لمحناها من بعيد وهي تمشي ببطء في جوار حمارها الذي تدلى على جانبيه خُرج الماء الممتلئ. توقفت سيارتنا قربها وألقينا عليها التحية. وكعادة أهل الريف في السودان، ردت التحية بترحاب حار ظنّاً منها أننا نحتاج إلى المساعدة أو السؤال عن اتجاه ما في هذه السهول المترامية والطقس الحار الذي ألهب أجسادنا أثناء رحلتنا في ولاية شمال كردفان.
حدثتنا الفتاة مستورة عن حلمها الذي تبدد بارتياد مدرسة وتعلم القراءة والكتابة. قالت إن يومها يبدأ برحلة البحث عن الماء، التي قد تمتد مسافات طويلة، وحالها كحال كل أطفال قريتها الذين يذهبون لجلب الماء بدلاً من الذهاب إلى المدرسة. فالبحث عن الماء هو واجب جميع أفراد الأسرة، واجب حتمته ندرة المياه في فصل الصيف التي قد تستمر أكثر من خمسة أشهر.
الجفاف يهدد حياة الناس ومواشيهم التي كثيراً ما تنفق بسبب العطش. ففي مناطق كثيرة من ولايات السودان في إقليمي كردفان ودارفور، تتنقل قرى وجماعات سكانية بأكملها بحثاً عن الماء والمرعى في رحلة سنوية تسمى «المراحيل». وعدم الاستقرار الذي يحدثه العطش في الريف السوداني جعل من تقديم خدمات التعليم والصحة أمراً بالغ الصعوبة، بسبب تنقل بعض المجموعات السكانية من مكان إلى آخر بحثاً عن الماء والكلأ.
بين الوفرة والندرة
تقدر معدلات الأمطار السنوية في السودان بين الصفر في أقصى الشمال و800 مليمتر في أقصى الجنوب. ويبلغ متوسط الإيراد السنوي لمياه الأمطار نحو 400 بليون متر مكعب، وتتباين فترة هطولها بين سبعة أشهر في الجنوب في ولايات النيل الأزرق ودارفور وكردفان من أيار (مايو) إلى تشرين الثاني (نوفمبر)، وثلاثة الى أربعة أشهر فى الوسط في ولايات الخرطوم والجزيرة والقضارف وكسلا من تموز (يوليو) إلى تشرين الأول (أكتوبر)، وتنعدم في الشمال إلا نادراً.
والمفارقة أن معظم سكان الريف السوداني الذين يعيشون فى المناطق البعيدة عن ضفتي النيل وروافده يعانون من السيول المدمرة والفيضانات في موسم الأمطار ومن الشح والعطش في فصل الصيف. هكذا يذوقون الأمرّين من اختلال المعادلة بين الندرة والوفرة في الفصلين.
بهدف موازنة الاختلال والاستفادة من وفرة المياه في الخريف والشتاء وتخزينها لأوقات الندرة والجفاف في الصيف، شهدت الفترة السابقة جهوداً لتنفيذ العديد من مشاريع حصاد المياه في ولايات السودان المختلفة. وحصاد المياه هو عملية تخزين مياه الجريان السطحي الناتج عن هطول الأمطار للاستفادة منها في الزراعة والرعي، وتوفير المياه للأنشطة الحياتية الأخرى. وقد مارس الانسان القديم تقنيات حصاد المياه علي نطاق واسع في شمال افريقيا منذ عصور ما قبل الرومان.
وتدعم مشاريع حصاد المياه أهدافاً اقتصادية، من حيث تكثيف الزراعة وتنويعها، وزيادة الإنتاج في مناطق الزراعة التقليدية، وتنمية الثروة الحيوانية والغابية، الى جانب تحقيق أهداف اجتماعية في تطوير المناطق الريفية وخلق فرص عمل إضافية لاستقرار سكانها وزيادة دخلهم ورفع مستوى معيشتهم.
