منذ كنت طالباً، جمعتني وزملاء الدراسة من دول عربية مختلفة حوارات كان واضحاً من خلالها أن هناك حاجة حقيقية إلى كتاب مرجعي مخصص للصحة العامة في منطقتنا. لم تتغير هذه الحاجة على مدى السنوات الـ15 الماضية، وإنما أصبحت أكثر تعقيداً وأوسع أفقاً، وهي التي قادت فريقاً من الباحثين للعمل على تأليف وإعداد كتاب «الصحة العامة في العالم العربي».
بفصوله الـ38 وصفحاته الـ520، هذا أول كتاب من نوعه في المنطقة، لأن أدبيات العالم العربي ركزت على السياسة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ وغيرها ولم تقارب الصحة بعمق. أما الأدبيات الدولية حول الصحة فلم تتعامل مع العالم العربي كوحدة تحليلية، بل آثرت تحديدات جغرافية مثل «الشرق الأوسط» أو «الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» أو «إقليم شرق المتوسط»، ومعظمها لا يضم كلّ الدول العربية. من خلال التركيز على العالم العربي، أراد المساهمون أن يسد الكتاب نقصاً مهماً.
الكتاب مبني على التشبيك والحوار والرؤية المشتركة التي جمعت باحثيه الـ81 وهم من خلفيات معرفية ومهنية متعددة. تطلّب إنجازه سنوات، لأن هذا ما يتطلبه العمل الجماعي والتراكم الضروري لخبرات التأليف والتحرير الهادفين إلى إنتاج معرفة جديدة تشبهنا وتعبر عنّا.
ينحو الكتاب مسارين متلازمين. فهو يعرض ويوثق ويحلل لحالة صحة السكان ووضع الصحة العامة كحقل، ولكنه يقدم أيضاً مقاربات نظرية ونقدية جديدة من مجالات معرفية متعددة: فيطرح الصحة إحساساً بالعافية والكرامة، مفهوماً اجتماعياً له محددات في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، حقاً للناس، قضية حداثة، مشروع سياسة للنضال من أجل التغيير نحو العدالة الاجتماعية وحتى التغيير السياسي، مجالاً معرفياً مفتوحاً يساهم فيه باحثون من مجالات أخرى كالعلوم الاجتماعية وغيرها، لا حقلاً تقنياً محصوراً بالمختصين الكليّي المعرفة.
من منظور الصحة، ليس المشترَك ما يميز العالم العربي، إذا نظرنا إليه كوحدة، بل التباين الشديد في مؤشرات الصحة وفي وضع الصحة العامة كحقل ومؤسسات وموارد. مثلاً، يختلف معدل وفيات الأمهات بما يعادل 160 ضعفاً بين بعض دول الخليج والصومال. ليس الهدف تسجيل الأرقام وتوثيق الفوارق فقط، بل ربط ذلك بمفهوم أساسي: لا يمكننا تطوير الصحة على مستوى المنطقة ككل في غياب إطار للعمل المشترك المبني على التعاضد والتكافل.
إبراز هذه اللامساواة، وهي موجودة ليس فقط بين الدول بل أيضاً داخلها، كان خطاً أساسياً في أقسام الكتاب، ولكنه شكّل المحور الأساسي للقسم الثاني المعنون بالمحددات الاجتماعية للصحة. ولئن راجع الباحثون الفوارق في مؤشرات الصحة بين الجماعات المختلفة المعرّفة بمؤشرات الاختلاف الشائعة، مثل الجنس الاجتماعي (الجندر) والتعليم والدخل ومكان السكن (الريف أو الحضر/المدن)، فقد طرحوا محددات أخرى أقل معالجة، كالرأسمال الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والإقصاء والتهميش.
في إبراز الفوارق والتحديات المستمرة، لا يقصد الكتاب إغفال التقدم الهائل الذي شهدته المنطقة في العقود الماضية على مستوى الصحة، بل التأكيد على أن هناك الكثير مما يتوجب القيام به لتحقيق عدالة أفضل في الصحة. هذه العدالة، كما وجد الزملاء في أكثر من فصل، ليست هدفاً أساسياً في غالبية بلدان المنطقة.
فرص متاحة
الفوارق في الصحة هي أيضاً في صلب اهتمامات القسمين الثالث والرابع من الكتاب ولكن المقاربة هنا من زاوية مختلفة. يركز القسم الثالث على الأمراض ويبرز مفهوم العبء المزدوج، حيث أصبحت الأمراض غير الانتقالية أو المزمنة، كالأمراض القلبية الوعائية والسكري والسرطان والأمراض النفسية، هي المسؤولة عن القسم الأكبر من الوفيات واعتلال الصحة، ولكن مع استمرار وطأة الأمراض الانتقالية أو المعدية والإصابات. ويتم ربط العبء المزدوج مع تحديات تنموية أوسع. كان يمكن لنا فعل الكثير لتجنب وباء الأمراض المزمنة وتخفيض عبء الأمراض الانتقالية والإصابات من خلال مقاربات مختلفة للتنمية والتحديث والنظم الصحية. ويطرح المشاركون في الكتاب الفرص الكثيرة المتاحة أمامنا اليوم. ولئن ركز الباحثون على ضرورة مقارعة الأمراض، فقد طرحوا أيضاً ضرورة مقاربة أوسع للصحة كمفهوم «إيجابي»، كالعافية، يجب النظر إليها في سياق اجتماعي أوسع، وكذلك أهمية عدم استيراد مفاهيم صحية جاهزة وإسقاطها بشكل غير نقدي في مجتمعاتنا.
