منذ بداية الزمن، كانت المياه تحدد وجه الأرض، ليس فقط كعامل جيولوجي يقطع الوديان الواسعة والضيقة وينحت تكوينات الصخور، بل أيضاً كعامل رئيسي في نهوض الحضارات وسقوطها ومصدر للنزاع والتوتر بين الدول. وقد نشأت أولى الحضارات العظيمة على ضفاف أنهار كبرى: النيل في مصر ودجلة والفرات في بلاد الرافدينوالاندوس في باكستان وهوانغ ـ هو في الصين. جميع هذه الحضارات بنت نظم ري كبيرة وجعلت الأرض منتجة. لكن هذه الحضارات نفسها انهارت عندما شحت الامدادات المائية أو تمت ادارتها بشكل غير مناسب. ويعتقد أن انحطاط الحضارة السومرية في بلاد الرافدين، على سبيل المثال، ناتج من موجات الجفاف الطويلة وممارسات الري السيئة التي أسفرت عن تراكم الملح في التربة. وبالمثل، تسبب هجر مجاري المياه الرومانية والقنوات والخزانات في شمال أفريقيا بعودة المنطقة الى حالة صحراوية.
المياه تحفظ الحياة، كما تحفظ البيئة والتنمية. وأزمة المياه العالمية ترتبط بالكمية والنوعية، وهي على علاقة وثيقة بالأزمة البيئية العالمية وتدهور النظم الايكولوجية الداعمة للحياة. إنها أزمة ادارة: مؤسسات مجزأة، وسياسات غير وافية، ونظم قانونية ضعيفة، وتمويل غير كاف للامدادات المائية ومكافحة التلوث، وعجز في الارادة السياسية.
ويساهم النمو السكاني السريع في البلدان النامية بالتدهور البيئي. وهذا التدهور، فضلاً عن الامدادات المائية والخدمات الصحية غير الكافية، يسبب بدوره مشاكل صحية كبيرة وتكاليف اقتصادية مرهقة. وتتضاءل مصادر الامدادات المائية حتى أنها بالكاد تكفي لسد احتياجات السكان، وتواجه أجزاء كثيرة من العالم شحاً مائياً. والمرافق الصحية هي إما مفقودة أو تُحمَّل فوق قدرتها، وتلوث المياه السطحية والجوفية يزداد بسرعة. وفي القرن العشرين، ازداد عدد سكان العالم ثلاث مرات وارتفع استعمال المياه ستة أضعاف. وبحلول سنة 2050، سوف يولد 3 بلايين فرد إضافي غالباً في بلدان تعاني أصلاً من نواقص مائية.
الفقراء في المناطق الريفية وحول المدن هم الذين يواجهون أقصى المعاناة، وهناك 1,2 بليون فرد يفتقرون الى مياه مأمونة و2,6 بليون من دون خدمات صحية أساسية. ويبلغ العدد الاجمالي السنوي للأشخاص الذينيموتون بسبب المياه غير المأمونة 1,8 مليون، ويتعدى عدد الأشخاص الذين يعانون من الجوع وسوء التغذية البليون. وبحلول سنة 2025، سوف يعيش أكثر من نصف السكان على كوكبنا في شح مائي. ويشير تقييم أجرته الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) عام 2007 الى أنه، بسبب تغير المناخ، سوف ينخفض توافر المياه بنسبة 10 الى 30 في المئة في المناطق القاحلة، التي يعاني بعضها حالياً من اجهاد مائي. وبالمثل، من المتوقع أن تنخفض الامدادات المائية المخزنة في الأنهار الجليدية، مما يخفض توافر المياه في المناطق التي يقيم فيها حالياً أكثر من سدس سكان العالم. وفي آسيا، على سبيل المثال، من المتوقع أن تنخفض المحاصيل الزراعية بنسبة 2,5 الى 10 في المئة بحلول سنة 2020، وقد يتعرض 132 مليون شخص في المنطقة لخطر حدوث مجاعة مفرطة بحلول سنة 2050.
اذا كانت «المياه هي الحياة» والمياه النظيفة الكافية هي «حق بشري أساسي» كما يقال في المنتديات الدولية، لماذا يشهد التقدم في التعامل مع الأزمة المائية كل هذا البطء؟ إن أحد الأسباب هو التمويل غير الكافي. فالتمويل في معظم ميزانيات المساعدات الوطنية والدولية منخفض بشكل يدعو الى الدهشة. وهناك انفصام بين الالتزامات والأفعال، بين الحاجات وما ينفقه كثير من الحكومات ووكالات الغوث.
المطلوب الجمع بين الموازنات الحكومية الوطنية والتمويل الدولي والثنائي والاعفاء من الديون واستثمارات القطاع الخاص، الى جانب تفعيل الموارد على مستوى المجتمع. ويجب على الحكومات أيضاً وضع هيكلية تضمن تشجيع الاستثمارات الخاصة والشراكات بين القطاعين العام والخاص من أجل مياه نظيفة وخدمات صحية. وهناك مصدر رئيسي للتمويل هو العائدات من تسعير المياه.
إن انخفاض أسعار الخدمات المائية بشكل مصطنع (وأحياناً عدم تحديد أسعار على الاطلاق) هو في صلب عدمالكفاءة والاستعمال المفرط وانبعاثات الملوثات الزائدة والتدهور البيئي. وببساطة، فان المياه المجانية هي مياه مبددة. وفي حين تم تأييد تسعير المياه منذ زمن طويل، خصوصاً في الري، نادراً ما سُنت قوانين لتطبيق هذا المبدأ، على رغم أنه محـوري لزيـادة الاستثمـار في القطاع. والحكومات في البلدان النامية لا تستطيع تلبية الطلبات على الاستثمارات من أجل الخدمات المائية الآن، وكذلك في المستقبل. والقطاع الخاص لن يستثمر ما لم يؤمن له عائد معقول. لكن حكومات البلدان النامية تستمر في مقاومة تسعير المياه والتخلص التدريجي من الدعم المالي مجادلة بأن الفقراء لا قدرة لهم على الدفع. والواقع أن مناطق الطبقة الوسطى تدفع أسعاراً منخفضة لقاء خدمات المياه التي تصلها بواسطة الشبكة العامة، في حين أن الفقراء يدفعون أسعاراً أعلى كثيراً لقاء الحصول على مياه أسوأ نوعية من باعة الصهاريج.
