مع تقدم البشرية المستمر وتحسن الخدمات وظروف الحياة، كان الإنسان يفسد حياته تدريجياً عن طريق السموم التي صنعها، بقصد أو بلا قصد، أو بحث عنها في الطبيعة ليستخدمها في مجالات شتى. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، بدءاً بدخان وغازات الحرائق والتدفئة بالفحم والحطب، مروراً باستخدام الغازات السامة والمتفجرات المتنوعة في الحروب، ومبيدات الحشرات والأعشاب على نطاق واسع، وانتشار أشكال التدخين، وليس انتهاء بالعمليات الصناعية المتنوعة التي تتطلب استخدام مواد جديدة لا تُعرف شدة خطرها إلا بعد سنوات طويلة.
وتتعرض البيئة الآن لأنواع خطيرة من التلوث لها آثار مباشرة وغير مباشرة على صحة الإنسان. ومع أن الاحتباس الحراري الناشئ عن تولد غاز ثاني أوكسيد الكربون في الجو هو الذي يشغل العالم الآن، فإن هناك أخطاراً أخرى كبيرة للتلوث تجدر المسارعة الى وضع حد لها قبل فوات الأوان، لعل من أهمها التلوث بالمعادن، خصوصاً الزئبق، والتلوث بالديوكسين، اللذين يتصفان بإمكانية التراكم في الطبيعة ولا سيما في الأسماك. وقد وصلت خطورة هذه المواد السامة إلى حد أن خبراء الصحة بدأوا يتساءلون هل من الأفضل الاستمرار في وصف زيت السمك أو أكل السمك للحوامل أو تحذيرهن من تناولهما مع شدة حاجتهن الى هذا الغذاء، وهل يوصون الأم بإرضاع صغيرها أم لا، مع أنه ليس من المفروض أن يكون هناك مثل هذا الخيار.
لحسن الحظ، يدرك العلماء وكثير من الناس هذا الخطر الجاثم، وتقوم دول العالم ومنظماته بمحاولات دؤوبة للحد من استخدام بعض هذه المواد أو حظرها، تنجح حيناً وتتعثر أحياناً.
ما هو الديوكسين وكيف نتعرض له؟
الديوكسينات مجموعة من المواد العضوية المتعددة الكلورة، أكثرها سمية (TCDD)Tetrachlorodibenzo-p-dioxin-2,3,7,8. وهناك 419 مادة من الديوكسينات تصنف ثلاثة أنواع: الديوكسينات المكلورة chlorinated (75 مادة)، الفورانات المكلورة chlorinated furans (135 مادة)، ثنائيات الفنيل المتعددة الكلورة polychlorinated (209 مادة). وتتصف 30 مادة من هذه الأنواع الثلاثة بسمّية عالية. لكننا نتعرض عادة لمزيج من المواد السامة وغير السامة من هذه العائلة في الوقت نفسه.
يمكن أن يتعرض الإنسان لمستويات مختلفة من الديوكسين عن طريق الوسائط الآتية:
- الطعام الملوث: يمثل أكثر من 90 في المئة من مجموع أشكال التعرض، خصوصاً الحليب الغني بالدهون (بما في ذلك حليب الرضاعة وحليب المزارع)، والسمك، واللحوم الأخرى. ويميل الديوكسين الى التركز في الدهون، لكنه يتراكم في معظم أنحاء الجسم.
- الهواء: فيه كميات صغيرة جداً من الديوكسين، خصوصاً في جو المدن. ويزيد دخان التبغ من نسبته في الجو.
- المبيدات: يتعرض الإنسان للديوكسين بالتماس الجلدي مع المبيدات التي تحتوي على بعض مركبات الكلور العضوية.
- التربة: هناك مستويات عالية من الديوكسين في تربة المواقع الملوثة بشكل خطير، قد تنتقل الى الجسم بالملامسة عن طريق الجلد. وفي هذا خطر على الأطفال الصغار الذين يلعبون بالتراب أو يأكلونه أحياناً.
- مكان العمل: يتعرض عمال صناعات بلاستيك PVC ومنتجات الورق ولب الخشب وبعض المبيدات إلى مستويات عالية من الديوكسينات، باستنشاق الهواء أو عبر الجلد.
التركز في السلسلة الغذائية
ينتقل الديوكسين من محارق النفايات إلى الهواء، كما تترسب دقائقه على الأرض العشبية حيث ترعى الأبقار وغيرها من المواشيوالدواجن، فيتراكم في دهونها ولحمها وحليبها. ويتركز الديوكسين أيضاً في الماشية التي تتغذى بحبوب ملوثة بالديوكسين.
