ألمحت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل أن سير بلادها باتجاه حظر مبيعات السيارات العاملة على الديزل والبنزين هو مسألة وقت لا أكثر، ثم عادت فأعلنت: «إننا لانزال بحاجة إلى محركات الديزل إذا ما أردنا تحقيق أهدافنا في حماية المناخ». فهل تشير هذه التصريحات إلى تعارض في المصالح بين مسألة حماية البيئة، التي تقع في صلب اهتمامات ميركل الشخصية، وبين صناعة السيارات، التي تشكل للألمان عصب اقتصادهم الوطني؟
يعود التزام أنغيلا ميركل بقضية المناخ إلى سنة 1995 عندما ترأست، بصفتها وزيرة للبيئة الألمانية، طاولة المفاوضات الدولية لمؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي الذي عقد في برلين. إلا أن الالتزام المطلق تجاه هذه المسألة العالمية قد لا يستقطب لحزبها الدعم الشعبي المرتجى، في بلد توفّر فيه صناعة السيارات التقليدية 800 ألف فرصة عمل، وتتلقى تجارتها ضربات السياسات الحمائية التي يتبناها دونالد ترامب في وجه ما يسميه "المؤامرة المناخية" التي تستهدف تنافسية الاقتصاد الأميركي.
ميركل والموازنة بين حماية البيئة وحماية الاقتصاد الألماني
ميركل قالت نصف الحقيقة. فالانبعاثات الناتجة عن محركات الديزل هي في أغلبها أكاسيد النيتروجين، التي لا تصنف ضمن الغازات الأساسية التي تسبب الاحتباس الحراري، مثل ثاني أوكسيد الكربون الذي تطلقه محركات البنزين. أما النصف الآخر الذي تجاهلته فهو تفاعل أكاسيد النيتروجين وتشكيلها للضباب الدخاني والمطر الحمضي، بالإضافة إلى دورها في تكوّن الأوزون والجسيمات الدقيقة اللذين يضران بالصحة العامة. ولهذا تعد انبعاثات السيارات العاملة على الديزل من بين مصادر تلوث الهواء المحيط، الذي يتسبب بوفاة أكثر من ثلاثة ملايين شخص حول العالم سنوياً.
إذا كانت انبعاثات محرك البنزين تساهم في الاحتباس الحراري وانبعاثات محرك الديزل تساهم في تلوث الهواء، فلمَ تبدي المستشارة الألمانية تعاطفاً خاصاً مع محركات الديزل؟ المعروف أن محركات الديزل الألمانية هي الأكثر تطورا في العالم. لكن "فضيحة فولكسفاغن"، أو ما يدعى في دوائر القرار الألماني "أزمة الديزل"، شكلت تهديدا لمركز ألمانيا في هذا المجال. ففي إطار تحقيق في الولايات المتحدة، اعترفت فولكسفاغن باتباعها التحايل البرمجي من أجل اجتياز اختبار الانبعاثات من محركات الديزل. هذا لم يضر فقط بمصداقية المجموعة، وإنما أساء أيضاً إلى سمعة "الماكينة الألمانية" التي ترسخت خلال عقود من العمل المتقن. والضرر لحق أيضاً بصناعة السيارات في أوروبا بشكل عام، فالمجموعة استخدمت برمجيتها ليس فقط في سيارات فولكسفاغن العاملة على الديزل، بل في معظم السيارات التي تصنعها في العديد من الدول الأوروبية، مثل أودي وبورشه وبنتلي ولامبورغيني وسكودا وسيات.
قد يكون المستفيد الأكبر من مشاكل فولكسفاغن شركة تسلا الأميركية، التي أخذت توسع استثماراتها في السيارات الكهربائية وأنظمة تخزين الطاقة، لتضع معايير جديدة في سوق السيارات تقوم على تقديم منتج بمواصفات عالية يكون صديقاً للبيئة. وبعدما كانت جميع أنواع تسلا مرتفعة الثمن، أنزلت إلى الأسواق مؤخرا سيارة جديدة أصغر حجما، بنصف سعر سيارتها التقليدية. الحاجة لخفض انبعاثات غازات الدفيئة والحد من تلوث الهواء، إلى جانب نجاح كل من شركة تسلا والشركات الصينية، مثل جيلي وبي واي دي، في خلق سوق يتسارع فيه الطلب على السيارات الكهربائية، جعل العالم يقتنع أن نهاية السيارات التي تعمل بمحركات الاحتراق الداخلي هو أمر حتمي في نهاية المطاف.
