بلدة لبنانية خضراء
بناها الأرمن في الصحراء
كانت بلدة عنجر اللبنانية الواقعة في شرق سهل البقاع مكاناً قاحلاً غير صالح للسكنى، عندما استقدم الانتداب الفرنسي إليها 5125 لاجئاً أرمنياً من لواء اسكندرون عام 1939 بعد ضمه إلى تركيا. لكن سواعد ثلاثة أجيال من سكانها أحالت تلك الأراضي شبه الصحراوية إلى جنة خضراء خلال 74 عاماً من العمل الجاد
بوغوص غوكاسيان (عنجر)
بدأت قصة بلدة عنجر في أيلول (سبتمبر) 1939، عندما استقدم الانتداب الفرنسي إلى تلك الأرض في البقاع اللبناني 1205 عائلات تضم 5125 لاجئاً أرمنياً. وقد تم نقلهم من ست قرى في منطقة جبل موسى، على بعد 18 كيلومتراً غرب مدينة أنطاكية على ساحل البحر المتوسط، في لواء اسكندرون الذي اقتطعته فرنسا من سورية و«أهدته» الى تركيا بموجب اتفاق بين حكومتي البلدين.
عارض سكان القرى الست ذاك الاتفاق، ورفضوا العيش تحت الحكم التركي، وطلبوا من الإدارة الفرنسية نقلهم الى مكان آخر في سورية أو الى لبنان. فوافق الفرنسيون على توطينهم في لبنان، الذي كان تحت الانتداب الفرنسي أيضاً.
اشترى الفرنسيون قطعة أرض من مالكها رشدي بيه فهمي، المسؤول التركي السابق عن منطقة البقاع الأوسط، في مقابل 8.2 مليون فرنك فرنسي. وساهم بعض الأرمن الأثرياء في دفع قسم من ثمن قطعة الأرض. وتم توقيع اتفاقية البيع في 9 أيلول (سبتمبر) 1939، وسُجلت الأرض رسمياً، وأقيمت عليها عنجر.
عنجر الحالية بلدة فريدة في لبنان، شيدت وفق تخطيط مميز. تبدو من الجو شبيهة بنسر مع تناسق مثالي. ولكن في العام 1939، كان موقعها أرضاً قاحلة ليس فيها إلا شجرة تين واحدة، بحسب بوغوص جانسزيان (91 عاماً) وهو من رجال الرعيل الأول في عنجر.
يقول جانسزيان إن العيش هناك كان شاقاً جداً في البداية: «كانت عنجر مكاناً غير صالح للسكنى، أرضاً شبه صحراوية مليئة بالأشواك والصخور وخالية من الأشجار. وكانت البيئة الجديدة مغايرة للمناخ المعتدل في «جنة» جبل موسى التي عاش فيها اللاجئون. وشكلت المستنقعات على ضفاف نهر الغزيل، الذي يرفد نهر الليطاني، بؤراً لتكاثر البعوض الذي نشر مرض الملاريا بين اللاجئين مودياً بحياة الكثيرين. وكان المكان خالياً من أي مأوى، ومن ماء الشرب وحطب الوقود ومرافق الصرف الصحي والغذاء الكافي. وكان الفقر حالاً سائدة».
توزيع الأراضي واستصلاحها
تعلو عنجر 900 متر عن سطح البحر. وتقع على طريق بيروت دمشق الدولية، على بعد 50 كيلومتراً من بيروت. وتبلغ مساحتها الاجمالية 1800 هكتار، منها 92 هكتاراً بنيت عليها البلدة و1102 هكتار من الأراضي الزراعية (750 هكتاراً يرويها نهر الغزيل و352 هكتاراً ترويها الأمطار). أما المساحة المتبقية فهي مشاعات تشتمل على مستنقعات ومنحدرات جبلية ومراع.
وتتكون عنجر من ثلاث مناطق جغرافية: منطقة وسطى أقيمت عليها البلدة، ومنطقة سفلى تنتشر فيها الأراضي الزراعية حيث يجري نهر الغزيل، ومنطقة عليا تسودها المنحدرات الجبلية.
