يطل علينا القرن الحادي والعشرون وسط قلق عالمي من تدهور الوضع البيئي الناتج عن النشاطات التكنولوجية والصناعية والانمائية المتزايدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد انعكس هذا القلق في وضع العديد من التشريعات والقوانين الدولية والمحلية للمحافظة على البيئة والحؤول دون تردي الوضع.
ويعتبر تلوث الهواء من أهم المشاكل المعاصرة التي تهدد حياة الإنسان وبيئته. فهو يؤثر في صحة الأفراد مباشرة، إذ يدخل إلى رئتي الانسان يومياً ما معدله 15 كيلوغراماً من الهواء إضافة إلى نحو 2,5 كيلوغرام من الماء و1,5 كيلوغرام من المأكولات. والهواء الملوث هو من أسباب بعض المشاكل البيئية العالمية، مثل الأمطار الحمضية واندثار طبقة الأوزون.
يتضمن هذا الملف عرضاً لأهم الغازات الملوثة ومصادرها وبعض الأساليب والتقنيات المتبعة لمكافحة تلوث الهواء. وقد قدّم له وراجعه الدكتور فريد شعبان.
تحيط بالكرة الأرضية مجموعة من الغازات تعرف باسم الهواء، الذي بواسطته يحيا الإنسان والحيوان والنبات. والهواء النقي الجاف لا طعم له ولا رائحة ولا لون، ويتألف عموماً من الغازات الرئيسية الآتية: نيتروجين (78%)، أوكسيجين (21%)، أرغون (0,9%)، ثاني أوكسيد الكربون (3,03%)، غازات مختلفة (0,07%).
وتختلف تركيبة الغلاف الجوي مع ازدياد الارتفاع عمودياً عن سطح البحر، إذ تقل كثافة الهواء مع الارتفاع. ويقسم الغلاف الجوي إلى عدة طبقات هي:
التروبوسفير: (Troposphere) وهي الطبقة السفلى من الغلاف الجوي، وتمتد حتى ارتفاع متوسطي يبلغ 21 كيلومتراً عن سطح البحر (16 -18) كيلومتراً في المناطق الاستوائية و8 كيلومترات في المناطق القطبية). وتحوي هذه الطبقة كامل بخار الماء الموجود في الهواء بالاضافة إلى نحو 99 في المئة من الملوثات الهوائية.
الستراتوسفير: (Stratosphere) تمتد من التروبوسفير إلى ارتفاع حوالى 55 كيلومتراً عن سطح البحر. وتحتوي بشكل أساسي على غاز الأوزون بالاضافة إلى بعض الملوثات التي تنفذ من سطح الأرض وتلك التي تنتج من محركات الطائرات النفاثة التي تطير على هذا العلو.
الميزوسفير: (Mesosphere) تمتد من الستراتوسفير حتى ارتفاع 100 كيلومتر عن سطح البحر. وتمتاز بانخفاض شديد في الحرارة مع الارتفاع، حتى تصل إلى نحو 100 درجة تحت الصفر.
تعرف هذه الطبقات الثلاث بالهوموسفير. (homosphere) أما الطبقات الموجودة على ارتفاعات أعلى من 100 كيلومتر فهي محددة بطبقتين:
الثرموسفير أو الطبقة الحرارية:(Thermosphere) تمتد من الميزوسفير إلى ارتفاع يقارب 500 كيلومتر عن سطح البحر. ويشكل غاز الأوكسيجين القسم الرئيسي منها. وهي تتميز بانخفاض كثافة الهواء وبالازدياد المطرد للحرارة مع الارتفاع.
الاكزوسفير:(Exosphere) وهي الطبقة التي يزيد ارتفاعها عن 500 كيلومتر (500 - 1000 كيلومتر) وتحتوي بشكل أساسي على غازي الهيدروجين والهيليوم.
مصادر التلوث
عرّف المجلس الأوروبي التلوث الجوي كما يأتي: "يتلوث الهواء عندما تتواجد فيه مواد غريبة، أو عندما يحدث تغيير هام في نسب المواد المكونة له بشكل يترتب عليه حدوث نتائج ضارة بالانسان ومحيطه".