المطلوب مواد مالية جوهرية، لكن التمويل وحده لن يحل الأزمة المائية العالمية. وتبين التجربة أن الحلول التكنولوجية أو الهندسية وحدها لن تكون فعالة من دون الاصلاحات السياسية والمؤسساتية والقانونية الضرورية. فإصلاحات ملكية الأرض، وتحسين سياسات التسعير، والحقوق المائية ونظم التوزيع الشفافة، والحوافز الاقتصادية، وتحسين الهيكليات القانونية والتنظيمية، واستحداث سلطات ادارة الأحواض، والمشاركة الجماهيرية، هي جميعاً أجزاء ضرورية من الاصلاح السياسي. ومن الضروري أيضاً تمكين المجموعات النسائية والفقراء والشباب وهيئات المجتمع المدني ليكون لها صوت كاف في صنع القرارات التشاركية.
ولا يمكن التصدي للأزمة المائية بمعزل عن أزمات أخرى مثل تدهور الأراضي وزوال الغابات وخسارة النظم الايكولوجية. ومن شأن اعتماد منهج متكامل يأخذ في الاعتبار الروابط بين المياه والأراضي والناس، واجراء الاصلاحات والاستثمارات الضرورية في جميع هذه المجالات، أن يقطعا مسافة طويلة باتجاه ادارة مائية مستدامة. ويعني زوال الغابات وتدهور مستجمعات المياه توافر مياه عذبة أقل. وتساعد صيانة النظم الايكولوجية للمياه العذبة من خلال ادارة أفضل، ليس فقط في الحفاظ على كمية المياه المتوافرة، وانما على نوعيتها أيضاً.
في ادارة المياه، تبدو المهمة أحياناً أكبر من القدرة على المواجهة. فكيف سيتم تنسيق الخدمات والصناعة والتجارة والنقل والزراعة ومصائد الأسماك والعلوم والبيئة والأهداف الانمائية وادارة المياه وتنوع السكان؟ كيف سيتم اشراك الوكالات الدولية المتنوعة والادارات الحكومية والقطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية؟ كيف ستتم صياغة اجراء دولي عندما ترى الدول في أعالي مجاري الأنهار فائدة مباشرة قليلة في وقف التلوث الذي يؤثر على مستخدمي المياه في أسفل مجاري الأنهار، وعندما ترى البلدان الساحلية حافزاً صغيراً لحماية الأراضي الرطبة التي تعيل مصائد الأسماك التي تستغلها دول أخرى، وعندما تشعر البلدان التي لديها خزانات مياه جوفية عبر الحدود بأنها غير ملزمة بحماية مناطق تجدد المياه من التدهور الذي يؤثر في آبار جيرانها؟
هذه ليست أسئلة تافهة، لأن 43 في المئة من سكان العالم يعيشون في أحواض أنهار دولية، تغطي نحو نصف سطح اليابسة على كوكب الأرض وتحوي أكثر من 80 في المئة من تدفق أنهار المياه العذبة. وهناك أيضاً عدد لا يحصى من خزانات المياه الجوفية التي تجتاز الحدود السياسية. ومن المحتمل أن يزيد شح المياه التوترات بين الدول التي تتقاسم الموارد المائية. لكن للأزمة المائية أبعاداً كثيرة تختلف عبر المناطق، والامدادات المائية شحيحة في بعض المناطق ووافرة نسبياً في مناطق أخرى. ومن المحتمل أيضاً أن تختلف تأثيرات تغير المناخ في المدى البعيد عبر المناطق.
المياه في المنطقة العربية
جميع مقومات الأزمة المائية العالمية تنعكس بقوة في المنطقة العربية. وحالة الموارد المائية وإدارتها في معظم البلدان العربية مشكوك فيها. وقد أدى النمو السكاني والطلب المرتبط به على المياه في المنطقة الى تخفيض الامداد لكل فرد الى ربع المستويات التي كان عليها عام 1960. ومن دون تغير أساسي في السياسات والممارسات سوف يتفاقم الوضع مع تشعباته السياسية والاقتصادية.
ان التقرير السنوي للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) لسنة 2010 حول المياه في البلدان العربية يسلط الضوء على حالة ادارة المياه واستعمالها في المنطقة والحاجة الى مزيد من الادارة المستدامة لهذا المورد الشحيح والقيم. والتقرير مصمم للمساهمة في النقاش القائم حول الادارة المستدامة للموارد المائية في العالم العربي. إن معالجة الموضوع واسعة ومتعددة الجوانب، ولذلك فهي توفر فهماً نقدياً من دون أن تكون تقنية أو أكاديمية أكثر مما ينبغي. والهدف من نشر هذا التقرير هو تمهيد الطريق لاجراء اصلاحات مائية في البلدان العربية والتعجيل في وضع توصيات سياسية لادارة المياه واستعمالها بشكل عقلاني، ولتطوير القوانين والمؤسسات.
في ما يأتي ملخص للنتائج والتوصيات المقترحة.
