازيلي حفز بلداناً أخرى على إنتاج الايثانول أو استيراده، وقد استحق حتى تقدير منظمة البلدان المصدرة للنفط (اوبك) فأعدت OPEC Bulletin تقريراً موسعاً عنه، هنا أبرز ما جاء فيه.
البرازيل، أرض البن والكرنفال وكرة القدم، بلاد شاسعة الأرجاء، تحتل نحو نصف مساحة القارة الأميركية الجنوبية والمرتبة الثامنة عالمياً في عدد السكان. يشق أرضها في الشمال نهر الأمازون العظيم، وفيها أكبر غابة مطيرة تشكل ملاذاً لخُمس جميع الأنواع الحية المعروفة على كوكب الأرض.
تشكل قطاعات الزراعة والتعدين والتصنيع والخدمات العمود الفقري للاقتصاد البرازيلي الذي شهد نمواً لافتاً خلال السنوات القليلة الماضية، متقدماً جميع البلدان الأميركية الجنوبية الأخرى، ومؤكداً مكانته في مجموعة البلدان الأربعة التي شهدت نمواً اقتصادياً ضخماً في العقد الأخير وهي البرازيل وروسيا والهند والصين.
لكن في هذه البلاد الجميلة الناشطة مجالاً للعمل لا يعرف عنه كثيرون، حقق نجاحاً ''حلواً'' يعزز الازدهار الاقتصادي. إنه السكر، وبالتحديد قصب السكر، الذي يجلب للبلاد نعماً لم تكن في البال. وتعتبر البرازيل حالياً أكبر منتج ومصدّر للسكر في العالم. فهي تنتج سنوياً نحو 30 مليون طن، تصدّر نحو ثلثيها. ومع ارتفاع الطلب العالمي نحو 2,4 في المئة سنوياً كمعدل وسطي خلال السنوات العشر الماضية، باتت هذه الصناعة عملاً مزدهراً.
وكما هي حال كثير من المنتجات المتداولة في الأسواق العالمية، هناك مهمات لقصب السكر تتعدى مجرد إشباع شهية العالم للحلويات. فقد أتاح فرصة أثبتت السلطات البرازيلية بعد نظر في استغلالها منذ سنوات. العملية بسيطة، وانما فعالة، تبدأ بتعرية قصب السكر الطبيعي من أوراقه وسحقه ليتحول الى معجون مائي القوام يتم تخميره. أما المادة الناتجة في النهاية، أي كحول الايثانول، فقد باتت مصدراً تكميلياً للطاقة في العالم بقيمة بلايين الدولارات.
لم يحقق أي بلد نجاحاً في قطاع الوقود الحيوي هذا مثلما فعلت البرازيل. واليوم، بعد ثلاثة عقود من البحث عن مصادر كفوءة لطاقة ''أخرى''، باتت محطات التعبئة في أنحاء البلاد مجهزة بمضخات تعطي ثلاثة بدائل للبنزين: الايثانول الخالص، ومزيج من البنزين والايثانول يدعى ''غازوهول'' (من كلمــتي gasoline و (alcohol والغاز الطبيعي المضغوط. هذا التبصّر المبكر لاستعمال أنواع وقود بديلة حوَّل البرازيل الى رائدة عالمية في الايثانول. وهي في الواقع تشاطر الولايات المتحدة المرتبة الأولى في انتاجه، لكنها تحتل المرتبة الأولى في تصديره.
إن نظرة أقرب تظهر أن البرازيل تتقدم الصفوف في صنع الايثانول من قصب السكر، بينما الولايات المتحدة هي أكبر منتج في العالم للايثانول الذي أساسه الذرة. لكن البرازيل ما زالت متفوقة، اذ ان الايثانول الذي تستخرجه من قصب السكر أكفأ طاقة وأرخص انتاجاً.