وتعود أسباب تلوث الهواء إلى مصادر عديدة أهمها:
قطاع النقل والمواصلات، وهو مصدر 70 في المئة من الملوثات الموجودة في الهواء، وأهمها أول أوكسيد الكربون وأوكسيدات النيتروجين والغازات الهيدروكربونية، بالاضافة إلى مادة الرصاص المستعملة في بعض أنواع وقود السيارات.
مراكز الاحتراق الثابتة، وبشكل أساسي محطات توليد الكهرباء التي تستهلك نحو ربع الطاقة العالمية المستهلكة وبالتالي تعتبر سبب ربع كمية التلوث في الهواء. وأهم الملوثات هنا ثاني أوكسيد الكربون وثاني أوكسيد النيتروجين واوكسيدات الكبريت.
المراكز الصناعية، وهي تستهلك قسماً كبيراً من الطاقة، وخصوصاً في الدول الصناعية. وتعتبر هذه المراكز السبب الرئيسي لتلوث المياه وازدياد النفايات الكيميائية.
عوامل طبيعية، منها البراكين التي تطلق إلى الجو كميات كبيرة من الغازات والمواد الصلبة المحترقة. ومنها أيضاً الغبار والأتربة التي تثيرها الرياح، خصوصاً في المناطق الصحراوية والجافة.
إن للملوثات المنبعثة من كل هذه المصادر تأثيرات متعددة على الانسان وبيئته، بما في ذلك المزروعات والأشجار والأبنية. وهذه التأثيرات تكون إما قصيرة الأجل مقارنة مع حياة الإنسان، وإما طويلة الأجل فيمتد تأثيرها لعدة أجيال. وقد وضعت معايير ومواصفات عالمية لحماية الناس والبيئة من مخاطر هذه الملوثات. وهناك شكلان معتمدان لقياس نسب تركيزها: الأول، أجزاء في المليون (ppm)، ترمز إلى عدد الجزيئات الملوثة الموجودة ضمن مليون جزيئة من الهواء. والثاني، ميكروغرامات في المتر المكعب (g/m3) تعبر عن حمولة هذه الجزيئات في متر مكعب من الهواء.
خلال ساعات الليل، تبرد طبقات الأرض بشكل أسرع من برود الهواء، وبالتالي فإن درجات الحرارة تتزايد مع الارتفاع بدلاً من انخفاضها. وقد يكون هذا الانقلاب قريباً من سطح الأرض أو بعيداً عنه بضع مئات من الأمتار. وتشكل طبقة الانقلاب الحراري هذه حاجزاً مانعاً لا يسمح للهواء المتصاعد من تجاوزه، فتبقى الملوثات مركزة في طبقات قريبة من سطح الأرض. ومع شروق الشمس تسخن الأرض بمعدل أسرع من الهواء، وتندثر طبقة الانقلاب الحراري بسبب انخفاض الحرارة مع الارتفاع، وهذا يؤدي إلى عدم استقرار الهواء وتشتت الملوثات. وإذا حدث وكانت أشعة الشمس ضعيفة لعدة أيام متتالية، فان تركيز الملوثات المتراكمة في الهواء قد يصل إلى مستوى يشكل خطراً مباشراً، كما حدث في لندن عام 1952 حيث أدى أسبوع من الانقلاب الحراري واستقرار الهواء إلى حدوث نحو 4000 حالة وفاة، معظمها بين المسنين والأشخاص الذين يعانون مشاكل في القلب والجهاز التنفسي.
الجزيئات الملوثة
تشكل الجزيئات أو (particulates) 10 في المئة من الملوثات الهوائية، و90 في المئة منها مصدرها معامل الطاقة ولا سيما العاملة بالفحم. تنبعث الجزيئات من مداخن المعامل ومن وسائل النقل على شكل جسيمات صلبة أو قطرات سائلة. وهي أنواع، منها: الغبار، وهو جزيئات صلبة يزيد قطرها عن 10 ميكرون (0,01 مليمتر) وتنتج من الآلات الميكانيكية. والدخان، وهو جزيئات صلبة محمولة في الهواء ويقل قطرها عن 2 ميكرون. والأبخرة، وهي جزيئات صلبة معلقة في الهواء يقل قطرها عن ميكرون واحد وتنتج بشكل أساسي من عمليات الاحتراق. والشابورة أو الضباب، وهذه قطرات سائلة معلقة في الهواء يراوح قطرها بين 1 و 10 ميكرون.