نظرة عامة على المياه
يعاني قطاع المياه في البلدان العربية من ضغوط متعددة. فالمنطقة العربية تأتي في المرتبة الأخيرة من حيث توافر المياه العذبة المتجددة للفرد مقارنة بالمناطق الأخرى في العالم. وهناك حالياً 13 بلداً عربياً هي من البلدان التسعة عشر الأكثر شحاً بالمياه في العالم. وتوافر المياه للفرد في 8 بلدان عربية هو أدنى من 200 متر مكعب في السنة. ومن المتوقع أن يكون معدل التوافر السنوي للمياه العذبة في البلدان العربية كمجموعة بحلول سنة 2015 أدنى من 500 متر مكعب للفرد، ما يشير الى حدة الشح المائي. وبحلول سنة 2025، من المتوقع أن يكون السودان والعراق وحدهما فوق مستوى الشح المائي. وفي بعض البلدان العربية، تجاوزت السحوبات المائية الاجمالية قدرة الموارد المائية المتجددة المتوافرة. والواقع أن موارد المياه العذبة المتجددة الداخلية للفرد في معظم البلدان العربية هي أدنى كثيراً من مستوى الشح المائي البالغ 1000 متر مكعب، بالمقارنة مع معدل عالمي مقداره 7000 متر مكعب. وهناك أكثر من 45 مليون شخص في العالم العربي ما زالوا يفتقرون لمياه نظيفة أو خدمات صحية مأمونة. والنمو السكاني خلال العقدين المقبلين، الذي سيحدث 90 في المئة منه في مناطق مُدنية، سوف يزيد الضغط السياسي لتلبية هذه الطلبات خصوصاً للاستعمال المنزلي والصناعي.
لكن الميزانيات الحكومية مقيدة أصلاً وبالكاد تستطيع تحمل تقديم مستويات من الخدمات المائية الكفوءة للسكان الحاليين، الذين يزدادون بنسبة 2 الى 3 في المئة سنوياً. معظم هذه الزيادة يضيف ضغطاً على المدن والبلدات المزدحمة والتي تحصل على خدمات غير كافية أصلاً. ومن شأن الخطط الطموحة لتحقيق نمو اقتصادي سريع وزيادة وتيرة التصنيع أن تزيد النواقص المائية حدّة.
وقد ساهم النظام الاقتصادي السياسي، الذي تسبب بانخفاض تعرفات المياه وارتفاع الاعانات الخاصة بالوقود والمياه في البلدان العربية، باستعمال مفرط للموارد المائية الشحيحة وحرم المزودين من ايرادات هم بأمس الحاجة اليها للحفاظ على وضع شبكات الامدادات المائية في المدن والأرياف من النواحي المالية والصحية والفيزيائية. ومن المتوقع ان يغطي السعر المفروض في مقابل الحصول على المياه نحو 35 في المئة فقط من معدل كلفة الامدادات، والأسعار المفروضة في كثير من نظم الري هي أقل كثيراً.
ولأن الموارد المائية المتجددة لا يمكن أن تلبي الطلب المتنامي، شجعت الحكومات في أحوال كثيرة الاستغلال المفرط للموارد المائية الجوفية. فعلى سبيل المثال، بلغ معدل الاستخراج السنوي من المياه الجوفية في جميع الأحواض الفرعية في الأردن نحو 160 في المئة من معدل التجدد السنوي. وفي اليمن، يتم ضخ المياه الجوفية بمعدل يزيد أربع مرات عن التجدد الطبيعي، ما يدفع المزارعين الى ترك الوديان التي كانت منتجة في ما مضى. والاستخراج المفرط للمياه الجوفية الذي يتجاوز مستويات الانتاج المأمون لم يتسبب فقط بانخفاضات دراماتيكية في منسوب المياه الجوفية، وإنما أيضاً بتلوث خزانات المياه الجوفية في المناطق الساحلية بمياه البحر المالحة. وتقوم بعض البلدان بتوسيع الاستثمار في تحلية مياه البحر وفي معالجة المياه المبتذلة واعادة استعمالها. لكن معالجة المياه المبتذلة بشكل مناسب واعادة استعمالها المراقب ما زالا يشكلان مصدر قلق كبير يعرض الصحة العامة والبيئة لمخاطر جدية.
ويشكل تلوث المياه أيضاً تحدياً جدياً في المنطقة، يُنسب الى استعمال مستويات عالية من المواد الكيميائية في الزراعة، اضافة الى ازدياد تدفقات المياه المبتذلة المنزلية والصناعية الى الأجسام المائية. ويساهم افتقار شرائح كبيرة من السكان الى مرافق صحية في تلوث مصادر المياه العذبة بمياه الصرف غير المعالجة. ويؤدي تصريف المياه الشديدة الملوحة من محطات تحلية مياه البحر الى تدهور المناطق البحرية الساحلية. وتصرف بلدان الخليج نحو 24 طناً من الكلور و65 طناً من مواد تنظيف الأنابيب المانعة لتكوّن القشور ونحو 300 كيلوغرام من النحاس في الخليج يومياً.
المعالجات السريعة والحلول القصيرة الأجل ليست كافية لمواجهة تحديات قطاع المياه في البلدان العربية. على صانعي السياسة تغيير وجهة المسار وتبني اصلاحات سياسية تتصدى للقضايا الاستراتيجية الرئيسية. وعليهم اجراء تحول استراتيجي عن الاستثمار في تطوير موارد مائية جديدة الى ادارة امدادات الموارد المائية المتوافرة بكفاءة. وقد ثبت أن ادارة الطلب على المياه تنتج فوائد جوهرية وقد تكون في أحيان كثيرة أقل كلفة من اجراءات الادارة التقليدية للامدادات. وسوف توفر ادارة الطلب لصانعي السياسة الفرصة لاستحداث آليات لتعديل توزيع المياه بطريقة هي أكثر عدلاً واستدامة. إن الاحتياجات المائية للقطاعات البلدية والصناعية والزراعية مشروعة، لكن أولويات الحفاظ على سلامة الأراضي الرطبة وخزانات المياه الجوفية وأحواض الأنهار والنظم الايكولوجية الأخرى هي مشروعة أيضاً.
وعند ادخال هيكليات سياسية جديدة، يجب اعطاء أولوية عالية لتحديد وقياس مؤشرات اداء موثوقة لمراقبة تأثيرات الاصلاحات السياسية. والاحتساب الموثوق للتأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للسياسات الجديدة يوفر خطوطاً توجيهية نافعة لاحداث تحوّل نحو مستقبل مائي مستدام.