يبحث القسم الرابع في صحة المجموعات السكانية من الأطفال والشباب والنساء وكبار العمر. ويميزه المنظور الواسع، بما يتعدى بحث الاحتياجات الصحية الخاصة بكل مجموعة إلى مناقشة الوضع الأسري والاجتماعي والسياسات الاجتماعية المطلوبة لتحسين عافيتها. ويسلط الضوء على مجموعات سكانية قلما تعالجها أدبيات الصحة، وهي العمال، فيقترح الباحثون مقاربة أوسع وأرحب من الصحة المهنية. ويركز الفصل الأخير على مجموعة منسية هي العمال المهاجرون، من خلال دراسة حالة عاملات المنازل في لبنان، لنرى ليس فقط معاناة هؤلاء العمال بل أيضاً تحركهم من أجل حقوقهم.
لا يستوي حديث عن شأن عام كالصحة في منطقتنا من دون الحديث عن التأثير العميق للحروب والاحتلال والعقوبات والاستبداد على الصحة ومؤسساتها. وهذا تركيز القسم الخامس الذي يقدم دراسة حالات فلسطين والعراق ولبنان. من خلال دراسة حالة النازحين إبان العدوان الاسرائيلي على لبنان في 2006، يستخلص الباحثون ضرورة إعادة النظر في بعض مسلمات وافتراضات عاملي الإغاثة والباحثين الصحيين حول ما يحتاج إليه النازحون في الأزمة الحادة، وهو ليس فقط الغذاء والمأوى والدواء، ويبرزون موضوع فهم مكونات صمود المجتمع ودعمه كشأن من صلب اهتمامات الصحة العامة.
ويتناول القسم السادس النظام الصحي واستجابته للتحديات المطروحة وما ينقصه. وإذ يركز على دراسة مكونات الحوكمة والتمويل والقوة العاملة الصحية والخدمات الصحية والأدوية الأساسية، والتحديات في كل منها، لا تضيع عليه الدعوة إلى المقاربة الأوسع للنظام الصحي كمنظومة متكاملة تعمل مكوناتها بتناغم بناءً على رؤية استشرافية وعقد اجتماعي. وهنا يكمن التحدي، حيث تندر منظومة كهذه في المنطقة العربية.
لقد تعمّدتُ تأخير تقديم القسم الأول، وهو يتطرق إلى الإطار الأوسع للصحة. نتعلم مثلاً أن استثمارات الدول في مرحلة ما بعد الاستقلال في تحسين حياة الناس وحمايتهم، وبشكل خاص في مجال الصحة والتعليم والتشغيل، كان لها الدور الحاسم في التحسن السريع لمؤشرات الصحة. ولكن هذه الاستثمارات بدأت بالتراجع منذ السبعينات في ظل «اللبرلة» الممزوجة بالفساد وسوء الإدارة. كل هذا في ظل نماذج التنمية الهزيلة العاجزة عن تلبية حاجات الناس وخاصة الشباب في ظل التغيرات الديموغرافية الهائلة.
الصحة دافع للربيع العربي
كُتب الكتاب قبل انطلاق الثورات العربية. لم نتنبأ بها، لكن كثيراً من محددات مشاكل الصحة المعروضة في الكتاب، كاللامساواة والتهميش والبطالة وغياب المجتمع في القرار، هي أيضاً مسببات للحراك الشعبي. فالصحة تعكس المشاكل الأوسع للمجتمع، ولكنها يمكن أيضاً أن تكون جزءاً من الحل. هذا ما طلبه المساهمون، وخاصة في القسم السابع، من خلال التأكيد على العدالة في الصحة، التي ربما يصعب تحقيقها من دون عدالة أوسع، ولكنها ربما تكون في ذاتها مدخلاً لعدالة كهذه. يمكن فعل ذلك من خلال طرح المساواة في الصحة كمسؤولية اجتماعية وسياسية، ومن خلال التأكيد على أهمية المبادرات التشاركية التي يلعب فيها الفاعلون المجتمعيون دوراً أساسياً في تحسين صحة المجتمع وعافيته بحيث لا يكون المجتمع متلقياً للخدمات فقط، ومن خلال ربط الصحة بالأمن الانساني، ومن خلال الدعوة إلى أن يكون العمل في مجال الصحة مدخلاً إلى ديموقراطية وتغيير أوسع في الفضاء السياسي والاجتماعي.
ربما كان الكتاب مختلفاً لو كتبناه وقد تغيّرت المنطقة، لكن مقارباته الواسعة للصحة ورسائل الباحثين تجعله أكثر أهمية وراهنية في ظل الفرص التي طرحتها تضحيات الشعوب. إن التحدي أمامنا هو ترجمة هذه المقاربات وتلك الرسائل.
المعرفة الجديدة التي طرحها الباحثون تخدم في التأسيس لحركة متجددة في الصحة ذات رؤية واسعة ومشاركة مفتوحة من أطياف المجتمع المختلفة من أجل تحقيق عافيته. هذا في متناولنا اليوم.