وقد تسقط دقائق الديوكسين مباشرة على الأنهار والمجاري المائية والمسطحات المائية، أو تصل إليها بجريان المياه. فتترسب في قاع الماء حيث تتناولها الأسماك الصغيرة والأصداف، ويتنامى تركيزها في دهونها أو أعضائها كالكبد والبنكرياس. هذه الأسماك الصغيرة تلتهمها أسماك أكبر منها، وهذه تفترسها أسماك أكبر، فيرتفع تركيز الديوكسين في كل مرة عبر السلسلة الغذائية. ويزداد مستوى الديوكسين في الجسم بشكل عام مع تقدم العمر، وتدعى هذه الظاهرة التركيز الحيوي (bioconcentration).
يتراكم الديوكسين تدريجياً في أبداننا. وتبلغ مستوياته المتوسطة عند الأميركيين مثلاً 25 جزءاً من تريليون وفقاً لوكالة حماية البيئة EPA، ولدى 10 في المئة أكثر من ثلاثة أضعاف هذه النسبة. ولحسن الحظ، بدأت مستويات الديوكسين في الإنسان بالانخفاض عالمياً بفضل الجهود التي تبذل لإنقاص إنتاجه في الدول المتقدمة.
والديوكسين مادة شديدة الثبات، تتفكك ببطء في البيئة الطبيعية. فالديوكسين الموجود على سطح التربة يلزمه ما بين 9 سنوات و15 سنة حتى يتفكك نصفه، أما تحت سطح التربة فيبقى غالباً بلا تغير. وقد دلت الدراسات على أن ارتفاع نسبته في الجسم يؤدي إلى ظهور تأثيرات صحية مؤذية عند الإنسان والحيوان. وفُسر ذلك بأن أجسامنا بدأت تصل إلى حد «الامتلاء» الذي تظهر فيه الآثار الخطرة لتلك المادة السامة. وهناك أشخاص يتأثرون أكثر من سواهم، مثل الأطفال الرضع والعمال الأكثر تعرضاً للديوكسين والناس الذين يعيشون في مناطق انبعاثه وسكان الجزر والشواطئ والصيادين الذين يتناولون الأسماك كغذاء رئيسي.
المدة اللازمة للتخلص من نصف كمية الديوكسين في جسم الإنسان(halflife) هي نحو سبع سنوات، ما لم يحصل تراكم لكميات جديدة في الوقت نفسه. ويعني هذا أن جسمك لن يتخلص البتة من الديوكسين بهذه الطريقة، فلا بد من توقف وصوله إلى الجسم أولاً.
لكن التخلص من الديوكسين في الجسم ممكن من حيث المبدأ بإزالة الدهون التي يتركز فيها. كما تفقده المرأة المرضع من خلال حليب الثدي، ولكن بثمن باهظ هو انتقاله الى رضيعها. وهذا خطر جداً، لأن الطفل صغير الحجم، ما يجعل الجرعة كبيرة جداً بالنسبة الى وزنه.
تأثيرات صحية
تشمل التأثيرات الصحية للديوكسين السرطان، والتشوهات الولادية، والسكري، وتأخر التعلم والنمو، والورم البطاني الرحمي (endometriosis)، وشذوذات في النظام المناعي. وتعتمد شدتها على عوامل متعددة، منها: طبيعة الديوكسين، مستوى التعرض ومدته، الوضع الصحي الأصلي للشخص المعرض.
الديوكسين وثيق الصلة بالمستقبلات ما بين الخليوية (intracellular receptors) في نوى خلايا الحيوان والإنسان. لذا يمكنه دخول النواة بسهولة حيث يوجد الحمض النـووي DNA، وتخريبها، وهذا قـد يسبب السرطان والتشوهات الولادية. كما يمكن أن يؤثر على تعليمات DNA لصنع الأنزيمات والهورمونات والبروتينات الأخرى الطبيعية، مما يقود إلى أمراض عدة.
وتعتبر مدة التعرض مؤشراً لتأثير الديوكسين المؤذي للجسم. وقد جمعت معظم معطيات التأثير الصحي القصير الأمد من حادث مصنع المبيدات في مدينة سيفيسو الإيطالية عام 1976، حيث تعرض كثير من الناس لنسب عالية من الديوكسين، عندما حصل انفجار في منشأة كيميائية تصنع مبيدات مكلورة شكل غيمة من الدخان الملوث بالديوكسين في سماء سيفيسو والمنطقة المحيطة بها. وسقط الغبار وجزيئات المبيد الملوثة على الناس وممتلكاتهم في منطقة الانفجار، وقتل الديوكسين ألوف الحيوانات الأليفة وخصوصاً القطط والدجاج والأرانب، ولوث التربة.