الموارد المائية وتغير المناخ
كنتيجة لتغير المناخ، من المتوقع أن تشتد العوامل الجوية المسؤولة عن قحولة المنطقة العربية. ومع نهاية القرن الحادي والعشرين، من المتوقع أن تعاني البلدان العربية من نقص في المتساقطات ينذر بالخطر نسبته 25 في المئة، وزيادة في معدلات التبخر نسبتها 25 في المئة، وفق نماذج تغير المناخ. ونتيجة لذلك، ستتعرض الزراعة التي ترويها الأمطار للخطر، حيث تنخفض معدلات المحاصيل بنسبة 20 في المئة على مستوى البلدان العربية مجتمعة، وبنسبة 40 في المئة في الجزائر والمغرب. وسوف تتفاقم النواقص المائية، وهي أمر واقع أصلاًبفعل الشح المائي الطبيعي وارتفاع لا يلين في الطلب على المياه في المنطقة. إن التخلف في تطوير استراتيجيات تكيُّف الآن سوف يساهم في حدوث معاناة أكبر في المستقبل.
وبالاضافة الى الاضطراب المناخي، تتعرض الموارد المائية في البلدان العربية لضغوط أخرى مثل النمو السكاني وتغير أنماط استعمال الأراضي وتباين الهطول المطري والشح المائي الطبيعي. وليس التعرض لهذه الضغوط مغايراً للتعرض لتغير المناخ. لذلك، فان مقاربة قائمة على التعرض والتأثر ستكون أكثر فعالية في دفع سياسات التدخل والتصدي للتعرض القائم (القحولة المتأصلة على سبيل المثال) وللتعرض المستقبلي (تغير المناخ على سبيل المثال). كما أن هذه المقاربة ستسمح لصانعي السياسة بصياغة استراتيجيات مبنية على معرفة وخبرة متراكمة في فهم عوامل المرونة والقدرة على التكيف في المنطقة العربية.
حالة النظم الايكولوجية للمياه العذبة
النظم الايكولوجية للمياه العذبة تزود المنطقة العربية بالمياه وتوفر موائل ضرورية للتنوع البيولوجي المائي. لذلك، فان المعلومات حول حالتها مهمة جداً. لكن البلدان العربية في أغلب الأحوال غير قادرة على توفير معلومات منهجية وموثوقة وحديثة حول حالة الأراضي الرطبة والمستنقعات والبحيرات وأحواض الأنهار والواحات وثرواتها البيولوجية. لذلك فان الحكومات العربية مطالبة بالحاح بتوفير الدعم وتخصيص الموارد لوضع آلية تقييم ومراقبة وابلاغ من أجل اجراء دراسات عن حالة النظم الايكولوجية للمياه العذبة. ولضمان فعاليتها، يجب أن تكون الدراسات التقييمية موثوقة علمياً ووثيقة الصلة باحتياجات صنع القرارات.
ونظراً لتسارع التفاعلات البشرية مع النظم الايكولوجية للمياه العذبة في البلدان العربية، يجب أن تركّز الدراسات التقييمية على معرفة كيف تتغير هذه النظم، وما اذا كانت تزدهر أو تضمحل، وما هي التحديات الجديدة التي تواجهها، وهل صانعو السياسة يتصدون لتحديات النظم الايكولوجية هذه بفعالية. وعليها أيضاً أن تسلط الضوء على الأخطار التي تهدد استدامة التنوع البيولوجي والنظم الايكولوجية.
والحكومات العربية مطالبة أيضاً بالحاح بأن تزيد قدرتها على الاستفادة من تلك المعرفة وأن تجند الارادة السياسية لتحويل المعرفة الى فعل. هذه الارادة تعزز قدرة اختصاصيي الموارد المائية على تصميم وتنفيذ وتقييم تدخلات فعالة من أجل الادارة المستدامة للنظم الايكولوجية للمياه العذبة.
ادارة المياه الزراعية
تستأثر الزراعة بأكثر من 83 في المئة من استعمال المياه في المنطقة العربية، وصولاً الى 90 في المئة في بعض البلدان، في مقابل معدل عالمي نسبته 70 في المئة. وعلى رغم النواقص المائية الخطيرة، تبقى كفاءات الري عند 30 ـ 40 في المئة، وما زالت أسعار المياه المنخفضة شائعة، واحتياطات المياه الجوفية تُستنزف بشكل سريع، وحوافز تحسين الري لا وجود لها. والطلبات الملقاة على عاتق القطاع الزراعي كثيرة، غالبيتها غير واقعية. وتواجه الزراعة العربية المستدامة تحديات المساهمة في الأمن الغذائي، وتخفيض فاتورة استيراد الغذاء، وتأمين فرص عمل في الأرياف، وتحويل بعض من حصتها في المياه العذبة الى الاستعمال البلدي والصناعي، والتأقلم مع مياه ذات نوعية هامشية للري، والتكيف مع تغير المناخ. والممارسات الزراعية مسؤولة أيضاً عن ازدياد ملوحة التربة والمياه، والتلوث السام الناتج من استعمال المواد الكيميائية الزراعية، واقامة السدود على الأنهار، وخسارة التنوع البيولوجي المرتبطة بدمار الأراضي الرطبة.
هذه الهموم، على رغم أنها جدية ومتعددة الأبعاد، يمكن معالجتها من خلال مزيج من الاصلاحات المؤسساتية، والتغييرات في هيكليات الحوافز، والابتكارات التقنية. وعلى صانعي السياسة أن يأخذوا في الاعتبار مزيجاً من الآليات الاقتصادية، مثل الحسومات التشجيعية والضرائب المخفضة، والاعانات المالية المستهدفة، ومؤشرات الأسعار، والوصول الى الحقوق المائية، وتراخيص المياه التي يمكن مقايضتها، وغيرها من الحوافز الاقتصادية لاقناع المزارعين باعتماد تكنولوجيات كفاءات الري، وتغيير الأنماط الزراعية، وتحسين برمجة الري، وتخفيض الاستخراج المفرط، وعموماً تحويل النشاطات الزراعية الى المحاصيل ذات القيمة العالية.
