بنيت الحضارة في الظروف المناخية التي عرفناها، على سواحل قد تجرفها العواصف العاتية ويغمرها ارتفاع مستوى البحر، وفي أراض زراعية وغابات تقل انتاجيتها مع اضمحلال الموارد المائية.
وتغير المناخ يعرض منظومة الحضارة العصرية للخطر.
عندما تتسبب الأحوال الجوية المتطرفة ـ التي يزيد تغير المناخ حدتها ـ في فيضانات كاسحة، يلقى أناس حتفهم. وعندما ينحسر المطر في افريقيا بسبب تغير المناخ، يلقى أناس حتفهم. ومأساة الحرب الأهلية في دارفور يعود سببها جزئياً الى تغير المناخ، إذ تضاءل سقوط المطر، فتقاتل الرعاة والمزارعون على ما تبقى من أراض مروية.
تغير المناخ هو من أكثر التحديات التي تتعرض لها البشرية إلحاحاً وصعوبة. وتأثيراته يشعر بها الجميع، وسوف تتفاقم مع الوقت فتؤثر على الأجيال الحالية والمقبلة. وما لم يتخذ اجراء عاجل ومتفق عليه، فسوف يؤثر تغير المناخ بشكل حاد على نمط الحياة في جميع البلدان. سيخفض الانتاجية الزراعية، ويفاقم انعدام الأمن الغذائي، ويزيد التعرض لأحداث مناخية متطرفة، ويدمر النظم الايكولوجية الهشة، ويهدد الأمن العالمي من خلال الضغوط الناجمة عن النزوح السكاني والنزاعات على الموارد.
في المنطقة العربية، وفقاً لتقرير التنمية البشرية 2007 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الانمائي، فإن تغير المناخ من خلال تأثيره على سقوط المطر يمكن أن يسبب خسائر فادحة في المياه المتاحة وفي الانتاج الزراعي، ما يقوض جهود تخفيف حدة الفقر في الأرياف. من جهة أخرى، فإن مستوى البحر يمكن أن يرتفع سريعاً مع تسارع ذوبان الصفائح الجليدية، ويشرد 6 ملايين نسمة في الأراضي المصرية المنخفضة، ويغمر 4500 كيلومتر مربع من دلتا النيل.
لقد بات واضحاً أنه لا يمكننا تجنب تغير المناخ، ولكن يمكننا الحد من أضراره.
التحدي الذي يفرضه تغير المناخ عالمي، فالغلاف الجوي المحيط بالأرض لا يفرق بين غازات الدفيئة وفقاً لبلد المنشأ. ان طناً من انبعاثات الصين أو مصر يحمل الوزن نفسه كطن من الولايات المتحدة. ولأن تغير المناخ يتحدى جميع مناطق العالم وجميع قطاعات المجتمع، فعلى الحكومات والشركات والمجتمع المدني أن تصبح جزءاً من الحل.
المخاطر هائلة، لكن تغير المناخ يخلق أيضاً فرصة للبلدان والشركات التي تبتكر وتسّوق تكنولوجيات ومنتجات جديدة لتكسب أفضلية اقتصادية. هذه الفرصة هي التي توفر أملاً في النجاح. لقد أدرك قطاع الأعمال الأخطار والفرص وبدأ الاستجابة لها. ومنذ عهد قريب جداً، وقبل انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ في بالي في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أصدر أرباب أكثر من 150 شركة عالمية بلاغاً دعوا فيه الى استجابة دولية عاجلة ازاء تغير المناخ، والى ابرام اتفاقية شاملة وملزمة قانونياً لخفض انبعاثات غازات الدفيئة. وتعهدوا بالانخراط ايجابياً للمساعدة في وضع سياسات وتدابير لبناء اقتصاد منخفض الكربون. وتشمل هذه المجموعة شركات متنوعة مثل شل، جنرال إلكتريك، آي أي جي، إس يو إن ميكروسيستمز، باركليز، فولكسواغن، ديبون، فيليبس، وكوكا كولا.
في الوقت ذاته، يستجيب مستثمرون لحتمية تبني أنظمة بشأن المناخ، من خلال ضخ أموال في تكنولوجيات ومشاريع الطاقة النظيفة التي بلغت قيمتها نحو 150 بليون دولار عام 2007. وأحد الجهود المشهود لها مبادرة ''ايكوماجينيشن'' التي أطلقتها جنرال إلكتريك عام 2005 وتشمل مجموعة واسعة من المنتجات المقتصدة في الطاقة، من تكنولوجيا ترشيح (فلترة) المياه الى مصابيح الاضاءة. وقد أفادت الشركة مؤخراً أن مبيعاتها من المنتجات المصنفة ''صديقة للبيئة'' ارتفعت الى 14 بليون دولار العام الماضي، بزيادة 15 في المئة من 12 بليون دولار عام 2006.