وتروي لورنسيا كاباغيان، وهي راهبة من عنجر في التسعين من العمر، أن الإدارة الفرنسية وضعت مخطط البلدة وبنت البيوت التي يضم كل منها غرفة واحدة بمساحة 18 متراً مربعاً، ووزعتها عام 1941 على العائلات التي كانت تعيش في خيم. كما وزعت الأراضي الزراعية، ونظمت النشاطات الزراعية، وأمنت مياه الشرب، وأدارت برنامجاً صحياً، ودفعت طوال سنة ونصف سنة علاوات معيشة يومية تتراوح بين 5 و10 قروش للفرد، ما يكفي لشراء المواد الغذائية الأساسية.
وتضيف كاباغيان: «تأخرت هذه الانجازات كثيراً بسبب ندرة مواد البناء والظروف التي أملتها الحرب العالمية الثانية وقلة التمويل وانعدام خبرة المسؤولين الفرنسيين في هذه الأمور، ما أوقع اللاجئين في بؤس شديد».
حصلت كل عائلة على قطعة أرض مساحتها هكتار واحد، ثلثاها ترويه مياه النهر والثلث المتبقي يرويه المطر. وخلال السنين العشر الأولى زرع السكان الحبوب والبقول والخضر لضمان غذائهم، ثم شرعوا تدريجياً في غرس الأشجار.
شكل استصلاح الأراضي المستنقعية مهمة شاقة للمزارعين. فقد اضطروا إلى حفر خنادق تصريف عميقة حول أراضيهم لتخفيض منسوب المياه في الأراضي المنخفضة قرب النهر وجعلها ملائمة لزراعة الأشجار المثمرة.
كان حفر الخنادق ضرورياً أيضاً لمكافحة الملاريا. يقول جانسزيان: «في تموز (يوليو) 1942 بدأ تنفيذ برنامج تجفيف المستنقعات، مما ساعد كثيراً في تقليص رقعة تكاثر البعوض وتخفيض أعداده. فقد حفر المزارعون يدوياً خنادق يزيد طولها الإجمالي على مئة كيلومتر لتصريف المياه، ما أتاح استصلاح 250 هكتاراً من الأراضي التي أصبحت صالحة للزراعة». وكان عرض الخنادق 60 سنتيمتراً على الأقل، وعمقها بين 70 و100 سنتيمتر.
وتم شق قنوات مكشوفة للري بلغ طولها 90 كيلومتراً، لإيصال المياه الى المزارع. ويقول ليفون شمسيان (89 عاماً) إن هذه الإجراءات، مع استعمال المواد الكيميائية في مكافحة البعوض طوال ثلاث سنوات، مكنت من القضاء على الملاريا بحلول العام 1945. ويضيف أن «معظم السكان أصيبوا بالملاريا وأمراض أخرى، ما أودى بحياة أكثر من 1000 شخص خلال السنتين الأوليين».
حدائق وغابات في القفر
عنجر غنية بالموارد المائية. ويوفر نبع الغزيل ونبع شمسين مياه الري والشرب. وفي الوقت الحالي، تضخ وزارة الطاقة والمياه من هذين النبعين إلى أكثر من مئة بلدة وقرية في محافظة البقاع. ولكن خلال السنتين الأوليين من إنشاء عنجر، كانت النساء والأطفال ينقلون مياه الشرب من نبع الغزيل الذي كان يبعد نحو 1,5 كيلومتر عن مخيم اللاجئين. وكانت هذه المهمة شاقة، خصوصاً في موسم الأمطار حين توحل الطرق ويسود الصقيع.
في أواخر 1941، تم تركيب مضخة عند النبع نقلت المياه الى 16 سبيلاً تخدم جميع أحياء البلدة. وهذا سهل على السكان نقل المياه، ومكنهم من زراعة بعض الأشجار في حدائق بيوتهم. وفي أواسط خمسينات القرن العشرين، تم تركيب شبكة أنابيب أوصلت المياه الى كل بيت، مما سهل زراعة المزيد من الأشجار المثمرة والحرجية في الحدائق. وفي العام 1962، وصلت الكهرباء إلى البلدة.
