خلال العصور التاريخية الأخيرة، تمكّن الإنسان من ترويض العديد من أنواع الحيوانات المختلفة. وعلى الأرجح، كانت الكلاب في طليعة الحيوانات التي جرى استئناسها قبل نحو 12 ألف سنة، على عكس القطط الأليفة التي سبقتها الكثير من الحيوانات إلى رفقة الإنسان مثل الماعز والخراف والأبقار والخنازير والدجاج والخيل وكذلك جواميس الماء.
البداية المتأخرة والمتواضعة لترويض القطط لم تحل دون انتشارها السريع في جميع أرجاء الأرض حيث وجد البشر، وهي تنافس الكلاب حالياً على عرش أكثر الحيوانات الأليفة التي يربيها الإنسان. في الولايات المتحدة، تعيش القطط كحيوان أليف في نحو 38 في المئة من البيوت، ويبلغ عددها أكثر من 94 مليون قط بمعدل قطين اثنين لكل بيت، أما عدد الكلاب الأليفة فيقترب من 90 مليون كلب. وقد أنفق الأميركيون في سنة 2017 أكثر من 100 بليون دولار من أجل رعاية القطط المنزلية.
وتوجد الآن عشرات السلالات من القطط الأليفة، أشهرها: القط الشيرازي ذو الفرو الطويل، والقط السيامي صاحب الصوت العذب، والقط الروسي ذو الفراء الفضي الممزوج بالأزرق، وقط ماو (الاسم الفرعوني للقطط) الذي يرتسم حرف M على جبهته ويتميز بفرائه المرقط، وشبيهه قط دلمون البحريني.
أغلب هذه السلالات لم تظهر سوى في العصور الوسطى وما تلاها، نتيجةً لمزاوجة القطط المستأنسة مع أنواع أخرى من القطط البرية، خاصةً القط الأوروبي البري، وبهدف الحصول على قطط ذات مواصفات أفضل. وقد أدّى هذا التزاوج إلى ظهور سلالات رقطاء أو ذات بقع في فرائها، علماً أن القطط المستأنسة "الأصيلة" تتميز بفرائها المخطط.
قط ماو المصري
مصرية أم شامية؟
تنحدر جميع القطط الأليفة المعاصرة من القط الليبي، الذي يعرف أيضاً بالقط الإفريقي أو قط الصحراء، وهو نوع من القطط البرية لايزال ينتشر في شمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، وفي الشرق الأدنى وعلى محيط شبه الجزيرة العربية وشمالاً حتى بحر قزوين.
تقترح دراسة، جرى نشرها في دورية "نيتشر" منتصف 2017، أن القط الليبي انتشر بشكل واسع قبل نحو 12 ألف سنة في الشرق الأدنى. واستناداً إلى المكتشفات الأثرية والتحليل الوراثي، فإن القطط في منطقة الهلال الخصيب كانت على علاقة تعايش مع أولى المجتمعات الزراعية التي عرفتها البشرية. ويرتبط هذا الأمر بتخزين الحبوب التي جذبت القوارض المزعجة، وهي بدورها جذبت القطط إلى حيث يتواجد البشر.
ولا يمكن الحسم حول الفترة التي عرفت فيها العلاقة بين الإنسان والقطط تحولاً من التعايش إلى الترويض، لكن مساهمة قطط بلاد الشام في مورثات القطط الأليفة المعاصرة بدأت مع انتشارها إلى أغلب أنحاء العالم القديم حيث وصلت إلى جنوب أوروبا قبل 6600 سنة. كما تم العثور على بقايا قط جرى دفنه قبل 9500 سنة في قبرص، ويرجح أن هذا القط انتقل مع السفن إلى هذه الجزيرة التي لم تعرف القطط من قبل.
القط الليبي البري أصل القطط المستأنسة
واكتشفت قطع سيراميكية في جنوب غرب تركيا تعود إلى الألف السادسة قبل الميلاد لأشكال حيوانية تشبه القطط. أما أقدم اللقى الأثرية التي تجسّد القطط من دون أدنى شك فقد تم العثور عليها في تل أثري يقع إلى الجنوب من قرية المرج في محافظة البقاع اللبنانية، وهي تعود إلى النصف الثاني من الألف السادسة قبل الميلاد.
وفي مصر، التي كانت معظم المصادر تعتبرها إلى وقت قريب الموطن الأول لترويض القطط البرية، تواجدت القطط مع الإنسان قبل نحو 6 آلاف سنة. ويؤكد ذلك العثور على هياكل عظمية لعدة قطط في أحد مدافن هيراكونبوليس (الكوم الأحمر) في صعيد مصر يعود تاريخه إلى 3700 سنة قبل الميلاد، ما يؤكد علاقة التعايش التي كانت قائمة بين القطط والمصريين القدماء.