ويقوم مزيد من الشركات بزيادة الاستثمارات في مصادر الطاقة البديلة، مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية. وقد حازت شركتا بريتيش بتروليوم وشل على حصة كبيرة في مشاريع طاقة الرياح، حيث باتت شل من المولدين الخمسة الكبار لطاقة الرياح في الولايات المتحدة. وأعلنت شيفرون مؤخراً عن خطط لاستثمار 400 مليون دولار سنوياً في الطاقة المتجددة، بما في ذلك تكنولوجيات مثل طاقة الأمواج والطاقة الحرارية لجوف الأرض.
وبالمثل، سيؤدي القطاع المصرفي والمالي دوراً كبيراً في الابتكار لمواجهة التحدي الذي يفرضه تغير المناخ. ومن الأمثلة على ذلك التزام سيتي غروب بمبلغ 50 بليون دولار خلال 10 سنوات من أجل المناخ. كما اعتمد بنك أوف أميركا خطة عشرية مماثلة، إذ التزم بمبلغ 20 بليون دولار لتحقيق خفض داخلي وخارجي لغازات الدفيئة.
الوقود الخامس
فيما يحتشد زخم سياسي حول قضية تغير المناخ، يستجيب قطاع الأعمال عموماً للتحديات والفرص. وقد بدأت بعض الشركات ادخال تغير المناخ ضمن استراتيجية عملها من خلال خفض الانبعاثات الكربونية الناتجة من عملياتها ومنتجاتها وسلاسل امداداتها. لكن ينبغي على مزيد من الشركات حول العالم أن تتبنى قرارات مماثلة وتسرّعها وتعمقها لكي تبقى انبعاثات غازات الدفيئة العالمية في مستويات مأمونة.
هنا، في العالم العربي، علامات مشجعة أيضاً. ففي تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، في ختام قمة المسؤولية البيئية لقطاع الأعمال، وافق أكثر من 120 مدير شركة يمثلون قطاعات الأعمال الرئيسية في المنطقة على التزامات لناحية المسؤولية البيئية والانتاج النظيف. والعنصر الرئيسي في هذه المبادرة هو الالتزام بهدف خفض استهلاك الطاقة والمياه في عملياتهم بنسبة 20 في المئة بحلول سنة 2012 عما كان عام 2002. وقد نظم القمة المنتدى العربي للبيئة والتنمية (AFED)، وهو منظمة اقليمية غير حكومية ولا تتوخى الربح تضم في عضويتها نخبة من الشركات والمجتمع الاكاديمي والجمعيات الأهلية والمؤسسات الاعلامية.
وجدير بالذكر أن القمة والبيان الصادر عنها حدثا بعد أقل من أسبوعين على اعلان خادم الحرمين الشرفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز مبادرة خلال قمة منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في الرياض، لانشاء صندوق لتمويل البحوث حول الطاقة والبيئة وتغير المناخ.
الالتزام بخفض استهلاك الطاقة يولد نتائج اقتصادية جيدة، ويساهم في الوقت ذاته بخفض انبعاثات غازات الدفيئة. وهو يلقى ترحيباً كبيراً، خصوصاً في كثير من بلدان الخليج، حيث الاسراف في استهلاك الطاقة وانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون للفرد عالية الى حد بعيد.
ان تحسين كفاءة الطاقة هو بمثابة الوقود الأرخص والأكثر تجدداً على الاطلاق. وقد أطلقت على كفاءة الطاقة تسمية ''الوقود الخامس''، لأنها تساعد في تلبية الطلب المتزايد على الطاقة تماماً مثل الفحم والغاز والنفط واليورانيوم. وهي أيضاً أفضل وسيلة لخفض الانبعاثات. ومع استمرار ارتفاع أسعار النفط وارتفاع فواتير الطاقة، تحقق الشركات الأكثر كفاءة نتائج مالية وبيئية أفضل. لكن ما زال يترتب على كثير من الشركات أن تغير طريقة عملها جذرياً لكي تصبح مقتصدة في الطاقة.
وكما ورد في عدد 10 أيار (مايو) 2008 من مجلة ''ايكونوميست''، فإن معظم خطط التصدي للاحترار العالمي تلحظ دوراً كبيراً لكفاءة الطاقة. على سبيل المثال، في ''السيناريو الأخضر'' لوكالة الطاقة الدولية تضمن زيادة الكفاءة ثلثي الانبعاثات التي يتم تجنبها، في حين يرى معهد ماكينزي العالمي أن كفاءة الطاقة قد تنقل العالم نصف الطريق نحو هدف تثبيت تركيزات غازات الدفيئة في الغلاف الجوي عند 550 جزءاً في المليون كما أوصى بعض العلماء. والمعهد متحمس بنوع خاص لكفاءة الطاقة لأنه يعتقد، بخلاف معظم البرامج الأخرى لخفض الانبعاثات، أن حملة طاقوية عالمية تستخدم التكنولوجيات الكفوءة الحالية سوف تكون مربحة. هذه الاجراءات ستحقق عائداً معدله 17 في المئة وحده الأدنى 10 في المئة. ومن شأن استثمارات عالمية سنوية مقدارها 170 بليون دولار حتى سنة 2020 أن تحقق وفورات طاقوية تبلغ نحو 900 بليون دولار.
