في منتصف سبعينيات القرن الماضي، اقترح عالم البيئة الأميركي غاريت هاردن ما أسماها "أخلاقيات قارب النجاة"، حيث اعتبر أنه في العالم المعاصر ذي الموارد المحدودة يمكن النظر إلى كل دولة غنية على أنها قارب نجاة مليء بالأثرياء نسبياً، وفي محيط كل قارب يسبح عدد كبير من فقراء العالم. ويرى هاردن أنه إذا سُمح لأي من هؤلاء الفقراء بالصعود إلى قارب النجاة، فستحدث الفوضى ويغرق الجميع، ولذلك من واجب الأشخاص على قارب النجاة تجاه جنسهم أن يكونوا أنانيين ويُبعدوا الفقراء!
استعارة هاردن المجردة من العواطف هي ما يحكم العالم حالياً. فالأسوار على حدود البلدان الغنية تزداد ارتفاعاً في وجه المهاجرين من الدول الفقيرة. وفي أكثر من مكان، ترتفع أصوات المحافظين التي ترفض المساومة على نمط الحياة في مقابل استقبال المهاجرين أو تقديم العون للبلدان الأكثر فقراً. ولكن هل موارد العالم شحيحة إلى درجة حرمان الأكثرية من العيش الكريم؟ أم أن نمط الحياة في البلدان الغنية يستنزف ثروات الأرض على نحو غير عقلاني؟
الإستهلاك المفرط استنزاف للطبيعة
أفضل مقياس متاح لتقييم تأثيرات مستوى المعيشة المرتفع على أنظمة دعم الحياة على كوكب الأرض هو "البصمة البيئية"، الذي يقدّر مساحة الأرض المطلوبة لتزويد كل إنسان بالطعام والملابس والموارد الأخرى إلى جانب امتصاص التلوث الناتج عن الإنتاج والاستهلاك. تُظهر آخر معطيات البصمة البيئية أن الحفاظ على نمط حياة المواطن الأميركي استلزم 8.1 هكتار من مساحة الأرض في سنة 2016، بينما احتاج الأوستراليون والكنديون إلى 6.6 و7.7 هكتار على التوالي، والبريطانيون 4.4 هكتار، والألمان 4.8 هكتار، واليابانيون 4.5 هكتار، علماً أن المتوسط العالمي هو 2.75 هكتار. وتبلغ البصمة البيئية للمواطن الصيني 3.6 هكتار، في حين أن بلداناً تتصدر العالم في معدل النمو السكاني مثل الهند ومعظم أفريقيا لم تتجاوز بصمتها البيئية 1.2 هكتار.
وفي العالم العربي، تبلغ البصمة البيئية للمواطن السعودي 6.2 هكتار، وترتفع في الإمارات لتصل إلى 8.9 هكتار وفي الكويت 8.6 هكتار وفي قطر 14.4 هكتار. وهي في مصر 1.8 هكتار وفي الجزائر 2.4 هكتار، فيما تتراجع إلى نحو هكتار أو أقل في معظم الدول العربية غير النفطية.
توجد علاقة وثيقة بين أنماط الحياة الاستهلاكية واستنزاف الموارد الطبيعية وتراجع حالة البيئة. ومنذ سبعينيات القرن الماضي، تؤكد الدراسات على وجود صلة بين زيادة الاستهلاك وارتفاع مؤشرات انبعاثات الكربون والنيتروجين وتناقص المواد الخام وتراجع التنوع الحيوي وانحسار الموارد المائية والإفراط في استهلاك الطاقة.
وكان تقرير لمنظمة "أوكسفام" وجد أن 10 في المائة من البشر الأغنى في العالم مسؤولون عن نصف انبعاثات غازات الدفيئة العالمية. وفي المقابل، تقتصر مساهمة 3.5 مليار شخص من بين الأفقر عالمياً على 10 في المائة فقط من مجمل الانبعاثات. ويبيّن التقرير بوضوح الصلة بين نمط الحياة الاستهلاكية وتغيُّر المناخ، علماً أن مواطني الدول النامية هم الأكثر هشاشةً تجاه العواصف العاتية والجفاف والصدمات المناخية القاسية الأخرى. ويشكّك التقرير في الفرضية القائلة بمسؤولية المواطنين في البلدان الفقيرة عن نمو الانبعاثات سنوياً، حيث يقترح أن هذا النمو ناتج عن زيادة حجم التصنيع في هذه البلدان لصالح الدول الغنية، مما يعني أن الانبعاثات المرتبطة بنمط حياة الغالبية العظمى من الفقراء لا تزال أقل بكثير من نظرائهم الأثرياء في الدول الاستهلاكية.
ويحذّر بحث، نُشر في دورية "نيتشر كوميونيكشنز" في منتصف 2020، من الأثر العميق للإفراط في استهلاك الموارد على البيئة والتنمية. ويخلص البحث إلى أن الانتقال نحو الاستدامة لن يتحقق من دون إجراء تغييرات في نمط المعيشة تتكامل مع التطورات التقنية المستجدة، مما يستلزم تقليلاً في حجم الاستهلاك وتغييراً بنيوياً من خلال اعتماد منتجات أكثر استدامة.
ويقترح البحث اتباع سياسات بيئية جديدة وفعالة لخفض الاستهلاك وتقليل آثاره السلبية، تشمل على سبيل المثال الضرائب البيئية، والاستثمار في المشاريع الخضراء، وإعادة توزيع الثروة، واعتماد أسبوع عمل أقصر لبناء اقتصاد أكثر خضرة. وكذلك تفكيك الدافع الرأسمالي للثروة، بحيث لا تكون الغاية هي مراكمة الأصول والأموال وإنما التمتع بنوعية حياة أفضل تراعي سلامة البيئة وحقوق الأجيال القادمة.