ويرتبط التعرض للديوكسين بطفح الجلد، وتشوهات الكبد، ومشاكل التناسل، والتشوهات الولادية، وخفض حاصل الذكاء والتأخر في التعلم، والاضطراب السلوكي وتأخر النمو، والورم البطاني الرحمي، وشذوذات النظام المناعي، والسكري، واضطرابات الغدة الدرقية.
كما يرتبط بانخفاض نسبة المواليد الذكور إلى الإناث، التي تبلغ طبيعياً 51 ذكراً مقابل 49 أنثى. فقد وجد بين مواليد الرجال الذين كانوا في سيفيسو منذ عام 1976 أن نسبة الذكور تبلغ 44 في المئة فقط. أما بين مواليد الرجال الذين كانوا وقت الحادث بعمر أقل من 19 سنة فقد كانت هذه النسبة 38 في المئة فقط.
من جهة أخرى، تمت دراسة أثر استخدام الجيش الأميركي في حرب فيتنام «العامل البرتقالي» (Agent Orange)، وهو خليط مواد تشكل المادة Tــ2,4,5 المشوبة بالديوكسين نصفها، لتعرية أشجار الغابات وكشف الأعداء من جنود فيتنام الشمالية آنذاك وثوار الفيتكونغ. فتبين أن ذلك أدى إلى إصابة مواليد المقاتلين الفيتناميين فـي مـا بعد بتشوه ولادي يدعى السنسنة المشقوقة (spina bifida)، يُفقد الأطفال المصابين به السيطرة على عمل الجهاز الهضمي والمثانة، كما قد يصيبهم بالشلل أو بتأخر عقلي.
هناك شبه إجماع على أن الديوكسين هو مسرطن للإنسان. وقد أعيد تصنيفه من قبل الوكالة الدولية لبحوث السرطان (IARC) التابعة لمنظمة الصحة العالمية كمسرطن للإنسان عام 1997، مع أن المنظمة اعتبرت خطره من البيئة والأسماك والجمبري (الروبيان) هامشياً لقلة تركيزه فيها، بينما صنف منذ عام 2001 في الولايات المتحدة كمسرطن معروف للإنسان.
وقد بين تقرير لوكالة حماية البيئة الأميركية وجود زيادة في خطر الإصابة بالسرطان بمقدار 1 في المئة عند الناس الأكثر حساسية الذين يستهلكون وجبات غنية بالدهون الحيوانية.
الدكتور ممدوح النيربيه باحث سوري متخصص بالكيمياء العضوية
كادر
كيف يتشكل الديوكسين؟
لا تصنع الديوكسينات بشكل مقصود عادة، لكنها تتشكل كمادة ثانوية غير مرغوب بها، أو مادة ملوثة، في حالات كثيرة، منها:
- عمليات الاحتراق وخصوصاً حرائق الغابات.
- توليد الطاقة من الفحم أو الديزل.
- صناعة المواد الكيميائية المكلورة.
- صناعة البلاستيك من متعدد كلوريد الفنيل (PVC).
- صناعة بعض الكيماويات والمبيدات.
- محارق المخلفات البلدية والنفايات الطبية، علماً أن انبعاثاتها انخفضت الآن في الدول المتقدمة، بعد إغلاق معظم المحارق بسبب معارضة السكان المحليين لوجودها، والقيود الصارمة على متابعة استخدامها.
- التدخين واحتراق التبغ.
- تبييض لب الخشب بالكلور لصناعة الورق الأبيض، وظهور الديوكسين في مياه صرف منشآته. وتنخفض كمياته الآن، لأن منشآت كثيرة حولت طريقة التصنيع بحيث تستخدم كمية كلور أقل.
- استخدام ثنائيات الفنيل المتعددة الكلورة كمواد عازلة في التجهيزات الكهربائية (منع عام 1977)، وفي صناعة المحولات الكهربائية في بعض الدول.
- الترسبات النهرية قرب المنشآت التي تتولد فيها المواد أو تستعمل.
ويوجد الديوكسين بكميات صغيرة في الهواء والماء والتربة والنبات والحيوان والإنسان.