يتحدد تأثير الجزيئات بحسب حجمها وكميتها ومدة بقائها في الجو. فالجزيئات الصلبة التي يزيد قطرها عن 50 ميكرون تؤثر على وضوح الرؤية، لكنها تبقى فترة قصيرة في الهواء لثقل وزنها، وسرعان ما تترسب إلى سطح الأرض معرضة المزروعات للضرر، وكذلك الجهاز التنفسي عند الإنسان وخصوصاً بفعل غبار المعامل والكسارات. أما الجزيئات التي يراوح قطرها بين 0,01 و50 ميكرون، فهي من العوامل الأساسية لتلوث الهواء نظراً إلى خفة وزنها وبقائها مدة أطول محمولة في الهواء. وهي خلال هذه الفترة تمتص بخار الماء مشكلة ستاراً رقيقاً من الغيوم يقوم بدوره بامتصاص الضوء. وتمر هذه الجزيئات بعدة تفاعلات كيميائية تنتج عنها ملوثات ثانوية.
وقد أشارت عدة دراسات إلى أن الجزيئات، بسبب امتصاصها بخار الماء وعكسها جزءاً كبيراً من أشعة الشمس، تسبب نقصاً في كمية الأشعة الواردة بنسبة 15-20 في المئة في المدن والتجمعات الصناعية الكبرى، مقارنة مع المناطق الريفية ذات الهواء النقي. وتراوح نسبة تركيز الجزيئات من 10 ميكروغرام في المتر المكعب في المناطق الريفية إلى ما يزيد عن 200 ميكروغرام في المناطق الصناعية.
الجزيئات صغيرة الحجم، يستنشقها الإنسان مع الهواء، فتتوغل داخل الجهاز التنفسي حتى تصل إلى الرئتين (قطر0,5-5 ميكرون). وهي تسبب أمراضاً تنفسية وعللاً صدرية مثل الربو والالتهاب الشعبي (برونشيت). ويمكن أن يؤدي التعرض الطويل لهذه الجزيئات، على مدى 20 سنة تقريباً، إلى حدوث سرطان في الرئة. وتربط عدة دراسات في أنحاء العالم كثافة الجزيئات في الهواء بحالات متنوعة من الأمراض الصدرية.
أوكسيدات الكبريت والنيتروجين
ينتشر الكبريت في الهواء في شكلين رئيسيين: كبريت الهيدروجين وثاني أوكسيد الكبريت.
كبريت الهيدروجين غاز يتصف برائحته الكريهة الشبيهة برائحة البيض الفاسد. وينتج من عدة عوامل أهمها احتراق المواد التي تحتوي على الكبريت وصناعات المطاط وتكرير النفط. وهو غاز على درجة ملحوظة من السمية. وعند تنشقه بشكل شبه متواصل يؤثر في الجهاز العصبي المركزي، كما أثبتت فحوص طبية أن له تأثيراً سلبياً في القدرة على التفكير. ويلتصق هذا الغاز بالجزيئات الموجودة في الجو، وعند دخول هذه الجزيئات إلى الرئتين ينتج حامض الكبريت الذي قد يسبب تلف الغشاء الداخلي للرئتين.