استثمار في المستقبل
لقد قدمتُ أمثلة على مبادرات شركات عالمية لخفض انبعاثات غازات الدفيئة. وسوف أكون مهملاً اذا لم أسلط الضوء أيضاً على مبادرتين محليتين رئيسيتين يجب أن تتكررا على نطاق واسع في المنطقة العربية. فقد أعلنت شركتا دانا غاز وكرسنت بتروليوم في آذار (مارس) 2008 أنهما، بالتعاون مع مركز ملتيكوموديتيز وايكوسيكيوريتيز في دبي، ستمضيان في تنفيذ مبادرة لتطوير مشاريع خفض الانبعاثات في قطاع النفط والغاز، وفقاً لآلية التنمية النظيفة في بروتوكول كيوتو.
والمثال الثاني هو اعلان مبادرة ''مصدر'' في أبوظبي في شباط (فبراير) 2008 أن العمل بدأ على بناء مدينة محايدة كربونياً وخالية من النفايات بكلفة 22 بليون دولار وتؤوي 50,000 شخص بحلول سنة .2016 وأفادت صحيفة ''فايننشال تايمز'' أن أبوظبي خصصت أيضاً 15 بليون دولار لمجموعة واسعة من مشاريع الطاقة البديلة التي تتعدى مصدر، مثل محطات الطاقة الشمسية وطاقة الهيدروجين ومصانع اللاقطات الشمسية. وهذا ما أود أن أدعوه استثماراً في المستقبل.
بالنسبة الى المنطقة العربية، يوفر التصدي لتغير المناخ فرصة للتعامل على نطاق واسع مع التحديات التنموية والبيئية الاستثنائية التي تواجهها. وهناك حاجة الى اهتمام واستثمارات جوهرية لعكس اتجاه التدهور البيئي الراهن، خصوصاً في ما يتعلق بشح المياه والتلوث الناتج من الاستعمال غير الكفوء للمياه والطاقة.
ويجب تسخير العلم والتكنولوجيا لتحسين كفاءة استعمال الموارد، خصوصاً المياه والطاقة في الزراعة والصناعة والنقل، وتطوير الطاقة المتجددة وخصوصاً الشمسية. لكن بطء التقدم في تحسين نوعية البيئة والسعي الى تنمية مستدامة في غالبية المنطقة العربية يتجذر في اخفافات سياسية ومؤسساتية، مقرونة بفقدان الوعي الجماهيري والافتقار لقاعدة معرفية.
البلدان العربية، كمجموعة، متأخرة عن أقاليم أخرى في العالم في بناء مجتمع معرفي. وفي مجالات التعليم والتدريب والبحوث العلمية والابداع التكنولوجي تتخلف المنطقة عن بلدان ذات مستويات مماثلة من المعرفة. ووفقاً للبنك الدولي، على العالم العربي أن يخلق 80 مليون وظيفة جديدة خلال السنوات الخمس عشرة المقبلة لمجاراة النمو السكاني، وهذا لا يشمل التصدي للبطالة المزمنة. وللمنافسة في الاقتصاد العالمي بشكل فعال وتجنب القلاقل الاجتماعية الخطيرة، يجب على المنطقة أن تقوي قدراتها العلمية والتكنولوجية وتعزز الامكانات الخلاقة لشعوبها. وفي هذا الصدد، فإن لقطاع الأعمال دوراً هاماً يؤديه كعنصر رئيسي في مسؤوليته الاجتماعية.
في ريو دي جانيرو عام 1992، التزم قادة السياسة والأعمال في العالم بالسعي لتحقيق التنمية المستدامة. وتضمن ''اعلان ريو'' حول البيئة والتنمية اشارة محددة الى الحاجة لادخال البيئة في التنمية الاقتصادية. ومنذ ذلك الوقت تحقق نجاح قليل في تحسين البيئة العالمية والسعي الى تنمية مستدامة. وإزاء الخطر الذي يمثله تغير المناخ، أعتقد أن الوقت حان للحكومات وقطاع الأعمال لأخذ الاستدامة على محمل الجد. ويجب أن تكون الكفاءة الايكولوجية والانتاج الأنظف والانتاج الأخضر هي الخيارات المفضلة.
اللورد ريتشارد هولم، الذي توفي في الرابع من أيار (مايو) 2008، أدى دوراً رئيسياً في تحضيرات قطاع الأعمال والصناعة للقمة العالمية للتنمية المستدامة في جوهانسبورغ عام 2002، وهو قال مرة: ''التنمية المستدامة مهمة بالنسبة إلي لأنها تمثل أفضل وأفعل وسيلة لشركة مسؤولة كي تضع مبادئها قيد الممارسة العملية. وهي تمثل نموذجاً يمكن من خلاله تطبيق قيم أساسية واتخاذ قرارات مبنية على المعرفة، ما يحقق تبادلاً مثالياً بين السلع الاقتصادية والبيئية والاجتماعية".
تصدياً للاحترار العالمي، فلنكافح من أجل جعل الاستدامة والحلول المستدامة الدوافع الرئيسية للتنمية الاقتصادية في العقود المقبلة.
الدكتور محمد العشري هو الرئيس السابق لمرفق البيئة العالمي والباحث الرئيسي في مؤسسة الأمم المتحدة.