أما أقدم رسم لقط يحمل طوقاً حول عنقه فظهر في أحد مدافن سقارة في محافظة الجيزة، ويعود إلى ما بين 2500 و2350 قبل الميلاد. واعتباراً من مطلع الألفية الثانية قبل الميلاد، أصبحت القطط مستأنسة بكل تأكيد، وصارت رائجةً في فن الرسم المصري، وشاع تحنيطها، وجرى إكثارها ومزاوجتها بهدف تحسين صفاتها.
واتخذت أهم الآلهة المصرية أشكال الهررة ومنها: إله الشمس والنور "رع" الذي كان يتجسّد في شكل القط هليوبوليس الكبير ليفتك بأبوفيس الثعبان الشرير أصل الظلام، وإلهة القمر والخصوبة والإنجاب باستيت (شقيقة رع) التي كانت تصوّر على شكل امرأة برأس قطة.
نقش على التابوت الحجري لقطة تحتمس ابن الفرعون أمنحتب الثالث (القرن 14 ق.م)
وعلى الرغم من قيام البعض بالربط بين الإلهة باستيت واللفظ الشائع "بسّة"، سواء في اللهجات العربية أو حتى في اللغات الأخرى (مثل Puss)، إلا أن اللفظ على الأرجح مشتق من الصوت الذي يستخدم للنداء على القطط. في المقابل، فإن لفظ "قط" رائج في اللغات الأوروبية (مثل Cat)، ويختلف علماء اللغة الأوروبيون حول أصل الكلمة ففريق ينسبها إلى اللغة العربية أو اللغة النوبية، وفريق يرى أنها من الجرمانية القديمة ثم انتقلت إلى اللاتينية فاليونانية والسريانية والعربية. واللافت أن ابن دريد، عالم اللغة والشاعر المعروف الذي توفي في القرن العاشر الميلادي، قال إنه لا يحسب كلمة "قط" عربية صحيحة.
أبقى المصريون قططهم المستأنسة تحت الحراسة الشديدة حيث اختص الكهنة برعايتها ومزاوجتها. وتشير التحاليل الوراثية إلى أن وصول القطط المصرية إلى أوروبا بدأ منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد. أما أول ظهور لقط مستأنس أوروبياً فكان في نحت رخامي عثر عليه في اليونان يمثل قطاً موثوقاً يواجه كلباً، ويعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد. ولم تنتشر تربية القطط بشكل واسع في أوروبا حتى القرن الرابع الميلادي. وبفضل البحّارة الذين اقتنوها على سفنهم، انتقلت القطط الأليفة إلى جميع أنحاء العالم حتى بلغت إلى اليابان في القرن العاشر.
القطط في تراث الشعوب
في أوروبا كانت القطط رمزاً للحرية والاستقلال وحارساً للمنازل وفأل خير، وكانت القطط السوداء تحظى باحترام كبير، خاصةً في بريطانيا. لكن هذه الحال سرعان ما تغيرت في القرون الوسطى عندما قررت محاكم التفتيش أن القطط بجميع أنواعهن ساحرات متحولات، وهكذا تعرضت القطط للملاحقة والتنكيل. وإنه لمن المدهش أن تتمكن القطط من النجاة خلال هذه الفترة العصيبة من تاريخ أوروبا.
وفيما تغيرت النظرة إلى القطط السوداء من جالبة للحظ إلى مصدر للشؤم في أوروبا ثم في أميركا، حافظت القطط السوداء على مكانتها الجيدة في روسيا. ويسود اعتقاد في إسكتلندا بأن رؤية قطة سوداء ضالة تجلب الرخاء والازدهار، وفي اليابان يقال إن اقتناء المرأة العزباء لقط أسود يجذب لها الراغبين بالزواج، وإجمالاً ترمز القطط في التراث الشعبي الياباني إلى الطالع الحسن. وهي لدى البوذيين تبشّر بمكاسب من الذهب إذا كانت ألوانها داكنة، وبمكاسب من الفضة إذا كانت ألوانها فاتحة.
وتتفق جميع الشعوب على مهارة القطط وقدرتها على النجاة بحياتها، فهي توصف بأنها ذات سبعة أرواح أو ذات تسعة أرواح. وينسب البعض الرقم الأخير إلى العقائد الفرعونية في تجسد الآلهة، ولكن الراجح أن عدد الأرواح يقترن برقم الحظ المفضل لدى الشعوب فهو سبعة لدى العرب والدول الناطقة بالإسبانية، وستة لدى الأتراك، وتسعة لدى الصينين وعنهم انتقلت فكرة الأرواح التسعة إلى الأوروبيين.
وتعتبر القطط أو السنانير من الحيوانات المحببة في التراث العربي، ويُستحب إهداؤها بدلاً من أن يُنقد ثمنها، ولها أسماء كثيرة. يروي الدميري من القرن الرابع عشر في كتابه "حياة الحيوان الكبرى" أن أعرابياً اصطاد سنوراً فلم يعرفه، فتلقاه رجل فقال: ما هذا السنور؟ ولقي آخر فقال: ما هذا الهر؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا القط؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا الضيون؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا الخيدع؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا الخيطل؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا الدم؟ فقال الأعرابي: أحمله وأبيعه لعل الله تعالى يجعل لي فيه مالاً كثيراً، فلما أتى به إلى السوق قيل له: بكم هذا؟ فقال: بمئة، فقيل له: إنه يساوي نصف درهم، فرمى به وقال: ما أكثر أسمائه وأقل ثمنه!