أما ثاني أوكسيد الكبريت فينتج من بعض العوامل الطبيعية مثل البراكين وتحلل المواد العضوية. كما ينتج من مصادر بشرية صناعية، مثل حرق الوقود الأحفوري وصهر المعادن وتكرير النفط. وهو غاز لا لون له، غير قابل للاشتعال، ولكن له رائحة مزعجة إذا بلغ تركيزه في الهواء نسبة عالية (جزءاً في المليون). ويقدر الانتاج البشري العالمي من هذا الغاز حالياً بنحو 100 مليون طن سنوياً. وهو يؤلف نحو عشرين في المئة من مجموع الملوثات في الهواء. ويعتبر الفحم الحجري مصدره الأساسي، إذ يحوي بتركيبته 0,3 - 5 في المئة كبريتاً، فيما تراوح النسبة في النفط المكرر بين 0,1 و4 في المئة. وعند استنشاق هذا الغاز بتركيز يبلغ 36 جزءاً في المليون ولفترة طويلة يسبب التهاب الأنف والحنجرة وضيق تنفس. وإذا ما تنشقه الإنسان بتركيزات منخفضة، من جزء إلى 10 أجزاء في المليون، فانه يسبب توتراً عصبياً وضيقاً في التنفس وتسارعاً في خفقان القلب. وتكمن في ثاني أوكسيد الكبريت أخطار إضافية عندما يتفاعل مع الماء في الأجواء الرطبة والماطرة فيتحول إلى حامض الكبريت، ويسبب الأمطار الحمضية التي تعاني منها الدول الصناعية والدول المجاورة لها. وتقاس نسبة الحموضة بالرقم الهيدروجيني (pH)، حيث المحلول الحاوي نسبة حموضة يبلغ رقمه 6 وما دون (4,5 في بعض الأقطار الاوروبية مثل هولندا وبلجيكا). وتحدث الأمطار الحمضية أضراراً فادحة في أوراق النبات. وقد أشارت الدراسات الى أنها تؤدي حالياً الى نقصان في معدل نمو أشجار الغابات في دول كثيرة، ومنها السويد، حيث انتقل التلوث مع الرياح من بريطانيا وألمانيا وترسب فوق الثلوج. وبذوبان تلك الثلوج انتقلت مياهها الملوثة الى الأنهار والبحيرات حيث فتكت ببيوض الأسماك وبالأسماك الصغيرة..
ويؤثر ثاني اوكسيد الكبريت أيضاً في المزروعات بحسب نسبة تركيزه في الهواء. وكذلك الحال مع الأبنية، حيث يتفاعل حامض الكبريت مع كربونات الكلسيوم الموجودة في بلاط الرخام لينتج مادة كبريتات الكلسيوم التي سرعان ما تتفتت و تترك فراغات وثقوباً على وجه البلاط.
أما أوكسيدات النيتروجين فتنتشر في الجو بنسب تراوح بين 0,2 و0,3 جزء في المليون. مصدرها الأساسي مراكز الاحتراق على أنواعها، مثل محركات السيارات ومعامل الطاقة والمراكز الصناعية. منها ستة مركبات رئيسية أهمها:
اوكسيد النيتروز أو ما يعرف بالغاز الضاحك: وهو موجود بشكل دائم في الهواء، ولكنه لا يصنف من الملوثات.
أول اوكسيد النيتروجين: ينتج أساساً من وسائل النقل.
ثاني اوكسيد النيتروجين ينتج من تأكسد أول اوكسيد النيتروجين. وهو غاز حاد الرائحة وعالي السمية، مصدره الأساسي عوادم السيارات وبعض الصناعات الكيميائية. يسبب انتفاخاً في الرئتين عند تنشقه بتركيزات مرتفعة (10 -40 جزءاً في المليون)، كما يؤدي الى تجمع الحوامض في الرئتين. وتساهم اوكسيدات النيتروجين مع المركبات الهيدروكربونية والجزيئات في تكوين السحب السوداء التي نراها في سماء المدن الصناعية الكبرى.
غاز الأوزون
الأوزون شكل من أشكال الأوكسيجين. وهو من الملوثات الفرعية التي تنتج من تفاعلات كيميائية بين بعض أنواع الملوثات الرئيسية مثل اوكسيدات النيتروجين والهيدروكربونات، مع تأثير مباشر للضوء على هذه التفاعلات. ويتواجد هذا الغاز بصورة طبيعية في الأجواء المنخفضة (التروبوسفير) بتركيز يبلغ معدله 0,20 جزء في المليون. وتزداد نسبة تركيزه بفعل الضباب والدخان من عدة مصادر أبرزها عوادم السيارات. وعند التعرض له لمدة تزيد عن ساعتين، يسبب التهاباً في العينين والحنجرة والرئتين، مع تراجع في القدرة على التفكير والتركيز. والأشخاص المصابون بالربو شديدو الحساسية للأوزون حتى بتركيزات منخفضة (0,25 جزء في المليون). ويؤثر الأوزون كذلك في نمو النبات، وقد أظهرت دراسات أنه يسبب ضرراً واسعاً للمناطق الحرجية والغابات. كذلك يؤثر بشكل مباشر على المطاط، فيعجل في تلف الاطارات وغيرها.
