علم ممزوج بتراث شعبي
النباتات الطبية في سيناء
يشارك المجتمع البدوي في محمية سانت كاترين في مشروع لحماية النباتات الطبية يعتبر تجربة رائدة لإدارة الموارد الطبيعية
عزة عبدالمجيد (محمية سانت كاترين)
جبال شاهقة صلبة كالزمن وعتيقة كالتاريخ، تلقي بظلال رائعة على الطريق إلى محمية سانت كاترين في جنوب شبه جزيرة سيناء. ينعكس عليها جمال الطبيعة بلون فريد ليصبغ المحمية الهادئة التي تترامى على هضبة مرتفعة بمكونات تراثية وحضارية ودينية نادرة.
هذه المحمية، التي لم تتوقف يوماً عن جذب الزائرين من الأديان كافة ومن جميع بقاع العالم، تمتد عبر مساحة من الأرض تبلغ نحو 4250 كيلومتراً مربعاً، ويعيش فيها نحو 6000 نسمة، معظمهم من البدو.
تعتبر محمية سانت كاترين من أهم المواطن الطبيعية لمعظم النباتات النادرة في سيناء، وتضم حالياً 316 نوعاً من أصل 529 سجلت سابقاً، ما يعني تعرضها للإتلاف والانقراض. ويشكل هذا العدد 50 في المئة من نباتات مصر كلها. وثمة 14 نوعاً نادراً لا يمكن زراعته إلا داخل المحمية لملاءمة مناخها لنموه. ويُستخدم نحو 47 في المئة من هذه النباتات كأعشاب عطرية وطبية أو للطهي، كما تستخدم أنواع أخرى كوقود أو علف للماشية.
وكان الاتحاد العالمي لحماية الطبيعة أعلن عام 1994 أن منطقة سانت كاترين هي إحدى أهم مناطق التنوع النباتي في العالم.
ومن أهم النباتات الطبية السموة التي تُستخدم في تخفيض نسبة السكر في الدم وعلاج المغص المعوي، والحصلبان لعلاج التهاب الحلق، والبعيثران والزعتران لعلاج المغص والتقيؤ والصداع، وأنواع أخرى كاليانسون والشيح والشمّر.
اكتسب سكان المحمية من البدو معرفة طويلة بالنباتات واستخداماتها عبر السنين. إلا أنهم كانوا يفتقرون إلى الممارسات الفضلى لزراعتها وجمعها بطرق مستدامة وإكثارها وصيانتها والحفاظ عليها من الانقراض، خصوصاً في ظل التغيرات البيئية والمناخية.
مشروع صون النباتات الطبية
قبل أعوام قليلة، أفاق المجتمع البدوي في المحمية على أمل جديد بتحسين أوضاعه الاقتصادية. وذلك مع بدء تنفيذ مشروع صون النباتات الطبية عام 2003. كانت تلك خطوة أساسية، تبعتها مبادرة فعلية عام 2008 بإنشاء جمعية النباتات الطبية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وإشراك السكان المحليين في إدارة الموارد الطبيعية في المحمية. ويشير مدير المشروع عادل عبدالـله سليمان إلى أن شراكة المجتمع المحلي في العمل كانت مبدأ جديداً يتم تنفيذه للمرة الأولى في مصر.
يتولى قطاع حماية الطبيعة في جهاز شؤون البيئة المصري تنفيذ المشروع بتمويل من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومرفق البيئة العالمي. وهو يهدف إلى تحديد الأسباب الجذرية لخسارة التنوع الحيوي الثري في المنطقة، والحد منها، والتصدي للتهديدات التي تواجهها النباتات الطبية في مصر وترويج استخدامها بشكل مستدام من خلال عدد من التدخلات. وفي الوقت نفسه، يتم تمكين المجتمع البدوي وبناء قدراته في زراعة النباتات الطبية والعطرية وحصادها، ما يقوده إلى استخدام موارده وإدارتها بأسلوب يعود بالفائدة عليه وعلى اقتصاده.
كانت بداية عمل المشروع، كما يقول المنسق الإداري خليل سليمان، «حصر أنواع النباتات الموجودة والمعارف المرتبطة بها، من خلال إجراء مسح نباتي وسكاني لتحديد الأنواع المستخدمة». كما تضمن دراسة النباتات البرية والتعرف على استخداماتها بصورتها الطبيعية، وإجراء التجارب الضرورية لاحقاً. ترافق ذلك مع جهود للتوعية والتدريب في المجتمع المحلي، تضمن التعريف بأنواع النباتات وأهميتها الاقتصادية.