على الحكومات العربية أيضاً أن توفر الدعم المالي لجهود بحثية تركز على تطوير أنواع محاصيل محلية جديدة قادرة على تحمل أحوال القحولة والملوحة. وبالنسبة الى البلدان التي تعتمد على الزراعة التي ترويها الأمطار، يُوصى بإيجاد حوافز لتحسين نظم حصاد مياه الأمطار والاستثمار فيها.
في الواقع، سوف تسفر هذه الاصلاحات السياسية عن نظام اقتصادي سياسي جديد للمياه. وهذا التغيير يتطلب من الحكومات العربية أن تأخذ في الاعتبار حكمة حيازة «افتراضية» للمياه من خلال استيراد الحبوب، على سبيل المثال، من بلدان غنية بالمياه، بينما تخصص الموارد المائية الشحيحة لمحاصيل تستهلك كميات منخفضة من المياه وتنتج محاصيل ذات قيمة عالية يمكنها أن تجني عملات أجنبية. ويبقى تحقيق أمن غذائي من خلال سياسات تجارية خياراً أكثر واقعية.
اعادة استعمال المياه
يبلغ حجم المياه المبتذلة التي يولدها القطاعان المنزلي والصناعي في البلدان العربية قرابة 10 كيلومترات مكعبة في السنة، منها 5,7 كيلومترات مكعبة تخضع للمعالجة. ويفترض هذان الرقمان أن ما معدله 43 في المئة من المياه المبتذلة المولدة سنوياً يتم تصريفه في شكل غير معالج. ومن حجم المياه المبتذلة التي تعالج، يعاد استعمال الثلث فقط. ومن المتوقع أن ينمو سريعاً حجم المياه المبتذلة المولدة في البلدان العربية نتيجة ازدياد استخدام المياه بسبب ارتفاع اعداد السكان والتصنيع وارتفاع مستويات المعيشة. وهناك شكوك حول نوعية المياه المبتذلة المعالجة في البلدان العربية. ولمحطات المعالجة في البلدان العربية كفاءة متغايرة كثيراً. ويسمح لها بمعالجة أحمال من المياه المبتذلة تتعدى حدود قدرتها، مما يعيق فعاليتها. وممارسة الجمع بين المياه المبتذلة المنزلية والصناعية من أجل المعالجة تفرض قيوداً على قدرة المحطات على العمل بشكل مرض. وفي بعض البلدان العربية، يمارس ري المزروعات بمياه مبتذلة غير معالجة نتيجة عدم توافر مياه عذبة كافية للزراعة.
إن الامكانات غير المستثمرة لمعالجة المياه المبتذلة واعادة استعمالها لزيادة الامدادات المائية في البلدان العربية تتطلب تدخلات سياسية مناسبة. وعلى صانعي السياسة اظهار التزام سياسي طويل الأجل باستراتيجية وطنية للاستفادة من المياه المبتذلة واعادة استعمالها، ووضع هيكليات تنظيمية مناسبة وسياسات لاعادة استعمال المياه. ويجب أن يشتمل تطوير سياسات مناسبة لترويج اعادة الاستعمال على تحليل اقتصادي لخيارات المعالجة واعادة الاستعمال، ونشر المعرفة العملية، وتطوير أفضل الممارسات، وآليات استرداد التكاليف، والتدريب المهني وحملات التوعية الجماهيرية، واعتماد مقاييسوخطوط توجيهية مكيفة تأخذ في الاعتبار برامج اعادة الاستعمال والموارد التقنية والمالية.
ولأن المياه المبتذلة المعالجة تمثل مورداً قيماً في منطقة شحيحة المياه، من المستحسن معالجة كل المياه المبتذلة المولدة واعادة استعمال كل المياه المعالجة. لكن بعيداً عن تلبية الأهداف المتعلقة بالكميات، يقتضي التخطيط الحكيم معالجة المياه المبتذلة حسب الأصول واعادة استعمالها بشكل مناسب وفق متطلبات حماية الصحة والبيئة.
ويجب تقييم خيارات قابلة للاستمرار مبنية على مستويات معالجة مختلفة واستخدامات نهائية متنوعة للمياه المبتذلة (بما في ذلك المحاصيل الغذائية وغير الغذائية، وري الحدائق العامة، وتجديد المياه الجوفية). ويجب أن تأخذ خيارات المعالجة في الاعتبار تحسين النوعية فضلاً عن توافر قوة عمل مدربة محلية لتشغيل مرافق المعامل ومراقبتها وصيانتها. وبالنسبة الى اعادة الاستعمال في الزراعة، يجب مراعاة معايير اختيار المحاصيل وطرق الري وفترات التطبيق. ويجب أن تكون تكنولوجيات معالجة المياه المبتذلة مناسبة للأوضاع المحلية ومقبولة من المستخدمين وفي نطاق قدرة الذين سيدفعون ثمنها. وأخيراً، يجب أن تكون اعادة الاستعمال جزءاً من استراتيجية مائية أكبر تدير وتنظم الطلب بفعالية.
التحلية: التكاليف والاستدامة والمعرفة
أجبرت النواقص في المصادر المائية المتجددة وغير المتجددة عدداً من البلدان العربية على الاعتماد على التحلية لتلبية معظم احتياجاتها من المياه البلدية والصناعية. وتبلغ حصة البلدان العربية، التي تحوي 5 في المئة من سكان العالم، 50 في المئة من كل قدرة التحلية التراكمية التي تم بناؤها في العالم منذ عام 1944. ومع استمرار المعدل المرتفع للزيادة السنوية خلال العقد المقبل، ستتضاعف القدرة الحالية بحلول سنة 2016، وهذا يحدث في مقابل كلفة عالية. ومن المتوقع أن تصل الاستثمارات السنوية في انتاج وادارة وتشغيل محطات تحلية مياه البحر في العالم العربي الى ما بين 15 و20 بليون دولار خلال العقد المقبل. وحالياً، يستعمل 25 في المئة من انتاج النفط والغاز السعودي محلياً لتوليد الكهرباء وانتاج المياه. وعلى أساس المعدلات الحالية لنمو الطلب، ستكون هذه النسبة 50 في المئة بحلول سنة 2030، وفق مسؤولين سعوديين. وعلى رغم ارتفاع الكلفة المتكبدة في انتاج المياه المحلاة، لا يوجد أي انصاف من جانب الطلب. فتعرفات المياه تغطي ما معدله 10 في المئة من الكلفة. واذا استمر دعم المياه من دون اعتراض، فقد يستهلك ما يصل الى 10 في المئة من عائدات النفط في بعض بلدان مجلس التعاون الخليجي بحلول سنة 2025. ويقدر أن تكون معدلات تسرب المياه من شبكة التوزيع ما بين 20 و40 في المئة. وفي بلدان مجلس التعاون الخليجي، بلغ معدل استهلاك المياه اليومي للفرد 300 ـ 750 ليتراً، وهو الأعلى في العالم.