باشرت البرازيل برنامجها الخاص بالايثانول عام 1975 استجابة لارتفاع أسعار النفط الخام. ففي ذلك الوقت، كانت تستورد نحو 90 في المئة من احتياجاتها النفطية، ما يعني أن أي ارتفاع جوهري في سعر النفط الخام كان مضراً باقتصادها. وكان تطوير أنواع مبتكرة من الوقود الحيوي خياراً واضحاً، بفضل ما تمتلكه البلاد من امتداد هائل للأراضي الزراعية، فضلاً عن المناخ المؤاتي.
مرونة في استهلاك الوقود
كما هي حال أي صناعة ناشئة، كانت هناك مشاكل في البداية، وأول سيارات استخدمت وقود الايثانول لم تعمل على نحو جيد جداً. لكن عندما تحسنت النوعية مع ادخال مزيد من التكنولوجيا المتطورة، وتكيفت محركات السيارات معها، انطلقت الصناعة. وتم اعداد ''مطاحن'' تنتج الوقود بشكل أتاح تحويل عملية الانتاج بسرعة من السكر الى الايثانول. وقد ثبتت فعالية هذه الطريقة في تلبية الطلب المتقلب على هذين المنتجين، مما شكل حالة رابحة على الدوام تستمر حتى اليوم.
تبين الأرقام الحكومية أن السيارات العاملة بالايثانول استأثرت عام 2002 بنسبة ثلاثة في المئة من السوق المحلية. لكن في السنة التالية، ورغبة في استغلال الثروة المحتملة التي يوفرها هذا الوقود البديل، بدأ صانعو السيارات إنتاج طرازات مرنة في استخدامه تستطيع السير على الايثانول أو البنزين أو على مزيج منهما. تلك كانت سنة تحول بالنسبة الى الصناعة. واليوم، تشكل السيارات المصنفة ''مرنة في استخدام الوقود'' (flex fuel vehicles) نحو 75 في المئة من جميع مبيعات السيارات الجديدة في البرازيل، فيما يشكل الايثانول نحو نصف مجموع الوقود الذي تستخدمه سيارات الركاب.
الايثانول الصرف أرخص ثمناً من الغازوهول، لكنه ليس بالكفاءة ذاتها في المسافة التي تقطعها السيارة بليتر واحد من الوقود القياسي. وهذا يعني أنه عند تقلب الأسعار يملأ السائقون في البرازيل خزاناتهم بأحد المنتجين تبعاً لذلك. وقد تبين أن هذا النظام مفيد واقتصادي. واليوم، يستطيع السائقون تعبئة خزاناتهم بالايثانول من 29,000 محطة وقود في أنحاء البلاد. وهذا رقم يثير الاعجاب عندما نعلم أن في الولايات المتحدة كلها نحو 600 محطة وقود فقط تبيع مزيجاً من الايثانول والبنزين.
مع بقاء الطلب على الايثانول قوياً، ينبغي على المنتجين البرازيليين الآن القيام بعمل توازني لتلبية الاحتياجات المحلية وسوق التصدير المتنامية والواعدة بالربح الوفير. ومع توقع ارتفاع الطلب بمقدار النصف خلال السنوات الخمس المقبلة، ترى الحكومة أن من الضروري توسيع قدرة الانتاج في البلاد بأسرع وقت ممكن.
تفيد ''جمعية الوقود المتجدد'' أن البرازيل أنتجت السنة الماضية نحو 16 بليون ليتر من الايثانول، صُدِّر منها نحو 15 في المئة. لكن الحكومة واثقة بأن مطاحن قصب السكر الاضافية المقررة ستلبي الطلب التصديري المتزايد. وتغطي زراعة قصب السكر المتنامية مساحة تزيد على 25 ألف كيلومتر مربع، لكن امكانات التوسع كبيرة. ومن المشاكل التي تواه الحكومة البرازيلية تأثر زراعة قصب السكر على البيئة، اذ من المقرر استغلال مناطق جديدة، وغابة الأمازون جذابة جداً للمنتجين لأن مناخها الحار يتيح اعتماد دورتين زراعيتين كل سنة، ما يعني مضاعفة الانتاج.
