سيتشي أوتسوكا
ينعم لبنان وبلدان شرق البحر المتوسط، مهد الحضارات، بطبيعة متنوعة غنية. لكن هذه الطبيعة معرَّضة للخطر.
نلاحظ اليوم أن معدّلات نمو أشجار الأرز في لبنان تضاءلت بشكل كبير جداً. ولقد اشتهر أرز لبنان تاريخياً كمورد ثمين في صناعة السفن الخشبية التي استُخدمت للتجارة البحرية الفينيقية. لهذا السبب، يعتبر الحفاظ على الأرز اللبناني ضرورياً، ليس للبنان وحسب، بل للعالم كله، لأنّه يعد تراثاً مشتركاً.
رأيتُ غابات الأرز في لبنان للمرة الأولى عندما زرت محميّة الباروك الطبيعية في جبال الشوف صيف 2012. أرشدني في زيارتي للمحمية النائب وليد جنبلاط وعقيلته، اللذان طالما سعيا للحفاظ على جبال الشوف. لدينا نحن اليابانيين فكرة عن أشجار الأرز في جبال هيمالايا، التي تنمو عمودياً. أما الأرز اللبناني فيلقي بظلال فريدة من نوعها، إذ تمتد أغصانه أفقياً، وتبدو هذه الشجرة المميزة رشيقة وقوية وجليلة. ويتجاوز عمر بعض أشجار الأرز الألف سنة، وربما شهدت حملة الصليبيين في المنطقة. لذلك، تقع على جيلنا مسؤولية العناية بشجرة الأرز والحفاظ عليها في حالة جيدة. عندما كنت أعيش في فانكوفر في كندا قبل عقد من الزمن، رأيت أشجار الأرز اللبناني تنمو بحيوية في حديقة الملكة إليزابيث. كانت الجالية اللبنانية هناك تهتم بها وترعاها، وقد تأثّرنا بمحبتهم لهذه الشجرة.
تعرّفتُ في لبنان إلى عدد كبير من الجمعيات والهيئات التطوعية والبلديات التي تتولى رعاية الأرز اللبناني. وبعد استشارتي خبراء في الغابات، أدركت أن العناصر الأساسية للحفاظ على الغابات هي: أولاً، الوقاية من الحرائق. ثانياً، تحسين شتول الأشجار لتكون أكثر تكيفاً مع البيئة. وثالثاً، تدابير الحماية ضدّ الرعي الجائر. وتتصدّر هذه الأولويات إجراءات الوقاية من الحرائق في الجبل، لأن الحرائق بمجرّد حدوثها تسبب خسائر هائلة في الموارد الطبيعية. وتحدث حرائق الغابات بفعل مجموعة متنوعة من أنشطة يقوم بها الإنسان، كالنيران غير المراقبة وأعقاب السجائر وتعرية الأراضي الزراعية التي تفاقمت في الآونة الأخيرة. لكن إذا تنبَّه الجميع لهذه الأنشطة، فيمكننا تجنُّب حرائق الغابات.
في إطار إجراءات الوقاية من الحرائق في الجبال، تبرعت السفارة اليابانية بأجهزة ومعدات إطفاء لاتحاد بلديات الفيحاء في شمال لبنان عام 2009، ولجمعية الثروة الحرجية والتنمية في جبل لبنان عام 2010. أما العنصران الآخران فيتطلبان استراتيجية متوسطة أو طويلة الأمد.
كانت الحكومة اللبنانية أطلقت حملة تهدف إلى زرع 40 مليون شجرة في أنحاء البلاد، وقامت بتعبئة البلديات والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص لهذا الغرض. ويمكن لهذه الحملة أن تصبح أكثر تشجيعاً وفعالية إذا واكبتها إجراءات لرفع نسبة نجاح استنبات هذه الأشجار وحماية نموها. يذكر أن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) بدأت مؤخراً العمل على استنبات أشجار هجينة جديدة مقاومة للأمراض المعدية والجفاف وتغيُّر المناخ.