أما طبقة الأوزون الموجودة في الستراتوسفير على ارتفاع يراوح بين 19 و48 كيلومتراً، فانها تشكل ستاراً يمتص قسماً ملحوظاً (نحو 50 في المئة) من الاشعاعات فوق البنفسجية الحارقة الواردة من الشمس. وقد أدى ازدياد انبعاث الغازات التي تتفاعل كيميائياً مع غاز الأوزون الى ترقق هذه الطبقة ونشوء ثقوب فيها. ويؤكد العلماء أن هذا الأمر يؤدي الى ازدياد نسبة الاشعاعات الواردة ذات التأثير السلبي على البيئة والانسان، بما في ذلك ارتفاع الاصابات بسرطان الجلد. وتشير الدراسات والقياسات الحالية الى أن المناطق القطبية ودول شمال اوروبا وأميركا تعاني بشكل أساسي من ترقق طبقة الأوزون، حيث بلغت نحو 44 في المئة من كثافتها الأساسية فوق القطب الجنوبي و10 في المئة فوق القطب الشمالي، وهي آخذة في الاضمحلال.
ان استعادة طبقة الأوزون سماكتها الطبيعية قد تستغرق 40 سنة. وخلال هذه الفترة سوف تستمر المعاناة حتى لو تدنت نسبة الغازات الضارة الى درجة الانعدام. وتعتبر مركبات الكلوروفلوروكربون (CFC) من أكثر الغازات ضرراً على طبقة الأوزون بسبب التفاعلات الكيميائية السريعة التي تحصل عند الاحتكاك بها وتؤدي الى انشطار الأوزون الى اوكسيجين وأول اوكسيد الكلور. أما مصادر الكلوروفلوروكربون فأهمها: الرذاذ (aerosols) المتصاعد من مركبات السبراي، وهو ذو قدرة قوية على التفاعل مع الأوزون، (ويشكل 25 في المئة غازات الكلوروفلوروكربون في الجو)، وأجهزة التبريد المستعملة في المنازل والسيارات وغيرها (12 في المئة)، والبرادات والثلاجات (10 في المئة)، وبعض المواد المستعملة في صناعة الأغذية مثل أكواب البلاستيك وكذلك بعض المواد العازلة المستعملة في الأبنية (19 في المئة)، ومذيبات الدهان ومواد التنظيف (19 في المئة).
أوكسيد الكربون والرصاص
أول أوكسيد الكربون غاز لا لون له ولا طعم ولا رائحة، ولكنه من أكثر الغازات سمية. وينتج بشكل اساسي من عمليات الاحتراق غير المتكاملة للوقود، اضافة الى مصادر اخرى مثل تكرير النفط وصناعات الحديد والصلب. واذ يمكن السيطرة على عمليات الاحتراق في محطات توليد الكهرباء، فان نسبة أول اوكسيد الكربون المنبعثة منها منخفضة جداً مقارنة مع تلك الصادرة عن وسائل النقل.
عند استنشاق هذا الغاز يمتصه الدم سريعاً، فيتحد مع مادة الأوكسي هيموغلوبين التي تنقل الاوكسيجين الى خلايا الجسم، ليشكل مادة كربوكسي هيموغلوبين التي لا قدرة لها على نقل الاوكسيجين. وبالتالي فان امتصاص غاز أول أوكسيد الكربون يؤدي الى نقص عام في الأوكسيجين مما يؤثر على مختلف أجهزة الجسم. وقد أظهرت الدراسات أن التعرض لهذا الغاز لمدة ثماني ساعات ينقص قدرة الدم على نقل الأوكسيجين بنسبة نحو15 في المئة. وعند التعرض له بتركيز 2000 جزء في المليون لمدة نصف ساعة يسبب فقدان الوعي، وربما الموت اذا استمر التعرض له ساعة أو أكثر.