تصدير الايثانول
مع تعاظم القدرة الانتاجية لصناعة الايثانول، تعاظمت أيضاً حصة صادراته. فالولايات المتحدة والهند وكوريا الجنوبية واليابان وفنزويلا تحصل جميعاً على امدادات الايثانول من البرازيل. وهناك توسع رئيسي آخر في تجارة الايثانول يشمل اليابان التي ينتظر أن تقرر قريباً ما اذا كانت ستجعل مزيج البنزين والايثانول إلزامياً. واذا حدث هذا فسوف يقفز الطلب العالمي أكثر من 30 في المئة.
شركة النفط الحكومية في البرازيل ''بتروبراس''، التي تضطلع بجميع صادرات الايثانول، قدرت أن اليابان يمكن أن تستورد ما بين 1,8 بليون و6 بلايين ليتر، وذلك يتوقف على ما اذا كانت حكومتها ستفرض مزيجاً من الايثانول في البنزين بنسبة 3 أو 10 في المئة. وقد أفادت وزارة الزراعة في البرازيل أن اليابان اشترت ما يزيد على 300 مليون ليتر من الايثانول البرازيلي عام 2005. وتم مؤخراً توقيع مذكرة تفاهم بين ''بتروبراس'' وشركة ''ميتسوي'' اليابانية لاجراء دراسات حول الوقود الكحولي. وبدأت ''بتروبراس'' في آذار (مارس) 2006 مشروعاً مشتركاً مع شركة ''نيبون ألكوهول هانباي'' لتأمين صادرات اضافية من الايثانول الى اليابان.
صادرات البرازيل من الايثانول بلغت عام 2005 نحو 2,5 بليون ليتر، أي أكثر من 10 أضعاف صادرات عام 2000. وهي تستأثر بأكثر من نصف تجارة الايثانول العالمية، وتأتي أوروبا في المرتبة الثانية بفارق كبير، اذ بلغت حصتها في السوق 12 في المئة.
الولايات المتحدة سوق تصديرية مهمة للبرازيل. فقد ازداد الاهتمام بالايثانول هناك في أعقاب خطوات اتخذتها الادارة الأميركية للاستغناء مرحلياً عن استعمال مادة MTBE التي تضاف الى الوقود أثناء تكرير المشتقات النفطية لتحسين اداء المحركات. اضافة الى ذلك، أقر الكونغرس الأميركي في تموز (يوليو) 2005 قانوناً للطاقة يقضي بأن تستخدم الولايات المتحدة أكثر من 28 بليون ليتر من الوقود المتجدد بحلول سنة 2012، وذلك في محاولة لتقليل الاعتماد على النفط الخام المستورد.
في عام 2005، أنتجت الولايات المتحدة 16 بليون ليتر من أصل 16,35 بليون ليتر من الايثانول الذي تحتاجه. ولديها القدرة حالياً على إنتاج نحو 16,3 بليون ليتر. لكن الدلائل تشير الى أنها ستحتاج الى امدادات متزايدة في السنوات المقبلة. وقد زار أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي البرازيل مؤخراً وأجروا محادثات حول زيادة مستوردات الايثانول.
كذلك الصين، التي تشهد نمواً كبيراً وسريعاً وتحتاج الى مصادر طاقة متزايدة لدعم اقتصادها المزدهر، تريد هي أيضاً الاعتماد على الايثانول وسط تصاعد أسعار النفط الخام. واذ تبدو امكانات الايثانول المستقبلية مشرقة جداً، تقرر انشاء مزيد من المصانع المتطورة التي تنتجه. وقد وظفت شركات برازيلية 9 بلايين دولار لتوفير مرافق اضافية ترفع الانتاج الى مستويات أعلى وتتيح مضاعفة الصادرات بحلول 2010.
