يواجه العراق نقصاً خطيراً في إمدادات الطاقة الكهربائية. وقد أدت التدابير البديلة للحصول على الكهرباء من مصادر أخرى غير محطات توليد الطاقة الى واقع بيئي غير صحي في مدن العراق جميعها.
تشترك الأُسر العراقية ـ بمعدل 15 أسرة ـ في تقاسم «الأمبيرات» التي ينتجها مولّد مشترك يعمل بوقود الديزل. وهذه حالة موجودة في كل أحياء المدن العراقية، ويمكن تصور المشهد: عدد هائل من المولدات التي تعمل بالديزل، صنع معظمها قبل أكثر من عشرين سنة بسبب العقوبات الاقتصادية التي كانت مفروضة على العراق في التسعينات، لذا تطلق عند تشغيلها كميات كبيرة من الدخان الأسود (دقائق الكربون) وتصدر أصواتاً عالية مزعجة.
تشغَّل هذه المولدات بادارة غير فنية، بل تجارية، بواسطة متعهد محلي ومراقب غير مؤهل لصيانتها ميكانيكياً وتقليل انبعاثات الكربون. وهي توضع بين البيوت، في بيت مهجور أو على أرض متروكة أو في حديقة عامة.
ويمكن القول ان هذه المولدات أتت بنتائج سلبية على الصورة المتكاملة للبيئة العراقية. وهنا أبرز التأثيرات:
التأثير على البيئة الصحية: بما أن هذه المولدات تعمل بوقود الديزل ولا تخضع لتشغيل وصيانة فنيين، فان محركاتها لا تؤدي أداء جيداً، وعمليات إحراق الوقود لا تتم بالشكل التام، فتنتج كميات كبيرة من غاز أول أوكسيد الكربون وتطلق كميات كبيرة من دقائق الكربون إلى الجو. وقد باتت الجدران المكسورة بالسخام اللزج منظراً مألوفاً في أماكن وجود هذه المولدات، كذلك سطوح المنازل وسقوف السيارات المركونة بالقرب منها. كما أن الضوضاء الناجمة عنها (أعلى من 80 ديسيبل) تجعل الناس الذين يسكنون بجوارها في حال من عدم الراحة الجسدية والعصبية. وثمة محاولات محدودة لجلب مولدات «خرساء» لا تصدر ضوضاء حين تشغيلها، إلا أنها محاولات فردية تقوم بها شركات معينة، بسبب كلفتها العالية وتعقيدات تشغيلها بالنسبة إلى متعهد غير فني.
وإذا علمنا أن الهواء في المدن العراقية غير صحي أساساً لتشبعه بدقائق غبار ملوث ـ وتدل على ذلك حالات الربو وأمراض الجهاز التنفسي التي تسجل مستويات قياسية ـ فان الأمراض التنفسية تزداد بشكل ملحوظ لدى الأسر التي تسكن بالقرب من هذه المولدات.
التأثير على البيئة النباتية: بما أن إدارة هذه المولدات في يد متعهد غير مهني، فان عمليات تعبئتها بوقود الديزل تتم بطرق بدائية ينتج عنها انسكاب كميات محسوسة من الوقود إلى التربة (في حالة وجود المولد في حديقة مهجورة) أو إلى ترعة مجاورة أو فتحة تصريف للمجاري (وهي نادرة). فأصحاب المولدات يفضلون هذه الأماكن لوجود مجرى يصب مباشرة في ترعة لتصريف الزيوت والانسكابات بعيداً عن المولد. غير أن منظر بركة من الزيوت والوقود حول المولد هو المنظر المألوف. ومع الأيام تحولت الأراضي حول المولدات الى أراض ميتة وتربة مشبعة بالوقود لا تصلح لأي زراعة مستقبلاً. وتكثر هذه المناطق في المدن العراقية، التي هي أساساً مدن زراعية.
ثم ان التربة تكون غير ثابتة في مواقع المولدات، بسبب الاهتزازات المرافقة لتشغيلها، لذا تكون الجذور غير مستقرة والأشجار ضعيفة لا تقاوم الرياح.
التأثير على البيئة الحيوانية: تصدر المولدات ضوضاء بترددات مختلفة تزعج الطيور التي هجرت المدن العراقية. والمحزن أن الحمام المطوق العراقي اختفى نهائياً من هذه المدن، في ظاهرة لم تشر اليها أي جهة بيئية وتجدر دراستها.
وثمة أنواع كثيرة من الحشرات تعيش تحت التربة الرطبة في قنوات تحت أرضية. وبسبب الاهتزازات وعدم ثبات التربة، فان تلك القنوات معرضة للانهيار. لذلك نرى ظاهرة ازدياد الحشرات الزاحفة في المدن العراقية، وكثير منها سام وخطر.
التأثير على البيئة الجمالية: يقوم أصحاب المولدات بتوزيع الأمبيرات على الأسر المشتركة بحسب نظام الحصص، عن طريق أسلاك سيئة الصنع مغطاة بطبقة رقيقة من العازل البلاستيكي. وبسبب التفاوت الكبير في درجات الحرارة في العراق بين فصلي الشتاء والصيف، حيث تصل أحياناً الى أكثر من 40 درجة مئوية، تتلف هذه الأسلاك الرديئة وتنقطع وتترك متدلية، لأنها متشابكة ومن الخطورة والصعوبة محاولة إزالتها. وبذلك تخلق بيئة جمالية مشوهة في المدن، ويضعف أداء الشبكة فتصل الكهرباء ضعيفة الى البيوت. كما أنها تعرض حياة المواطنين لخطر الصعق الكهربائي، وهناك حالات وفاة كثيرة موثقة في سجلات المستشفيات بسبب الصعق الكهربائي من هذه الأسلاك.
إن الحلول ممكنة في حال تبني سياسة متكاملة لإصلاح منظومة الطاقة الكهربائية في العراق وجعلها تحت إدارة فنية مهنية. ومن هذه الحلول إنشاء توربينات لتوليد الطاقة الكهربائية باستخدام الغاز المصاحب للنفط، والعراق يملك كميات ضخمة غير مستثمرة من هذا الغاز، على أن تكون المحطات خارج المدن لإبعاد الضوضاء والتأثيرات البيئية الأخرى. كما أن توزيع الطاقة من هذه المحطات يجب أن يكون عبر أسلاك معدنية تقاوم التفاوت الكبير في درجات الحرارة بين الصيف والشتاء، مع احتساب دقيق لعوامل التمدد والتقلص لتفادي انقطاع هذه الأسلاك.