هذه التكاليف المرتفعة لا يمكن الدفاع عنها في المدى البعيد، ما يحتم اجراء اصلاحات جريئة لتهدئة المخاوف حول استدامة قطاع التحلية. وقبل توظيف رأسمال كبير في محطات التحلية، على المؤسسات التي تمارس السلطة على المياه أن تعطي أولوية عالية لادارة التكاليف بتخفيض خسائر مياه التوزيع وتعزيز الكفاءة في انتاج المياه واستعمالها. فهذا هو الخيار الأقل كلفة لتلبية ارتفاع الطلب. وعلى الحكومات أن تعيد النظر في استراتيجياتها التسعيرية بفرض تعرفات تسترد التكاليف بينما توفر حسومات للمستهلكين كحوافز لقاء الاستعمال الكفوء للمياه.
ومن منظور أطول مدى، يطلب من الحكومات بالحاح أن تتخلى عن ملكية المحطات وتشغيلها وتتولى دور المنظم. هذا التحول سوف يوفر تلقائياً الفرص للقطاع الخاص لكي يطور، بوجود حوافز حكومية، صناعة تحلية أكثر تنافسية وذات قاعدة محلية واقليمية تقوم باعمال التصميم والتصنيع والانشاء والتشغيل والأبحاث والتطوير. ونظراً لضخامة حجم السوق والدور الاستراتيجي للتحلية في بعض البلدان العربية، فلا مغـالاة في تقدير الفوائد الاقتصادية. ومن أجل التصدي للمخاوف حول الانبعاثات الكربونية، على الحكومات العربية أن تربط أي توسع مستقبلي في قدرة التحلية باستثمارات كبيرة في مصادر الطاقة المتجددة المتوافرة بكثرة.
التشريعات المائية
مع استثناءات قليلة جداً، ليس لدى الدول العربية حتى الآن تشريعات مائية موضحة جيداً. فقد سُنت مع الوقت تشريعات مختلفة تتعلق بالمياه لمعالجة قضايا مائية مختلفة أو محددة. لكن جوهر ونطاق معظم المهمات المنوطة بها يميلان الى أن يكونا محدودين ومجزأين. وكانت النتيجة إما تشريعات بحد أدنى فقط تتعامل مع الموارد المائية، وإما قوانين متداخلة باتت متقادمة العهد ولا تفي بالمتطلبات الراهنة. ومؤسساتياً، ما زالت ادارة المياه مركزية الى حد بعيد في كثير من البلدان العربية، حيث المسؤوليات مشتتة بين كثير من الوزارات والسلطات المائية، مما يؤدي الى انعدام الكفاءة وسوء الادارة. والاشراف على ضخ المياه غائب أو محدود جداً، كما أن تنفيذ تشريعات المياه محدود.
وعلى رغم أن ترتيبات معتادة متنوعة أثبتت أنها تكمل بفعالية ترتيبات قانونية رسمية لاستخدام الموارد المائية في بعض البلدان العربية (منها عُمان)، تواصل دول عربية متعددة التركيز على استعمال الترتيبات النظامية. ويبدو أن بلداناً عربية كثيرة لا تقدر قيمة التدابير التقليدية المتعارف عليها في مجتمعاتها لتوفير الارشاد لقضايا الحوكمة المائية في الوقت الحاضر، وتنظيم الخدمات، وادارة الموارد المائية، وتوزيع المياه والتوسط في النزاعات، والمخالفات والعقوبات، والحفاظ على الموارد المائية والنظم الايكولوجية وحمايتها.
على الحكومات العربية أن تسن تشريعات مائية وطنية شاملة بامكانها أن تسهل الاصلاحات في المؤسسات وتوفر حماية قانونية لمزيد من أشكال الحوكمة المائية التشاركية التي تهم القاعدة الشعبية والهيئات الأهلية. وللقيام بذلك، يترتب على الخبراء القانونيين والمديرين المائيين الانتباه الى التراث الحي للترتيبات والمؤسسات المائية العرفية التقليدية، وتحديد المسؤوليات عن ادخال هذا التقليد في التشريعات المائية بما يتماشى مع القوانين المائية النظامية.
أي تشريع مائي سريع الاستجابة في الدول العربية يجب أن يعالج الفجوات القائمة في القوانين السارية. ويجب أن تحدد القوانين المائية آليات للاشراف على الوصول الى المياه وتنظيمه، وتعزيز كفاءة استعمال المياه من خلال نظام للوسائل والحوافز الاقتصادية، والتمكين من مكافحة التلوث وتنفيذ تقييم الأثر البيئي، وتسهيل الترتيبات المؤسساتية، واقامة مناطق محمية حيوية للموارد المائية، والاحتياط لتخطيط استعمال الأراضي، وتحديد غرامات قابلة للتنفيذ تتعلق بالمخالفات التي تلحق ضرراً بالموارد المائية. وأخيراً، تفرض وقائع تغير المناخ أن لا تكون النصوص الواردة في قوانين المياه جامدة. ولأن توافر المياه ونوعيتها سيكونان عرضة أكثر لتقلبات يحدثها المناخ ولا يمكن التكهن بها بثقة، فان التشريعات المائية يجب أن تراعي هذه الشكوك.