لكن التفكير المستقبلي هو أنه اذا كان للايثانول أن يحتل موقعاً مؤثراً في امدادات الوقود العالمية، فان مصدره الرئيسي لن يكون الذرة أو قصب السكر، وإنما اللقائم الأكثر وفرة، مثل المخلفات الزراعية والغابية والنبات العشبي ونشارة الخشب. على سبيل المثال، المخلفات الزراعية مثل سيقان الذرة وقش الرز والقمح تبقى في الحقول أو تحرق، وتظهر الدراسات أن تجميع ثلثها يمكن أن يغل أكثر من 50 بليون ليتر من الايثانول.
يبدو أن المجال مفتوح بلا حدود. وبما أن الطلب العالمي على الطاقة مهيأ للارتفاع بحدة في السنوات المقبلة، فان أنواع الوقود الحيوي لن تلبي إلا جزءاً من الاحتياجات الوقودية، ما لم يتم ادخال تحسينات جوهرية في مجال اقتصاد السيارات بالوقود وتكنولوجيات تحويل الكتلة الحيوية، علماً أن هذه التكنولوجيات آخذة في التوافر سريعاً ولكن ما زال اعتمادها مكلفاً جداً.
تطوير البنية التحتية
على رغم الخطوات الكبيرة التي تحققت في صناعة الوقود الحيوي، فمن الواضح أن تطوير سوق متكاملة للايثانول سوف يستغرق بضع سنوات. لكن كل شيء مهيأ لحدوث ذلك. فلدى البرازيل اليوم القدرة المادية لتصدير أكثر من 7,5 بليون ليتر من الايثانول سنوياً، ما يزيد على نحو ثلاثة أضعاف المستوى الراهن. لكن وسائل نقل الوقود الى موانئ التصدير بأسعار تنافسية ما زالت في مرحلة البداية. وحالياً، تستعمل الشاحنات الصهريجية لهذا الغرض، لكن اذا أنشئت شبكة أنابيب واسعة الانتشار، فان ذلك سيجعل مجمل العملية أقل كلفة بكثير. ومع الازدياد الكبير في عدد المطاحن الجديدة، تعدّ ''بتروبراس'' دراسة لانشاء خط أنابيب ينقل كمية تصل الى 3,8 بلايين ليتر من الايثانول سنوياً من مراكز الانتاج الى الساحل للتصدير.
المنتجون البرازيليون يهتمون أيضاً باقامة مزيد من الشراكات لتكوين قاعدة أقوى للصناعة. وقد دخلوا في مفاوضات مع شركات أميركية حول مشاريع مشتركة. وهم يريدون أيضاً ترويج استعمال الايثانول في بلدان أخرى، وتوظيف خبرتهم الواسعة في مساعدة البلدان المنتجة لقصب السكر، خصوصاً في العالم النامي، لتأسيس صناعات فيها لانتاج الايثانول.
وتأمل البرازيل أن تحقق استقلالاً طاقوياً هذه السنة. فقد أعلنت ''بتروبراس''، التي تقول إن صناعتها النفطية هي الأسرع نمواً في العالم، ان معدل الانتاج النفطي الوطني بلغ نحو 1,9 مليون برميل يومياً عام 2006، أي أكثر من معدل الاستهلاك الذي بلغ 1,85 مليون برميل يومياً. ومع تشغيل المزيد من منصات الانتاج البحرية، تتوقع ''بتروبراس'' أن تنضم الى مصدري النفط العالميين، بحيث يزيد الانتاج على الطلب بنحو 300 ألف برميل يومياً سنة 2010. وهذا ينطوي على تغيير جوهري عن سبعينات القرن العشرين عندما كانت البرازيل تستورد 90 في المئة من النفط الذي تستهلكه.
مع انطلاقة البرازيل في مجالي النفط الخام والايثانول، يبدو المستقبل أمامها واعداً للغاية.