صباح يوم غائم، غادرت ثلاث سيارات رباعية الدفع وسط مدينة سانتاريم في ولاية بارا البرازيلية الشمالية متجهة الى الطريق السريعة BR-163، احدى الطرق الرئيسية التي تمر في قلب غابة المطر الأمازونية. الوقت ما زال مبكراً، فالساعة السادسة صباحاً، والحرارة 28 درجة مئوية مع بعض الأمطار الخفيفة. إنه يوم شتوي تقليدي في حوض الأمازون.
السيارات تقل صحافيين دوليين وموظفين من الصندوق العالمي لصون الطبيعة (WWF) وعلماء من معهد الأمازون للأبحاث البيئية (IPAM). وقد حملت معدات ولوازم كافية لرحلة مرهقة طولها 100 كيلومتر على احدى أطول الطرق السريعة في البرازيل. فما زال جزء كبير منها غير معبَّد بالاسفلت، تتخلله الوحول في فصل الأمطار فيتعذر سلوكه. ويتخوف دعاة الحفاظ على الطبيعة من أن يؤدي تعبيد الطريق كلها الى مزيد من الدمار في حوض الأمازون.
المسافات على تلك الطريق طويلة جداً: 2910 كيلومترات الى العاصمة برازيليا، 3922 كيلومتراً الى ساو باولو، 4114 كيلومتراً الى ريو دي جانيرو. أما المسافة الى عاصمة الولاية كويابا فهي 1767 كيلومتراً... فقط!
أين الغابات؟
شقت الطريق السريعة BR-163 في سبعينات القرن العشرين كجزء من خطة حكومية لتطوير حوض الأمازون. وعلى رغم انجازها عام 1972، فما زال نحو 956 كيلومتراً بلا اسفلت، كما أن كثيراً من الأجزاء المعبدة تحتاج الى صيانة. وتعتزم الحكومة البرازيلية تعبيد الطريق بكاملها لتسهيل نقل منتوج الصويا ومحاصيل تجارية أخرى.
لكن ذلك قد تكون له نتائج كارثية على البيئة. ويقول ماورو أرملين، منسق برنامج التنمية المستدامة لدى الصندوق العالمي لصون الطبيعة: ''ان تطوير الطرق السريعة في البرازيل أدى الى زوال الغابات على نطاق واسع، والى استغلال جائر لموارد طبيعية أخرى نتيجة اقامة مستوطنات جديدة وازدياد قطع الأشجار وتوسع الزراعة''. وتشير دراسة حديثة أجريت حول طريق سريعة أخرى في حوض الأمازون الى أن معظم زوال الغابات حدث ضمن أول 50 كيلومتراً.
الجزء المعبّد الوحيد من الطريق في ولاية بارا قريب من سانتاريم، حيث يتاخم جانب منه غابة تباجوس الوطنية، التي كرست محمية عام 1974 وتؤوي على مساحة 5450 كيلومتراً مربعاً عدداً كبيراً من أنواع الطيور والنباتات. وتعيش 1900 عائلة من السكان الأصليين داخل الغابة وحولها في 29 تجمعاً سكانياً، منتظمة في تسع جمعيات أهلية وتعاونية واحدة.
وفيما جانب واحد من الطريق السريعة محمي، تحفّ بالجانب الآخر رقع صغيرة من الأحراج، وتغطي بقية المنطقة مزارع الصويا والمراعي الواسعة. وقد توقفت قافلتنا على جانب الطريق قرب أحد هذه المراعي افساحاً في المجال لمرور قطيع ضخم من الأبقار يضم نحو 1000 رأس، كان أربعة رعيان يسوقونه من مزرعة الى أخرى سالكين الجزء القصير المعبّد من الطريق السريعة.
قرية على الطريق
غادرنا الطريق السريعة الى احدى الطرق الجانبية الكثيرة غير المعبّدة. فتراءت أمامنا في كل اتجاه مراع مكشوفة وأراض اجتثت غاباتها. أفضت بنا تلك الطريق الى المقر الرئيسي لشركة ''مافلوبس'' لادارة الغابات، التي تعتمد تقنيات الاستغلال المستدام للخشب وتدعم ادارة الغابات من قبل المجتمعات المحلية.