ادارة الموارد المائية عبر الحدود
تعتمد غالبية الدول العربية لتأمين امداداتها المائية على أنهار وخزانات جوفية تتقاسمها مع بلدان مجاورة. ومن جميع الموارد المائية المتجددة في البلدان العربية، ينبع الثلثان من مصادر خارج المنطقة. ومع ذلك لا توجد في المنطقة اتفاقية رسمية واحدة تتعلق بالادارة الجماعية للموارد المائية المشتركة. وقد صادقت سبع دول عربية فقط على اتفاقية الأمم المتحدة حول قانون الاستعمالات غير الملاحية للمجاري المائيةالدولية، التي تصنف المبادئ الرئيسية لقانون المياه الدولي وغالباً ما تستعمل لعقد اتفاقيات مشتركة تتعلق بادارة المياه وتقاسمها.
ولتعزيز الادارة الجماعية لأحواض المياه أو خزاناتها الجوفية المشتركة، على البلدان العربية أن تسعى الى عقد اتفاقيات تعاونية على أساس مبادئ اتفاقية الأمم المتحدة حول قانون الاستعمالات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية. ومن الحكمة تجاوز تقاسم المعلومات والاستشارات الأساسية واتخاذ خطوات جريئة لتحديد صيغة مستدامة لتقاسم المياه، توجهها مبادئ قانونية لاستعمال عادل ومعقول، والالتزام بعدم التسبب بأذى، بدلاً من الاعتماد على اختلال توازنات القوى الحالية. وعلى البلدان العربية التي ليست أطرافاً في اتفاقية الأمم المتحدة المذكورة ان توقع الاتفاقية وتصادق عليها.
ويجب عدم ترك ادارة الموارد المائية المشتركة محصورة في اختصاصيي الموارد المائية فقط، بل وضعها أيضاً على جدول أعمال كبار الديبلوماسيين واختصاصيي الشؤون الخارجية في البلد. وعلى صانعي القرارات على أعلى المستويات في البلدان العربية اعادة النظر بالقيود التي تعيق ابرام اتفاقيات فعالة وعادلة حول تقاسم وادارة الموارد المائية عبر الحدود، واتخاذ خطوات لاعطاء اختصاصيي المياه في البلد الصلاحيات اللازمة والدعم الاداري والمالي المطلوب لصياغة هذه الاتفاقيات وتنفيذها.
الحوكمـة المائية
كان تطور قطاع المياه في البلدان العربية مرتبطاً بهيكلية ضعيفة للحوكمة المائية. وقد تواطأت القطاعات المائية الحكومية الكبرى والاعانات المالية والاقتصادات السياسية غير المسعفة لتحد من صوت الجمهور والمساءلة والمشاركة. وهذا ينعكس في تـوزيع غير عادل واستعمال مسرف وازدياد الميل الى التلوث وانعدام الشفافية وانتشار خدمات مائية غير كفـوءة. وعلى رغم تأسيس جمعيات لمستخدمي المياه في عدد منالبلدان كشكل من ادارة تشاركية للري، فان التفويضات القانونية المطلوبة لدعم وتمكين مهمتها ما زالت مفقودة أو لم تكتمل بعد. هذا على رغم الأدلة بأن جمعيات مستخدمي الميـاه تساهم عند وجودهـا بتطويـر قطاع أكثر كفاءة، بما في ذلك تحسين جمع رسوم البنيـة التحتيـة والتشغيـل والصيانة والاستعمـال.
إن غالبية منظمات القطاع العام في البلدان العربية، التي تخدم احتياجات الري والامدادات المائية في المدن، لا تعمل بالشكل المناسب، وهي غير قادرة على خدمة زبائنها بكفاءة. وتتوزع مسؤولية ادارة المياه والخدمات المائية بين مؤسسات متعددة، نادراً ما تنسق في ما بينها. وتأخذ عمليات صنع القرار التوجيه من أصحاب الاختصاص والجهات الرسمية بغياب مشاركة الجهات المعنية أو بمشاركة غير فعالة من قبلها. ونادراً ما يتم تقاسم المعلومات بين صانعي السياسة والسلطات المخولة التنفيذ أو بين فاعلين حكوميين أو غير حكوميين. وفضلاً عن المخاوف المتعلقة بالكفاءة، هناك مشاكل جدية تتعلق بعدالة الممارسات المائية الراهنة، حيث الفقراء والنساء والأطفال هم أكثر معاناة. وعلاوة على ذلك، لم يدرك قطاع المياه في المنطقة أن كثيراً من القرارات التي تحكم اداءه تتخذ خارجه.
يجب النظر الى الحوكمة الجيدة على أنها أداة لتحسين ادارة الموارد المائية. وعلى صانعي السياسة العرب أن يضعوا قيد التنفيذ عمليات مؤسساتية، تسمح لجميع مجتمعات مستخدمي المياه والمستفيدين بالمشاركة في صنع القرارات المتعلقة بالمياه، فضلاً عن الادارة. ويجب ادخال اصلاحات على القطاع العام لزيادة اللامركزية وتشجيع تحويل المسؤولية والسلطة الى مجموعات المستخدمين المحليين. وهناك حاجة الى مزيد من الاجراءات الفعالة لتقوية المؤسسات والهيكليات القانونية لتوسيع القدرة التشاركية بين القطاعين العام والخاص، فضلاً عن ادارة المخاطر والعدالة الاجتماعية.