وكانت مجموعة تضم 83 شخصاً من أثرياء العالم دعوا، في رسالة نشرتها صحيفة الغارديان في منتصف شهر يوليو (تموز) الماضي، إلى زيادة الضرائب على الأغنياء لدفع تكاليف الانتعاش الاقتصادي بعد جائحة "كوفيد-19". وطالبت المجموعة السياسيين بتحقيق المساواة العالمية، والاعتراف بأن زيادة الضرائب على الأغنياء وضمان الشفافية الضريبية الدولية أمران ضروريان لتسوية قابلة للتطبيق على المدى الطويل.
تحقيق المزيد بموارد أقل
توقع "نادي روما" عام 1972 أن تؤدي الزيادة المطردة في الطلب على المواد إلى انهيار اقتصادي عالمي مفاجئ. ولكن الدراسات حول استهلاك الموارد والنمو الاقتصادي أظهرت أن المجتمعات تصل في مرحلة ما إلى تحقيق النمو الاقتصادي باستخدام موارد مادية أقل. فوفق بيانات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، مثلاً، حصل تراجع ملحوظ في استهلاك المعادن في الولايات المتحدة اعتباراً من سنة 1970، فيما استمر الاقتصاد الأميركي في النمو. وفي 2015 انخفض إجمالي الاستخدام الأميركي للحديد الصلب بأكثر من 15 في المائة من أعلى مستوى له في 2000، وكذلك انخفض استهلاك الألومنيوم بأكثر من 32 في المائة والنحاس بنسبة 40 في المائة عن ذروتيهما.
وتعدّ الولايات المتحدة أكبر منتج في العالم لكل من فول الصويا والذرة وتحتل المركز الرابع في إنتاج القمح. وبمقارنة مؤشرات استهلاك الأسمدة والمياه والأراضي الزراعية، يُلاحظ انخفاض استخدام الأسمدة بنسبة 25 في المائة عن ذروته في 1999. وبحلول سنة 2014 انخفض إجمالي المياه المستخدمة في الري بأكثر من 22 في المائة عن الحد الأقصى المسجل في 1984. كما انخفض إجمالي الأراضي الزراعية إلى مستويات تنافس أدنى نقطة في القرن السابق. في المقابل، ارتفع استهلاك بعض المواد في الولايات المتحدة، مثل الإسمنت والرمل والحصى، التي تدخل في صناعة البناء، وكذلك المنتجات البلاستيكية.
ومن اللافت أن استهلاك الطاقة في الولايات المتحدة في 2017 انخفض بنسبة 2 في المائة عن ذروته في 2008، كما انخفض انبعاث غازات الدفيئة على نحو أسرع بالمقارنة مع إجمالي استهلاك الطاقة، نتيجة التحول عن الفحم الحجري إلى الغاز الطبيعي في توليد الكهرباء.
وإلى جانب الولايات المتحدة، توجد مؤشرات على أن دولاً صناعيةً أخرى بدأت بتجاوز ذروة منحنى كوزنتس، مثل بريطانيا التي أطلقت الثورة الصناعية قبل قرنين من الزمن ووصلت إلى ذروة استهلاكها للموارد بين 2001 و2003. وتُظهر بيانات "يوروستات" أن بلداناً من بينها ألمانيا وفرنسا وإيطاليا شهدت على العموم استقراراً أو انخفاضاً في إجمالي استهلاك المعادن والكيماويات والأسمدة في السنوات الأخيرة.
أما الدول النامية، لا سيما التي تحظى بنمو متسارع مثل الهند والصين، فهي لم تصل بعد إلى مرحلة التراجع عن استهلاك الموارد. لكن من المتوقع حدوث هذا التحول في المستقبل القريب بفضل التطورات التقنية، كما هو حاصل في قطاع الطاقة النظيفة.
على من تقع المسؤولية؟
صحيح أن مساهمة المواطن الأميركي في انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون آخذة في التراجع منذ سنوات، ولكن الانبعاثات العالمية لا تزال في تصاعد والكمية التي تسبب بها المواطن الأميركي الواحد في 2018 تزيد عما أنتجه مواطنان صينيان أو 8 هنود أو 15 باكستانياً أو 6 مصريين أو 46 يمنياً أو 118 أثيوبياً في السنة ذاتها. وإذا اتبع 7.8 مليار إنسان، هم تعداد سكان العالم حالياً، نمط الاستهلاك الأميركي، فإن الأرض ستكون تحت ضغط تلوث يعادل فعلياً ما ينتجه 25 مليار إنسان.
ومن ناحية أخرى، فإن التراجع في كمية الموارد المستهلكة لإنتاج سلعة ما قد يؤدي إلى زيادة الأثر البيئي السلبي في مكان آخر. على سبيل المثال، تتضاعف استطاعة الأجهزة الرقمية على معالجة المعلومات كل سنتين تقريباً، وبينما يتناقص حجم هذه الأجهزة، تزداد أنواع المواد المستخدمة في تصنيعها. ففيما كانت رقائق الكومبيوتر في الثمانينات تحتاج إلى 11 مادة، تستلزم الآن نحو 60 مادة، وهذا يعني مزيداً من التنقيب عن العناصر النادرة وإضراراً بالبيئة في أماكن بعيدة.
من الضروري خفض الاستهلاك الزائد الذي لا يهدف الى تلبية الاحتياجات الحقيقية، بالتوازي مع توفير المزيد من البدائل المستدامة بيئياً، حتى لو كان ذلك يعني تراجعاً في النمو. فقد تبين أن ما اعتبره غاريت هاردن "قارب نجاة" في سبعينيات القرن الماضي ما هو إلا يخت فاخر لأثرياء العالم، يستنزف موارد الأرض المحدودة ويعرّض الجميع للغرق.