رسم لسنور في مخطوط عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات للقزويني (القرن 13 م)
ويضرب به المثل في سرعة الاختطاف والأخذ بسرعة، فيقال «أثقف من سنور». ويوصف به الرجل الذي تتراجع مكانته مع تقدمه في العمر، يقول الفرزدق «كمثل الهر في صغرٍ يغالى به حتى إذا ما شبّ يرخص». ويقال أيضاً «أبرّ من هرة»، أرادوا بذلك أنها تأكل أولادها من شدة حبها لهم. وقالوا «لا يعرف هر من بر» أي لا يعرف الهر من الفأر.
وقد ورد ذكر القط في كثير من الشعر العربي، تقول ميسون بنت بحدل في قصيدتها التي تعاف فيها القصور وتحن إلى ديارها «وكلب ينبح الطرّاق دوني أحب إلى من قط ألوف». ويقول أحمد بن فارس، من القرن العاشر الميلادي، صاحب المجمل في اللغة «نديمي هرّتي وأنيس نفسي دفاتر لي ومعشوقي السراج». ويقول ابن العلاف البغدادي في مطلع أشهر قصائده «يا هر فارقتنا ولم تعد وكنت عندي بمنزلة الولد، فكيف ننفك عن هواك وقد كنت لنا عدة من العدد، تطرد عنا الأذى وتحرسنا بالغيب من حيّة ومن جرد».
القطط الغازية
نجاح القطط وانتشارها قام على العلاقة الطيبة التي جمعتها بالبشر، لاسيما دورها في حفظ المحاصيل من تعديات القوارض، وحماية صحة الإنسان من الأمراض الخطيرة التي تنقلها القوارض. ومع تغير المناخ، وارتفاع درجات الحرارة التي تؤدي إلى زيادة أعداد القوارض، يبدو أن القطط هي السلاح الحاسم الوحيد لمواجهتها. في الولايات المتحدة، كثرت الشكايات خلال السنوات الماضية من كثرة الجرذان في الأحياء، وبعد تجربة العديد من الخيارات لحل هذه المشكلة كان الحل الناجح في مدينة شيكاغو هو الاعتماد على القطط الشاردة اعتباراً من سنة 2016.
الاعتراض الوحيد الذي لاقته مبادرة مدينة شيكاغو في نشر القطط الشاردة كان من جماعات حماية الطيور المهاجرة، فالقطط انتهازية بطبعها وهي لن تفوت وجبة دسمة سواء كانت من القوارض أو الطيور أو الزواحف. ولطالما تسببت "ضراوة" القطط بآثار خطيرة على التنوع الحيوي، خاصةً على الجزر المعزولة حيث تطورت الحيوانات في معزل عن المفترسات أو حيث اعتادت طيور البحر وضع أعشاشها على الأرض.
القطط من الأنواع الغازية لضراوتها ومهارتها في الصيد
في الوقت الراهن، تتواجد القطط في يعض جزر غالاباغوس، أما قوارض غالاباغوس الأصلية فلم تعد توجد سوى في الجزر التي لا تجوبها القطط. وبشكل مشابه، قضت القطط على أعداد كبيرة من الطيور البحرية في نيوزيلندا مثل الطائر المسروج وببغاء الكاكابو.
وتوجد الكثير من الحالات الموثقة عن تسبب القطط بحالات انقراض محلية للطيور، ففي سنة 1949 جلبت بعثة استكشافية خمس قطط أليفة إلى جزيرة ماريون في المحيط الهندي، وبحلول سنة 1975 كانت القطط تكاثرت ليبلغ عددها أكثر من ألفي قط تفترس نحو 450 ألفاً من طائر النوء الحفّار سنوياً. وفي غضون 15 سنة كانت القطط الدخيلة قضت على 3 من أصل 12 نوعاً من طيور النوء. وفي سنة 1991 تم وضع حد للقطط واستؤصلت من الجزيرة.
القطط قدمت خلال آلاف السنين خدمات جليلة للإنسان، وأعداد الأليفة منها التي تسكن البيوت وتحظى بالاهتمام يزيد عن 500 مليون قط حول العالم. ومع ذلك تشوب هذه العلاقة بعض المنغصات، كالأمراض المشتركة بين القطط والإنسان، واستغلال القطط في صناعة الفراء والجلود. وإذا استثنينا مخاطرها كنوع غازٍ يلحق الضرر بالأنواع المهددة، فإن القطط تستحق بجدارة أن تنافس الكلاب على رفقة الإنسان.