المعرفة حول المياه الجوفيةبواسطة الاستشعار عن بعد
تعتمد غالبية البلدان العربية كثيراً على المياه الجوفية لسد حاجات الاستهلاك البشري والطلب على مياه الري. ومع ذلك، لم توضع خرائط مكتملة لموارد المياه الجوفية في العالم العربي. وحيثما يعرف وجود خزانات جوفية منتجة، يهدد الحفر العميق والضخ المفرط استدامة المورد. ان تحسين المعرفة حول موارد المياه الجوفية هو شرط مسبق ضروري لتحديد معدلات الاستخراج المأمونة وتثبيت حصص عادلة لمستخدمين متنافسين، وادارتها بشكل مستدام، فضلاً عن تحديد أماكن تجمعات مائية جديدة تحت السطح. لذلك، على الحكومات العربية أن تجري دراسات لاستكشاف أحواض مياه جوفية جديدة ومراقبة وضع الخزانات الجوفية التي يتم استخراج المياه منها بنشاط. وبامكان تكنولوجيات الاستشعار عن بعد بواسطة التصوير الفضائي والتحليل من الأقمار الاصطناعية أن تزود الباحثين بمعلومات قيمة حول التكوينات المحتملة للمياه الجوفية. وعلى صانعي السياسة العرب زيادة قدرتهم على استخدام هذه المعرفة للاجابة عن أسئلة حول حدود كل حوض مياه جوفية، وعمق الخزان الجوفي، ومستويات الملوحة، ونوعية المياه المخزونة، ومعدلات الضخ المستدام. ويجب مراقبة وتحديث التغيرات في هذه المعايير مع مرور الوقت ومن حيث الحيز باستعمال نظم قواعد المعلومات التي يمكن تقاسمها مع مستخدمي المياه.
الادارة المناسبة لموارد المياه الجوفية تتطلب كثيراً من المعلومات. والمعرفة المكتسبة عن طريق الاستشعار عن بعد يمكن أن تساعد مخططي المياه الى حد بعيد في تحديد أحواض مياه جوفية جديدة محتملة، فضلاً عن تطوير سياسات لاستعمالها بحكمة وادارتها بشكل مستدام.
ملاحظات ختامية
يشهد العالم العربي أصلاً أزمة مائية. والاصلاحات الشاملة والمستمرة للسياسات المائية ما زالت مفقودة. فهل يمكن وقف التدهور في كمية المياه ونوعيتها، وصولاً إلى عكس هذا الاتجاه؟ وهل يمكن تجنب أزمة مياه وشيكة، أو بالأحرى ماثلة؟
لقد أشار المساهمون في تحرير هذا التقرير الى اصلاحات سياسية ومؤسساتية جارية في بعض البلدان العربية. لكن هذه الاصلاحات هي في بدايتها وسوف تستغرق سنوات قبل أن تتحقق نتائجها. وقد باشرت أبوظبي مؤخراً اعداد خطة عامة للموارد المائية لادخال اصلاحات وتوجيه استراتيجية من أجل ادارة متكاملة للموارد المائية في الامارة. وتقود الأكاديمية العربية للمياه التي مقرها دبي جهوداً مهمة لتطوير الرأسمال البشري والقدرة المؤسساتية في البلدان العربية. والمغرب واليمن هما أول بلدين في العالم العربي يعدان قوانين مائية شاملة. وقد تأسست جمعيات لمستخدمي المياه في مصر والأردن وليبيا والمغرب وعُمان وتونس واليمن. ويقوم القطاع الخاص في بعض البلدان بمساهمات كبيرة في تقديم الخدمات المائية. وحققت تونس والأردن تقدماً لافتاً في معالجة المياه المبتذلة واعادة استعمالها. وكانت نظم الادارة المائية التقليدية، مثل الأفلاج في عُمان، ناجحة بشكل استثنائي في وضع نظم فعالة للحوكمة المائية مبنية على ترتيبات عرفية. وأصبحت الجامعات ومراكز الأبحاث المائية الاقليمية أكثر التزاماً باجراء أبحاث عالية الجودة لتطوير وتقوية القدرة التكيفية في المنطقة.
وعلى رغم هذه الجهود الايجابية، لا تزال البلدان العربية بطيئة في تبني اصلاحات مائية بعيدة المدى. وتبقى تعرفات المياه دون الكلفة، وكفاءة الري منخفضة الى حد بعيد. وتُستغل خزانات المياه الجوفية بافراط، ويتم تدمير النظم الايكولوجية للمياه العذبة. ويتطلب تلوث المياه معالجات جدية. وما زالت بعض البلدان العربية تتربع على رأس قائمة أعلى معدلات الاستهلاك الفردي للمياه في العالم. وتنامي استثمارات الحكومات العربية في قطاعات السياحةواستخراج المواد الأولية والطاقة، على سبيل المثال، لا يتوافق بشكل جيد مع تقدير لمستقبل المياه في المنطقة.
ونظراً لحدة التوترات المائية، من الصعب تعليق آمال على حلول جزئية. والشراكات بين القطاعين العام والخاص لا يمكن أن تنجح اذا بقيت هيكليات تسعير المياه الراهنة من دون تعديل. وجمعيات مستخدمي المياه لا يمكن أن تنجح اذا لم يتم اقرار حماية قانونية. ولن تتحسن كفاءة استخدام المياه اذا لم يتم الغاء الدعم المالي الشامل أو تخفيضه بشكل كبير. ولن تكون محطات معالجة المياه المبتذلة فعالة اذا استمرت الصناعات بتصريف مجاري نفاياتها من دون معالجة. فهل هذه الجهود الاصلاحية متأخرة كثيراً وضئيلة جداً؟ لا ينبغي أن تكون كذلك اذا التزم القادة العرب باطلاق جهد حقيقي وشامل لاصلاح سياسي. ويناط انطلاق التحول بالتزام وفعل على أعلى المستويات القيادية.
يرسي هذا التقرير الأساس لاصلاحات فيقطاع المياه، ويقترح توصيات محددة لتغيير السياسات والممارسات المائية، فضلاً عن برامج دائمة للتعليم وتوعية الجمهور. وليس سراً أن التغيير ليس سهلاً ويستلزم الدخول في مجازفات. وسوف يأتي الضغط السياسي من قبل أولئك الذين لديهم مصالح محصنة والذين هم في وضع يجعلهم متأثرين بالغاء الدعم المالي وفرض تعرفات معقولة على المياه. ان الاصلاحات المائية تتطلب قيادة جريئة وعملاً حازماً من أجل مستقبل مائي مستدام مفعم بالأمل للأجيال الحالية والقادمة.