السودان بلد غني بموارد طبيعية تؤهله ليصبح «سلة غذاء العالم» كما يطلق عليه البعض. وقد استشعرت دول عربية، خصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي، هذه الأهمية الاستراتيجية، وظهر ذلك في تمويل كثير من المشاريع التنموية في السودان. ومشاريع حصاد المياه نموذج للتكامل العربي التنموي، وقد تمثلت في تشييد السدود الصغيرة وحفر الآبار وتأهيل الآبار القائمة وتنفيذ حفائر لتجميع مياه الأمطار. ووقع الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية العربية عام 2012 اتفاقية تمويل مشاريع حصاد المياه مع حكومة السودان بمبلغ 50 مليون دولار، وبعده البنك الإسلامي للتنمية بتمويل بلغ أكثر من 22 مليون دولار. وفي العام 2015 مول الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية مشاريع حصاد المياه في السودان بنحو 70 مليون دولار، وأخيراً جاء تمويل الصندوق السعودي للتنمية بمبلغ 120 مليون دولار.
حياة جديدة
بدت على الشيخ إدريس عبدالـله، شيخ قرية قلوماك في ولاية النيل الأزرق، ملامح السرور بافتتاح «حفير قلوماك» أحد مشاريع حصاد المياه في الولاية. وقال: «الآن انتهت معاناتنا، فقد كنا نشرب من مياه الآبار البعيدة، وكان الأهالي يسيرون مسافات طويلة ليحصلوا علي كميات قليلة من المياه. الآن يمكن أن يأتي الناس إلينا ليشربوا، بعدما توافرت كميات كبيرة من المياه بفضل هذا الخزان الذي سيجعلنا نزيد أعداد مواشينا».
وقال ابن قريته عبد اللـه كسا: نحمد الـله كثيراً إذ نرى اليوم نهاية العطش. عدونا الأول بدأ في الزوال». وأضاف: «نحن واللـه سعداء، فالمرأة كانت تحمل أوعية الماء لعدة كيلومترات، ويضيع يومها في البحث عن ماء قليل. وكان الرجال يذهبون لمسافات بعيدة حيث السهول والأودية المترامية في ولاية النيل الأزرق بحثاً عن المياه، ويغيبون عن عائلاتهم لفترات طويلة. ولم يكن أحد يتفرغ للدراسة من الصبيان أو البنات. الآن، بفضل هذه المشاريع، يمكن لأبنائنا وبناتنا أن يتعلموا ويذهبوا إلى المدارس لأن الماء صار قريباً».
قال المهندس عمار محمد علي، مدير الإدارة العامة لحصاد المياه في وحدة تنفيذ السدود: «الهدف الأول من مشاريع حصاد المياه توفير مياه الشرب للإنسان والحيوان في كثير من ولايات السودان، وتقليل معاناة الوصول إليه، والمساهمة في الاستقرار».
وأوضح أن الفترة من 2010 إلى 2015 شهدت تنفيذ 400 مشروع، تشمل 290 مشروع سدود وحفائر بسعة إجمالية تبلغ 94 مليون متر مكعب. تضاف إليها مشاريع العام 2015 التي استهدفت توفير 25 مليون متر مكعب من المياه وتأهيل ورفع قدرات السدود والحفائر القائمة وحفر 45 بئراً في ولايتي الجزيرة وغرب كردفان. وأضاف: «ما زال العمل جارياً في كثير من المشاريع التي سترى النور قريباً وينعم المواطن بفوائدها».
وتساهم مشاريع حصاد المياه في تنمية الريف اقتصادياً واجتماعياً، بتخفيف حدة الفقر وتنمية الموارد المائية خارج مجرى النيل وتحسين الإنتاج الحيواني والزراعي، إضافة الى المحافظة على البيئة. كما تساهم في دعم الأمن القومي والاستقرار، بتنمية المناطق الحدودية وتوفير المياه لتخفيف الصراع عليها داخل حدود السودان ومع الدول المجاورة. وهي تزيد حصة الفرد الريفي من المياه من حيث الكمية والجودة، وتساعد في توطين الرحل والرعاة ووقف نزاعاتهم على المياه مع المزارعين، وتحفيز النازحين عطشاً للعودة الى مناطقهم.