تجري مياه الري من النبع الرئيسي بفعل الجاذبية، عبر قنوات ري رئيسية طولها ثلاثة كيلومترات وقنوات فرعية حفرها الأهالي. وتسقي هذه القنوات جميع الأراضي المروية والأراضي المجاورة.
ولكل بيت اليوم حديقته التي ينمو فيها ما يصل إلى 40 شجرة مثمرة. وقرب زوايا الشوارع المجاورة لبعض البيوت قطع أرض عامة شجعت البلدية سكان هذه البيوت على زرع أشجار حرجية فيها. فاستجابوا، وأقاموا غابات مصغرة على هذه القطع، وسوروها، وتولوا العناية بها. وبدورها، قامت البلدية بتحريج الحدائق العامة للبلدة وجوانب الطرق.
ونتيجة لذلك، اكتست عنجر بحلول العام 1975 حلة خضراء. فتغير المنظر القديم للبلدة الذي كان أشبه بمقبرة، الى جنة زاخرة بالأشجار الحرجية والمثمرة، قدمت إليها الطيور وأحياء برية أخرى واستوطنت فيها، فازداد غنى التنوع البيولوجي. وأضفت الأشجار مناخاً معتدلاً على البلدة حيث انخفضت شدة البرودة والحرارة.
بساتين الفاكهة
بدأت زراعة الأشجار في المنطقة الزراعية عندما فقد جيل عنجر القديم أمله بالعودة الى جبل موسى. ففي العام 1949، زرع أحد المواطنين أول بستان تفاح. وتبعه مزارعون كثيرون. وانتشرت زراعة التفاح وأشجار مثمرة أخرى في الستينات، وتزايدت حتى أواسط السبعينات حيث عمت معظم الأراضي الزراعية.
شكل التفاح المحصول التجاري الرئيسي، ولكن زُرعت على طول الخنادق في كل حديقة أشجار مثمرة أخرى مثل الخوخ والمشمش والإجاص والدراق والعنب والتوت. ومنذ 1960 أصبحت الفواكه تنتج بكميات تجارية، فبات المزارعون يكسبون دخلاً كافياً لإعالة أسرهم.
وغرس أهل البلدة أيضاً أشجاراً حرجية سريعة النمو، مثل الحور والصفصاف، على حدود بساتينهم المحاذية للطرق، فزودتهم بحطب الوقود وأعمدة البناء، كما شكلت مصدات للرياح وأسيجة طبيعية. ووفر تشذيب الأشجار المثمرة مصدراً آخر لحطب الوقود.
لكن المنحدرات الجبلية بقيت جرداء طوال عقود، لا تنمو فيها إلا نباتات عنيدة مثل البلاّن. ولم يحدث تجدد طبيعي لأشجار السنديان هناك بسبب رعي قطعان المعزى والأغنام على المنحدرات. ومنذ السبعينات، منعت البلدية دخول القطعان إلى هذه المنحدرات، وأسفر هذا الاجراء عن نتائج إيجابية بعد 20 سنة. فقد تجددت شجيرات السنديان والزعرور، المتبقية من الحرج القديم، ونمت حتى زاد ارتفاعها على مترين، وغطت الأجزاء العليا من المنحدرات.
وانخرط الكشافة وتلاميذ المدارس في التحريج محققين نجاحاً محدوداً بسبب نقص التمويل والمتابعة. وفي العام 2005، تولت البلدية بالتعاون مع وزارتي البيئة والزراعة ومنظمات دولية نشاطات إعادة التحريج، خصوصاً في سفوح المنحدرات الجبلية. ومنذ ذلك الحين يتم زرع أكثر من 10 آلاف شجرة متوطنة كل سنة، مع ترتيبات لسقايتها خلال السنتين الأوليين. وإلى ذلك، بوشر مشروع جديد لإعادة التحريج في كانون الثاني (يناير) 2013، بدعم من مرفق البيئة العالمي، لتخضير المنحدرات الجبلية والأراضي العامة والخاصة في عنجر وتعزيز تنوعها البيولوجي. وسوف تزرع خلال ثلاث سنوات آلاف الأشجار من عشرة أنواع حرجية متوطنة مثل السنديان والصنوبر والزعرور، وخمسة أنواع من الأعشاب الطبية مثل الصعتر والقصعين.