في إطار هذه الحملة، تتطلب إعادة التحريج استثمارات ضخمة في مرافق الريّ وإنشاء أسوار الحماية التي تؤمن نمواً سليماً للأشجار. إلا أن هذه تصطدم بمأزق الميزانية وصعوبة تأمين التمويل المطلوب. لهذا السبب، تصبّ الجهود حالياً لتخفيض كلفة إعادة التحريج، من خلال تعزيز جودة الشتول وقدرتها على مقاومة الظروف المعاكسة، واختبار أساليب الري المقتصد بالمياه، أو حتى إعادة التحريج من دون ري على الإطلاق.
الحياة البرية المهددة بالانقراض
يشهد العالم اليوم خطر انقراض أنواع حية تتراجع أعدادها بصورة حادة، ولا بد من اتخاذ تدابير عاجلة لإنقاذها. وهذا الخطر لا يستثني لبنان. ويعمل مركز «التعرف على الحياة البرية» في عاليه، وهو منظّمة غير حكوميّة، على إنقاذ الحيوانات المهدَّدة بالانقراض.
زرتُ الدكتور منير أبي سعيد، مؤسِّس هذا المركز وهو طبيب بيطري وناشط بيئي. فأخبرني أن المركز افتتح عام 1993 لأغراض تعليمية متعلقة بالأنواع البرية والتنوع البيولوجي في لبنان، خصوصاً الثدييات والطيور والزواحف والبرمائيات، إضافة الى رعاية الحيوانات البرية المصابة وإطلاقها بعد تعافيها. وتساعده زوجته ديانا في نشاطات المركز. فالمناهج الدراسية في لبنان لا تركز على الأنواع الحية التي تعيش في طبيعته، على رغم أن لبنان يتمتع بتنوع وفير من النباتات والحيوانات.
يفاجأ زوار هذا المركز برؤية زوجين من الدببة البنية تم ترويضهما بشكلٍ جيد، فيكتشفون أن الدببة البنية كانت تعيش في شمال لبنان حتى أوائل التسعينات. كما كانت الضباع المخططة تشاهد بالقرب من المناطق المأهولة. وهي معرضة لخطر الانقراض، إضافة إلى الثعالب الحمراء وبنات آوى وغيرها، نظراً للظروف غير المؤاتية.
لا تحظى هذه الحيوانات البرية بالحماية إلا من قبل بضعة أشخاص مندفعين بروح التطوع. لكن مبادراتهم تبقى بعيدة عن تأمين مستوى الحماية المطلوب. فهل يمكن دعمها من قبل صناديق ومؤسسات عامة؟ عندما كنت أعمل كديبلوماسي في المملكة العربية السعودية، كنت أعجب للحماسة والمثابرة اللتين تبديهما الحكومة السعودية في حماية الحياة البرية. النمر العربي مثلاً حيوان نادر يحظى بحماية شديدة لأنه يوشك على الانقراض بسبب الصيد غير المشروع.
تبدأ حماية الحياة البرية أولاً بالسيطرة على الصيد غير المشروع. وغني عن القول أن التنمية المفرطة وتوسع نطاق التحضر يشكلان تهديداً لبقاء الحياة البرية. فإذا تخطى الصيادون مستوى معيناً في قتل الطيور وغيرها من الحيوانات الصغيرة، يؤدّي ذلك لا محالة إلى تعريض الحيوانات المتوسطة والكبيرة الحجم التي تتغذى بها للخطر. على عكس ذلك، في اليابان، ساهمت الحماية المفرطة للحيوانات البرية في ارتفاع عدد الخنازير البرية والغزلان بشكل هائل، مما زاد خطر مهاجمتها للبشر والحيوانات الأليفة وإلحاق الأذى. بعبارة أخرى، يجب أن نحدد الأعداد المقبولة لكل نوع حي من أجل صون النظام البيئي.
إضافة إلى ذلك، على الصيادين أن يمتثلوا للقوانين المنظمة للصيد. وفي هذا الإطار، أفاد وزير البيئة محمد المشنوق عام 2014 أن معدلات الصيد غير المشروع انخفضت. ولقد اطلعتُ شخصياً على دليل الصيادين الذي أصدرته وزارة البيئة، وهو في غاية الوضوح ويتضمّن صوراً إيضاحية، ولا بدّ من تقدير مثل هذه الجهود.