شركة تسلا الأميركية تقود التطور التقني في صناعة السيارات الكهربائية
وكانت الصين أعلنت عام 2015 انها تخطط لتصبح المنتج الأول للسيارات الكهربائية في العالم بحلول سنة 2025. ولتشجيع صناعة السيارات الكهربائية وتعميم استخدامها محليا، منحت الحكومة الصينية حوافز سخية أوصلت مبيعات السيارات الكهربائية في السوق المحلي إلى نصف مليون سيارة عام 2016، وهو الرقم الأعلى في العالم. ولاقتناص الفرصة، انزلت شركة جنرال موتورز الأميركية في صيف 2017 سيارة كهربائية إلى السوق الصينية بسعر لا يتجاوز الخمسة آلاف دولار.
السيارات الكهربائية الصينية تغرق الأسواق المحلية والعالمية
بريطانيا أعلنت أنها ستحظر مبيع السيارات العاملة على البنزين أو الديزل اعتباراً من سنة 2040، وكذلك فعلت فرنسا. الهند قررت أن أية سيارة تباع في البلاد يجب أن تكون عاملة على الكهرباء اعتباراً من سنة 2030، وخطة الحكومة النروجية في قطاع النقل تضمنت هدفاً صريحاً: جميع سيارات الركاب والسيارات المغلقة التي تباع ابتداء من سنة 2025 يجب أن تكون ذات انبعاثات صفرية. واظهر تقرير هولندي مؤخرا ان القيود على الانبعاثات والانخفاض المتواصل في أسعار السيارات الكهربائية سيجعل استخدامها اقل كلفة من السيارات التقليدية خلال عشر سنين.
تقرير "التوقعات العالمية حول المركبات الكهربائية"، الصادر مؤخراً عن وكالة الطاقة الدولية، لفت الأنظار إلى حصول نمو سريع في عدد السيارات الكهربائية على الطرقات، الذي ارتفع إلى مستوى قياسي بلغ مليوني سيارة في العام الماضي، ما يمثل ضعف عددها في 2015. واعتبر التقرير أن هناك فرصة كبيرة لتحقيق عدد السيارات الكهربائية حول العالم التقديرات التي وضعها قطاع صناعة السيارات، بحيث تصل إلى 20 مليون سيارة بحلول سنة 2020 و70 مليوناً بحلول سنة 2025.
الشركات الصانعة للسيارات أدركت أخيراً أن التحالف غير المعلن الذي يجمعها مع شركات الوقود الأحفوري لم يعد كافياً لوقف المد الذي تسبب به تطور تقنيات الحصول على الطاقة من مصادر متجددة. وكان من نتائج هذا التحالف إفشال مساعي التحوّل إلى المحركات الكهربائية والهجينة في تسعينيات القرن الماضي. لكن صناعة السيارات التقليدية وجدت نفسها مجبرة على دخول التكنولوجيا البديلة بجدية، لئلا تخسر قدرتها التنافسية بعد ظهور شركات شابة تضخ الكثير من الاستثمارات والأفكار الجديدة، من تخزين الطاقة والمحركات الكهربائية والمركبات الذاتية القيادة. ولم يقتصر هذا على شركة تسلا وبطارياتها المتطورة، بل استقطب شركات غنية بالموارد مثل غوغل وآبل.
أولى السيارات الكهربائية ظهرت في بريطانيا وأميركا في القرن التاسع عشر، وكانت تعتمد على الطاقة عن طريق الربط بشبكات ثابتة، مثل حافلات الترام، في غياب بطاريات قادرة على التخزين. وكان اختراع محرك الاحتراق الداخلي والاكتشافات النفطية المتسارعة وراء تعميم استخدام السيارات على نطاق واسع. الا ان الاهتمام بالسيارات الكهربائية عاد بعد أزمات النفط العالمية في سبعينيات القرن الماضي. وخلال السنوات العشر الاخيرة باشرت كبرى الشركات تسويق طرازات جديدة من السيارات التي تعمل بمحرك كهربائي أو هجين (وقود وبطارية). واليوم تبيع مجمل الشركات الصانعة حول العالم طرازاً أو أكثر من هذه السيارات. ومؤخراً، أعلنت شركة فولفو السويدية تخليها عن محركات الاحتراق الداخلي وتحوّلها إلى السيارات الكهربائية والهجينة بشكل كامل اعتباراً من سنة 2019، علماً أن أولى مبيعاتها لهذا النوع من السيارات كانت في 2013.