أما غاز ثاني أوكسيد الكربون فيصدر عن عدة عوامل، منها طبيعية مثل المحيطات والغابات ومنها بشرية مثل حرق الوقود. هذا الغاز غير مضر اذا وجد بنسب قليلة وطبيعية. ولكن ظهر من القياسات التي أجريت على مدى عقود من الزمن أن نسبته في الهواء هي في ارتفاع مستمر، وتزيد حالياً 25 في المئة عن معدل عام 1880، ومن المتوقع ان تصل الزيادة إلى 100 في المئة في مطلع القرن المقبل. ويعتقد العلماء أن هذه الزيادة قد ترفع حرارة الأرض خلال القرن المقبل ما بين درجة و3,5 درجات عن معدلها الطبيعي البالغ 15 درجة. وهذا الارتفاع يؤدي الى مضاعفات بيئية خطيرة تعرف بظاهرة البيت الزجاجي أو الدفيئة الأرضية( effectgreenhouse). فما سر هذه الظاهرة؟
تصل الى الأرض اشعاعات مصدرها الشمس. وعند ارتطام هذه الاشعاعات ببعض الأجسام، مثل الكتل الثلجية والمناطق الصحراوية، ينعكس قسم منها الى خارج الجو. أما القسم الأكبر فيتم امتصاصه، خصوصاً في النهار. وغاز ثاني أوكسيد الكربون الموجود في جو الأرض يمتص بعض هذه الاشعاعات المنعكسة. لكن ارتفاع نسبة تركزه يؤدي الى ازدياد كمية الأشعة الواردة في جو الأرض. وهذا الازدياد يؤدي إلى ارتفاع حرارة الأرض، وبالتالي الى تغيرات جيولوجية مثل ذوبان الثلوج القطبية وارتفاع منسوب مياه البحر والمحيطات، مع ما يتبع ذلك من عواقب على المناطق القريبة من السواحل. اضافة الى ذلك، فان ارتفاع حرارة الأرض سوف يؤدي الى تغيرات واسعة في أنظمة الأمطار والجفاف في العالم.
من جهة أخرى، يعد الرصاص من المعادن السامة الأكثر انتشاراً في الهواء، وان بتركيزات منخفضة. وقد حددت منظمة الصحة العالمية النسبة القصوى المقبولة في مياه الشرب بـ0,05 جزء في المليون، كما حددت نسبته في الدم بـ0,7 جزء في المليون. لكن التقارير الطبية تشير الى وجوب بقاء هذه النسبة ضمن 0,4 عند الراشدين و0,3 عند الاطفال. وتبلغ النسبة العادية للرصاص في الدم 0,2 - 0,3 جزء في المليون. وهو يدخل الى الجسم عن طريق الطعام والشراب، ويتركز في العضلات والجلد، ويؤثر بشكل مباشر على الكبد والجهاز العصبي.
أما تلوث الهواء بالرصاص فمصدره الأساسي عوادم السيارات وأبخرة الدهانات المستعملة لرش المفروشات والواجهات المعدنية للمنشآت. ويشكل الرصاص المنبعث من عوادم السيارات نحو 90 في المئة من الرصاص الموجود في الهواء. وقد بدأت السلطات المختصة في معظم أنحاء العالم اتخاذ اجراءات لتخفيف هذه النسبة، عن طريق استعمال البنزين الخالي من الرصاص مع تحديث تصاميم العوادم والمحركات. وأعطت حوافز للسكان للتحول الى استعمال هذا النوع من البنزين بجعل أسعاره أقل من أسعار البنزين الذي يحوي الرصاص.
معايير تلوث الهواء
ان مستويات التلوث العالية في الهواء دفعت الحكومات والسلطات المحلية الى سن قوانين ووضع معايير أو مقاييس تهدف إلى التخفيف التدريجي لمستوى هذا التلوث حتى يصل الى الحد الأدنى المقبول اقتصادياً، وحماية المجتمعات والبيئة من الأضرار الناجمة عنه. وهناك مجموعة من المعايير تحدد الكمية القصوى لمختلف أنواع الغازات التي يسمح للمصانع باطلاقها. وثمة عوامل يجب أخذها بعين الاعتبار عند وضع أي مجموعة معايير، ومن أبرزها:
أولاً، توافر التقنية اللازمة لتخفيف التلوث خلال أي مرحلة من مراحل عملية الانتاج (قبل الاحتراق، خلاله، بعده). واللافت أن الكثير من المعايير العالمية لا يشمل غاز ثاني أوكسيد الكربون، لأن عملية تنقيته من الدخان لا تخلو من التعقيد وكلفتها ما زالت مرتفعة.