نهج «الحمى» للحفاظ على البيئة
الصيد من أجل المتعة ليس مقبولاً في ظل تعرّض العديد من الأنواع الحية البرية للخطر. ربما أفكر بهذه الطريقة لأنني أتحدّر من شعب زراعي. وتحدد وزارة البيئة أربعة مخاطر تهدّد الطيور المهاجرة في لبنان، وهي: الصيد، الخطوط الكهربائية العالية التوتر، المبيدات المستخدمة في المزارع، والنفايات.
تسنّى لي مؤخراً التعاون مع جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) لتنفيذ مشروع حماية نبع في كفرزبد في البقاع الأوسط. وتشتهر هذه المنطقة بينابيعها الطبيعية التي تغذي نهر الليطاني وتجذب الطيور المهاجرة.
في منتصف كانون الأول (ديسمبر) 2014، زرت موقع المشروع في كفرزبد مع فريق من جمعية حماية الطبيعة. اجتزنا مسافة من الأجمات الخفيضة التي لم تمسّها يد التخريب قبل أن نصل إلى النبع.
كان المشهد رائعاً. رأيت طيور الحدأة تحوم في السماء ثم تنقضّ نحو الأرض، وطيوراً مائية اصطفّت في طابور على سطح المياه. أمام هذا المشهد، الذي يجمع بين المستنقع والغابة المتواضعة والجبل الشامخ في الخلفية، يخال المرء أنه في جنة عدن.
قال لي رمزي السعيدي، من جمعية حماية الطبيعة، إن هذه المنطقة الرطبة ملاذ لطائر النعار السوري المهددة بالانقراض، والحفاظ على المياه النظيفة في ذلك الموقع كفيل بإنقاذه. ولا تنحصر فائدة مياه النبع بالطيور، بل تشمل الإنسان أيضاً لأنها صالحة للشرب. وقد أتاح مشروعنا توفير مياه الشرب للزوار من خلال تأمين نقاط مجهزة بحنفيات (صنابير).
وأكد السعيدي ضرورة الحفاظ على توازن الأنظمة البيئية، ولذلك تعتمد الجمعية نهجاً مجتمعياً للحفاظ على المواقع والأنواع الحية والموائل والناس، بهدف تحقيق الاستخدام المستدام للموارد الطبيعية. ويطلق على هذا النهج اسم «الحمى»، وهو كان سائداً في شبه الجزيرة العربية. ولدينا في اليابان، مفهوم مماثل لإدارة الأنظمة البيئية، فنحن لا نؤمن بأن الطبيعة والإنسان هما في حالة عداء، بل في حالة تعايش. فإذا أنشأ المجتمع نظاماً لإدارة الموارد الطبيعية بشكل مستدام، فيمكنه تعزيز الاستفادة منها. هذا النظام يجب أن يكون حسن التصميم والإدارة وأن يصونه السكان.
سعت جمعية حماية الطبيعة لإحياء مفهوم الحمى، وطبقته في مناطق محددة بالتعاون مع البلديات والسكان. وتم تصنيف حمى إبل السقي وحمى كفرزبد وحمى عنجر وحمى القليلة ـ المنصوري البحري كمناطق بيئية محمية، وتعمل الجمعية على ترسيخ هذا النهج.
تعاني منطقة سهل البقاع حالياً من تلوث المياه والتربة. ويكاد نهر الليطاني يغصّ بمياه الصرف الصحي والصناعي والزراعي الملوّثة التي تصب فيه بلا هوادة. ولا يغطي المشروع الذي بادرنا فيه إلا رقعة صغيرة من أراضي البقاع الشاسعة. لهذا علينا أن نوسّع نطاق هذه الرقعة ليشمل المنطقة بأكملها.
ليتنا نأخذ بحكمة أجدادنا فنطبّق تدابير مثل الحمى.
سيتشي أوتسوكا سفير اليابان في لبنان، وقد كتب هذا المقال لـ«البيئة والتنمية»