في المقابل، نجد أن البلد الذي شهد ولادة أول سيارة تعمل على البنزين في العالم لايزال يقاوم ثورة السيارات الكهربائية شعبياً وصناعياً. فالحصة السوقية للسيارات الكهربائية والهجينة في ألمانيا كانت نسبتها 0.7 في المئة من مجمل السيارات في 2016، وهذه النسبة تعد هزيلة إذا ما قورنت بنسب نظيراتها في النروج وهولندا، حيث بلغت في الأولى 29 في المئة وفي الثانية 6.4 في المئة.
الحصة السوقية للسيارات الكهربائية والهجينة (وكالة الطاقة الدولية، 2017)
يربط الكثيرون ضعف حماسة الألمان تجاه السيارات الكهربائية بعدم كفاية الإجراءات الحكومية، حيث لم توفّر البنية التحتية التي تغطي أنحاء البلاد بمحطات الشحن بالكهرباء، ولذلك لاتزال السيارات التقليدية تحظى بأفضلية المواطن الذي اعتاد أسبوعياً السفر مسافات تصل إلى بضع مئات من الكيلومترات لا يكفي شحن السيارات الكهربائية لاجتيازها. كما أن مبلغ الحسم الذي تتحمله الحكومة عند شراء السيارات الكهربائية (4000 يورو) لا يزال منخفضاً، ولا يغطي فارق السعر الواسع بين هذه السيارات ونظيراتها التقليدية. وكذلك الحال بالنسبة للإعفاء الضريبي السنوي الذي تحظى به السيارات الكهربائية، فهو مبلغ ضئيل (50 يورو) لا يشكل حافزاً جدياً.
من دون شك، يلعب الدعم الحكومي دوراً محورياً في زيادة مبيعات السيارات القليلة الانبعاثات، كما هو واضح بشكل جلي في هولندا والدول الإسكندينافية. وفي المنطقة العربية نموذج على هذا، حيث أدت الإعفاءات التي قدمتها الحكومة الأردنية، وشملت رسوم التسجيل والجمارك وضريبة المبيعات، إلى زيادة كبيرة في حصة السيارات الكهربائية والهجينة التي دخلت البلاد في سنة 2016 إلى نحو نصف مجمل عدد السيارات المستوردة. فقد بلغ عدد السيارات الكهربائية 885 سيارة وعدد السيارات الهجينة 33 ألفا، في مقابل نحو 43 ألف سيارة تعمل على البنزين، ما يؤشر إلى تحول معتبر في قطاعي النقل والطاقة الأردنيين لا مثيل له في البلدان العربية.
الأردن في صدارة الدول العربية التي تدعم السيارات الكهربائية والهجينة
من ناحية أخرى، ينظر صانعو السيارات الألمان بترقب إلى التغير الحاصل في الأسواق. لكن على الرغم من تراجع مصداقية مجموعة فولكسفاغن خلال السنتين الماضيتين، فإن مبيعاتها احتلت الصدارة عالمياً خلال سنة 2016. أما شركة دايملر، التي تعاني بعض طرازات سياراتها ايضا من مشاكل في انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، فهي باعت وحدها ثلاثة ملايين سيارة في السنة ذاتها.
ولذلك تبدو الصناعة الألمانية غير متعجلة في التخلي عن استثماراتها الضخمة في محركات الاحتراق الداخلي، وإن كانت بدأت باختبار السوق الجديدة عبر طرح عدد من الطرازات الكهربائية والهجينة، مدركة أن الرياح آخذة في التغير. السؤال ليس عما إذا كانت صناعة السيارات الألمانية ستلحق بالركب الكهربائي والهجين أم لا، بل متى.