تمارس الجمعية مجموعة من النشاطات تدعم تنفيذ المبادرة التي يستفيد منها نحو 50 في المئة من أفراد التجمعات القبلية في المنطقة. يتضمن ذلك زراعة النباتات الطبية في الحدائق المنزلية، التي تدعى «مزارع إرشادية»، للحد من الجمع الجائر وتوفير مصادر وقود بديل يغني عن حرق الأشجار والنباتات البرية، وابتكار منتجات محلية وتسويقها لزيادة دخل السكان. يضاف إلى ذلك تدريب عملي على أساليب الجمع المستدام وتوعية المجتمع البدوي على أهمية حفظ التنوع البيولوجي.
من أبرز إنجازات المشروع برنامج «المدرسة الخضراء» الهادف إلى إنشاء حدائق للنباتات المحلية في 21 مدرسة ضمن المحمية. ومن أنشطته الأخرى دعم البدو في زراعة 17 حقلاً لإنتاج النباتات الطبية وتسويقها بشكل خام، وإنتاج العسل الجبلي، وتصميم نحو 150 منتجاً طبيعياً محلياً من خلال دعم الحرف اليدوية التي يمارسها نحو 600 فرد. وقد ساهم برنامج «القروض الدوارة» في تحسين الظروف الاجتماعية لنحو 500 أسرة وتوفير فرص عمل لأفرادها.
علم ومعارف تقليدية
وتمكين المرأة البدوية
تتوارى الحدائق الإرشادية في أرجاء المحمية، فيما تحيط بمقر المشروع بيوت بلاستيكية للنباتات تحمل أسماء أنواعها وفصائلها. وفي إحدى الزوايا داخل المبنى رفوف تقبع عليها عبوات زجاجية صغيرة أنيقة تحوي خليطاً من النباتات الطبية، تم إعدادها للاستخدامات التي دأب سكان المنطقة على اللجوء إليها عبر القرون الماضية. ويجري تسويق هذه الخلطات النباتية في مصر، إلا أنها في طريقها أيضاً إلى بلدان أخرى.
هكذا يعتمد المشروع على توفير الخبرة العلمية، مع الاستناد إلى المعارف التقليدية الشائعة بين السكان المحليين لاستخدامات النباتات. وهو ساهم في زيادة مشاركة السكان في برامج صون النباتات، ومنها برامج الإكثار وإعادة التوطين ومكافحة المهددات الطبيعية والبشرية.
يؤكد عادل سليمان أن المشروع أدى دوراً رائداً بإشراك المجتمع المحلي في أنشطة المحافظة على النباتات الطبية، مضيفاً أن «من أكبر نجاحاته مساهمته في تمكين المرأة البدوية وتحسين وضعها الاقتصادي والاجتماعي، خصوصاً في مجتمع بدوي محافظ لا يوفر أي فرص لعمل المرأة حتى لو أكملت تعليمها».
وتعتمد برامج المشروع ونشاطاته بشكل رئيسي على المرأة البدوية، التي تمثل العدد الأكبر من جامعي النباتات الطبية البرية. وتتولى النساء إدارة وتشغيل ثماني مزارع منزلية للنباتات الطبية، وهن يحصلن على دخل مادي شهري من عائد بيع هذه النباتات.
كادر
حكيم سيناء: حافظ التراث البدوي في طب الأعشاب
في حديقة جبلية في وادي اطلاح تسمى «الحلوة»، يقيم الشيخ أحمد منصور، وهو خبير ذائع الصيت في طب الأعشاب يُعرف عبر سيناء بالدكتور أو الحكيم. هناك أقام مدرسة تعتبر نموذجاً فريداً بما تحويه من نباتات وأشجار فاكهة تجسد معارفه وإيمانه بالاكتفاء الذاتي. فيها يلقن الأجيال الشابة من أبناء البدو وبناتهم، وغيرهم، ما ورثه عن جده من معرفة وخبرة بالنباتات الموجودة في محمية سانت كاترين، واستخداماتها في طب الأعشاب، للحفاظ على هذا التراث. وفي ذلك أيضاً ما يؤدي إلى صون النباتات الطبية والحيلولة دون انقراضها.
يقضي الدارس عامين أو ثلاثة أعوام في المدرسة، يتعرف خلالها على النباتات في الحديقة وفي جبال المحمية، ليتخرج بعدها خبيراً في طب الأعشاب أو النباتات الطبية. ويمكن للدارسين الإقامة في المدرسة، حيث تتوافر غرف لاستيعابهم والخدمات الضرورية لاستضافتهم.