يقول المهندس الزراعي يسايي هفيتان، وهو من سكان عنجر: «بين عامي 1949 و2012 زرع سكان عنجر بأيديهم 700 ألف شجرة مثمرة وحرجية على الأقل». هذا حسّن البيئة المحلية وأوقف عملية التصحر وعكس اتجاهها وجلب للمجتمع فوائد اجتماعية واقتصادية وفوائد أخرى متنوعة. ويؤمل أن تُزرع الشجرة المليون في عنجر قبل نيسان (أبريل) 2015.
نموذج في التخطيط المدني
بلدة عنجر الحالية، بما فيها من أشجار حرجية وحدائق مثمرة وطرق نظيفة وموارد مائية غنية وشبكة منظمة لتوزيع المياه ومجتمع محلي نشط يضم بلدية ومدارس وجمعيات أهلية وعائلات، أصبحت مثالاً يحتذى في التخطيط المدني والإدارة البيئية. وتحاول بلدات مجاورة استنساخ أنماط التنمية في عنجر.
لقد تحققت جميع هذه الانجازات بمشاركة فعالة من السكان. وكانت مساهمة الحكومة محصورة في تطوير البنية التحتية، كتعبيد الطرق الرئيسية وتركيب شبكة توزيع الكهرباء وتبطين قنوات الري بالخرسانة.
ولكن مع مرور الزمن، منذ الثمانينات، لم تعد الزراعة تستهوي سكان عنجر، بسبب صعوبة تسويق محاصيلهم وصغر مساحات مزارعهم التي لا تحقق عائدات اقتصادية كافية. ونتيجة لذلك، انخفض عدد المزارعين، وأُجبر الشباب على البحث عن فرص عمل دائمة غير زراعية كي يتمكنوا من إعالة أسرهم. وهاجر كثيرون منهم الى المدن أو الى الخارج بحثاً عن عمل.
أما المقيمون في عنجر فقد واظبوا على زراعة الأشجار المثمرة والحرجية، سواء كوسيلة لكسب الرزق أو كتقليد. ويعتني كثيرون بالحدائق لرغبتهم في رؤية بلدتهم وأراضيهم خضراء، كما كانت في جبل موسى.
زائرو البلدة في هذه الأيام لا يصدقون أن كل هذا التطور والتغيير تحقق خلال 73 سنة بجهود محلية. لكن الحقائق دامغة، فسواعد ثلاثة أجيال من سكان عنجر أحالت تلك الصحراء جنة خضراء.
كادر
تهجير الأرمن الى عنجر
في 17 تموز (يوليو) 1939 بدأ إجلاء الأرمن من لواء اسكندرون السوري الذي ألحقه الانتداب الفرنسي بتركيا. وحتى 23 تموز (يوليو)، غادر 35 ألف أرمني وأكثر من 20 ألف عربي وشركسي هذا اللواء، بمن فيهم 5125 نسمة من جبل موسى رفضوا البقاء تحت الحكم التركي. وكان سكان هذا الجبل يعيشون بسلام على أرضهم التي اعتبروها «جنة» منذ وقت ممعن في القدم، يعود الى 300 سنة قبل الميلاد.
نظم الانتداب الفرنسي نقل الأرمن وأمتعتهم من جبل موسى الى عنجر. وهم مكثوا لمدة 40 يوماً في مخيم في رأس البسيط الساحلي شمال اللاذقية في سورية، تمهيداً لتهيئة موقع عنجر في لبنان. في ذلك المخيم عانى الأرمن مشاكل صحية حادة، بسبب عدم كفاية مياه الشرب والطعام والمأوى والتعرض لمياه الأمطار. وأصابت الأمراض المعوية الجميع، مسببة فوضى شديدة وانتشاراً كاسحاً للذباب.
استغرقت كل رحلة من رأس البسيط الى عنجر يومين. أولاً، من رأس البسيط الى طرابلس بالسفن، ثم بالقطار الى رياق في البقاع، وبعدها بالشاحنات ومشياً على الأقدام الى عنجر، حيث نزل ما مجموعه 5125 فرداً مع أمتعتهم في العراء.