قال لنا مدير الشركة انطونيو أبيلاردو ليت: ''اننا نفكر على المدى الطويل ونعمل في مناطق يتم تحديدها مسبقاً. نترك دائماً عدداً معيناً من الأشجار المتبقية، خصوصاً تلك التي تنتج بذوراً، اذ ستكون محور دراساتنا المقبلة''.
محطتنا التالية كانت في سانتو أنطونيو، وهي قرية صغيرة في ''مستوطنة موجو الزراعية''. وتحوي كل مستوطنة زراعية قطعة أرض من الأشجار الغابية مساحتها نحو كيلومتر مربع، يقطع منها 20 في المئة لصنع مواد سكن أو لاقامة حدائق خضار صغيرة. اما الـ80 في المئة المتبقية فتديرها ''مافلوبس''.
قال لنا سيو نيغينهو، رئيس الجمعية الأهلية في سانتو انطونيو الذي كان انتقل الى بارا عام 2001 للعمل في مناجم الذهب في اقليم ايتايتوبا: ''لقد حصدت مافلوبس أجزاء من أرضي، ولن تعود الى هنا قبل 20 سنة. في الماضي، كنت أتنقل من مكان الى آخر من دون نتيجة تذكر، والآن استقر بي المقام. أصبح لي منزل، وأسرة، وقطعة أرض تحوي 2300 نبتة فلفل''.
وأشار نيغينهو الى أن المستوطنين يواجهون ضغوطاً من أصحاب مشاريع يرغبون في شراء أرضهم: ''يأتي أشخاص الى هنا ويعرضون أكثر من 50 ألف دولار مقابل قطعة الأرض. ويبيع كثيرون أملاكهم ظناً منهم أن المبلغ كبير وسوف يحل جميع مشاكلهم. لكن عندما ينزحون ويذهبون الى المدينة، يجدون أنه لا يفي بالغرض، وفي النهاية يحل بهم الجوع''.
وبما أن أسعار الأراضي المحيطة بالطريق السريعة سترتفع بعد تعبيدها، يتوقع أن يزداد التنافس على امتلاك الأراضي وتطويرها.
حوار البقاء
إنها الرابعة بعد الظهر، وقد حان وقت العودة الى سانتاريم. سلكنا درباً أخرى للوصول الى الطريق السريعة BR-163، فمررنا بجنود برازيليين يقومون بأعمال صيانة. وعلى رغم ترددهم في التحدث الى إعلاميين ومندوبي منظمات بيئية، أخبرنا أحدهم أنهم يقومون ببناء مجرى مائي، وأن أعمال التعبيد ستتكثف فور انتهاء موسم الأمطار.
مع تقدم التنفيذ، يسعى الصندوق العالمي لصون الطبيعة وشركاؤه لضمان أحوال البيئة والتجمعات السكانية في حوض الأمازون، وتجنب النمو غير المخطط وغير المستدام في المستقبل. وهو يقود ''المشروع الحواري'' الذي يموله الاتحاد الأوروبي ويستهدف فئات مختلفة، من التجمعات السكانية المحلية ومستغلي الغابات ومنظمات القطاع الخاص والقطاع العام، للتشجيع على الادارة المستدامة للموارد الغابية وتطوير الأراضي، وذلك ضمن مساحة 280 ألف كيلومتر مربع تشمل أراضي أكثر من 25 بلدية. ويقول أرملين ان ''المشروع يهدف الى تقوية فرص النقاش ورفع مستوى الحوار بين الجهات المعنية، فمن المهم إرساء ادارة فعالة لحوض الأمازون وغابات المطر تساهم في حمايتها''.
عندما انطلقنا عائدين الى سانتاريم، لم تغب عن بالنا كلمات سيو نيغينهو: ''الأمازون مكان جميل، لكن إذا تم تدميره، فسوف نعاني، وأطفالنا سوف يعانون أكثر''.