يقتضي العرف وطبيعة الأشياء أن تربى الذكور والإناث من الماشية جنباً الى جنب. ولا يعني هذا أن يتساوى عدد الإناث مع عدد الذكور، وإنما يعني أن يتواجد الذكور والإناث بنسب معقولة تسمح بالتناسل الذي يضمن الاستمرار والتوازن بين الجنسين.
أما أن لا يربي السكان إطلاقاً إناث الحمير والبغال والخيول، أو ألا يربوا إلا القليل النادر من إناث البقر، فإن ذلك يدعو الى تساؤل علمي مشروع. هذه الظاهرة الغريبة سائدة في المناطق الزراعية في شمال شرق تونس. وقد رصدناها في استطلاع لسكان مدينة رأس الجبل وقرى غار الملح ورفراف وسونين والماتلين المجاورة، ولعلها موجودة أيضاً في مناطق أخرى في البلدان العربية.
تفيد استجواباتنا لعينة الفلاحين أن هناك سببين رئيسيين يقفان وراء اقتصار هذه المنطقة من تونس على تربية ذكور الماشية. الأول، ضيق المناطق الزراعية لا يسمح بتربية الإناث لقدرتها على التوالد وزيادة عدد الماشية. والثاني، الاعتقاد بأن القوة العضلية لذكور البغال والخيول والحمير تستجيب أكثر لمتطلبات تلك المناطق التي تكثر فيها الجبال والتلال والهضاب.
هذه الظاهرة إذاً تفسرها جزئياً حتمية ايكولوجية. فمن جهة، ستؤدي تربية الإناث من خيول وحمير وبقر ومعز وغنم الى اكتظاظ حيواني شبه مؤكد في تلك المناطق الضيقة جداً من حيث المساحة والخالية من السهول. وتتطلب تربية المواشي الوليدة شهوراً وربما أعواماً قبل إمكان التخلص منها ببيعها بأثمان مجدية، بحيث يصبح من الصعب على الموارد المحدودة في هذه البيئة الفلاحية الصغيرة الحجم أن تتحملها.
من جهة ثانية، يحتاج تنقل الفلاحين صعوداً ونزولاً في الجبال والهضاب والتلال الى دواب تتمتع بقوة عضلية أكبر. وذكور الدواب تتفوق عمومـاً على إناثها في هذا المجال، علماً أن تنقل الفلاحين في هذه المناطق لا يقتصر على مجرد ركوبها بل يشمل غالباً نقل أحمال ثقيلة عليها.
وعلى رغم ما في هذين العاملين من واقعية ومنطق، فإن رؤية العلوم الاجتماعية لا تلغي احتمال وجود مؤثرات أخرى. ويمكن طرح فرضية العامل الثقافي كسبب رئيسي أو مساهم في انتشار هذه الظاهرة. فهل هناك مثلاً عقائد دينية وقيم ثقافية لدى سكان هذه الجهة عملت على «حظر» تربية إناث الماشية؟ يعتنق سكان تلك المنطقة الديانة الاسلامية مئة في المئة. وليس في الإسلام ما يدعو الى تحريم تربية إناث الماشية، بل تحفل الآيات القرآنية بالحديث عن حكمة الله في خلق الذكر والأنثى في كل أنواع المخلوقات: «سبحان الذي خلق الأزواج كلها» (يس: 36)، «انه خلق الزوجين الذكر والأنثى» (النجم: 45)، «فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى» (القيامة: 39)، «قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين» (هود: 40)، «ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه» (الشورى: 11).
أما على مستوى القيم الثقافية غير الدينية، فليس هناك ما يشير الى أن سكان هذه المنطقة متأثرون بقيم حضارية قديمة عرفها القطر التونسي قبل الفتح الاسلامي. فالشخصية العامة للسكان هنا هي شخصية منصهرة كامل الانصهار، مثل بقية التونسيين العرب والبربر، في بوتقة الحضارة العربية الإسلامية.
من هنا، يبدو أن ضيق مساحات الأراضي، وقلة مواردها الطبيعية الصالحة لتربية عدد أكبر من الماشية، وصعوبة التنقل بين جبالها وهضابها وتلالها، هي العوامل الحاسمة التي أدت الى الاقتصار على تربية ذكور الماشية، ومن ثم الى ظهور قيم ثقافية لدى سكان تلك المنطقة تنظر الى تربية الإناث بنظرة تغلب عليها السلبية القاسية. فالأمر يتعلق هنا بنوع من الحتمية الإيكولوجية الشديدة التأثير في القيم الثقافية لسكان هذه المنطقة.
لقد أصبحت تربية إناث الماشية، خاصة من البغال والخيول والحمير، تعد ضرباً من السلوك الانحرافي. وبالتعبير السوسيولوجي، فتكرار ممارسة السكان هذا السلوك لعهود طويلة جعل تربية ذكور الماشية المعيار الاجتماعي المقبول والمزكى من الأفراد والمجموعات في هذه المنطقة. ومنه برزت مواقف وتصورات مزدوجة. فمن ناحية، أصبحت تربية إناث الماشية تجلب لصاحبها وصمة العار، وهذا ما ذكرته طالبة من قرية سونين شاركت في الاستطلاع، قالت ان أهل قريتها ينظرون بشيء من الاشمئزاز الى أصدقائهم الفلاحين في منطقة أتيك الزراعية المجاورة حيث تربى إناث الماشية الى جانب ذكورها. فيمكن القول سوسيولجياً ان هذه المنطقة التونسية بيئة تسود فيها «ثقافة» عار تربية إناث الماشية.
من ناحية ثانية، أصبحت تربية ذكور الماشية مفخرة عند سكان المنطقة. ولعل تربية الحمير تفصح أكثر من غيرها من الحيوانات عن معاني الذكورة، فالحمار لا يُعرف فقط بأعضائه التناسلية، بل أولاً وقبل كل شيء بنهيقه الذي يتميز بجلاء عن نهيق الحمارة التي تكاد لا تنهق. لذلك أصبح نهيق الحمار في هذا الفضاء الثقافي الذكوري مصدراً لشعور صاحبه بالافتخار، لا يضاهيه في ذلك البغل ولا الحصان. وهذا ما تذكره القصص والأقاويل عما يوحي به نهيق الحمار بالنسبة لأبناء قرية رفراف أو غار الملح مثلاً، فهو يعتبر الصوت المفصح بعزة لصاحبه عن سلطة الذكر في عالم الماشية وفي محيطه الإجتماعي الصغير الذي ولد وشبّ وكبر فيه.
بل إن سكان هذه المنطقة يتحاشون حتى التسمية الأنثى لعربات النقل الحديثة. ومن هنا تأتي مشروعية التساؤل عن علاقة محتملة بين التصور السلبي لأنثى الماشية وللمرأة عند سكان هذا المحيط الذكوري.