ثانياً، توافر وسائل المراقبة اللازمة لضمان تطبيق المعايير الجديدة. وتقوم محطات المراقبة بقياس كمية الملوثات الصادرة من المصانع، وكذلك قياس نوعية الهواء الاجمالية. هذه المحطات هي التي تحدد بدقة مدى التزام القطاعات المختلفة بالمعايير الموضوعة، وبالتالي تأثير المراكز الصناعية على نوعية الهواء.
ثالثاً، أخذ العوامل المناخية في الاعتبار، وكذلك التحولات الكيميائية التي تطرأ على الملوثات خلال وجودها في الجو. ويتم ذلك عبر دراسة الطبيعة الكيميائية لهذه الملوثات وتأثير حالة الهواء على نسبة تركيزها، وذلك مثلاً باستعمال نموذج التشتت الغوسي (GaussianDispersion Model) ويمكن لهذه المعايير أن تتفاوت من منطقة الى اخرى بحسب الظروف المناخية. فالمناطق ذات الهواء المستقر يجب أن تكون المعايير فيها أكثر تشدداً مما في المناطق المعرضة لهبوب الرياح.
رابعاً، وضع الدراسات اللازمة للتكهن بالتغيرات الديموغرافية (السكانية) لمنطقة معينة، وبزيادة أو انخفاض الكثافة الصناعية في المنطقة ذاتها. فالمناطق المحمية أو السياحية مثلاً توضع لها معايير على درجة عالية من الصرامة، بحيث يصبح التفكير في أي مشروع صناعي أمراً شبه مستحيل من الناحية التقنية.
خامساً، أخذ الجانب الاقتصادي في الاعتبار، بحيث لا يؤدي تطبيق المعايير الجديدة الى ارتفاع سعر السلعة الى حد يؤثر على عملية التصريف والبيع، بسبب الكلفة الاضافية المترتبة عن تركيب أجهزة منع التلوث.
سادساً، اعطاء السلطات المحلية، كالبلديات، صلاحيات قانونية لوضع المعايير الجديدة موضع التنفيذ، واتخاذ الاجراءات اللازمة في حق المخالفين، والا أصبحت هذه المعايير بلا جدوى..
د. فريد شعبان، كلية الهندسة والعمارة، الجامعة الأميركية في بيروت
كادر
قاتل غير منظور في سماء القاهرة
القاهرة- "البيئة والتنمية"
في قلب شوارع القاهرة يبدو الهواء مثقلاً بالدخان لدرجة أن صوف الغنم يتحول أسود. وثمة خطر غير منظور، فتركيزات الرصاص في الهواء تفوق ثلاثين مرة المعدلات المسموح بها عالمياً.
ثمة جزء من المنطقة يعرف بالمدينة الخضراء، لكنه لا يوحي قطعاً بالسكينة والهدوء. فمن المصانع العتيقة التي يشغلها عمال يكسوهم السخام، تنبعث أدخنة سامة أورد بعض التقريرات أنها تخفض أربع نقاط من معدل ذكاء الأطفال. وهذا التلوث يحظره قانون مصري صدر في العام 1994. لكن هذا القانون لم يطبق بعد كما يجب، ولا تزال معامل صهر المعادن تعمل من دون قيود ولا تبعد أكثر من 16 كيلومتراً عن وسط إحدى أكثر مدن العالم اكتظاظاً بالسكان. وتنتج هذه المصانع ألوف أطنان الرصاص سنوياً من بطاريات السيارات المستعملة التي تستورد بكميات كبيرة من أوروبا والشرق الأوسط.
وإذا حاولنا تحديد مسببات التلوث في القاهرة لحصلنا على لائحة طويلة تتصدرها النفايات ومياه المجاري والغبار الصناعي. ويتفق معظم المعنيين على أن الرصاص هو أكثر الملوثات إقلاقاً. فهو موجود في كل ما يأكله الناس ويشربونه ويتنفسونه. وقد كشفت دراسات وجود نسبة رصاص في دماء سكان القاهرة أعلى مما هي في معظم مدن العالم.
حتى زمن غير بعيد، كانت كل سيارات القاهرة، البالغ عددها نحو نصف مليون، تسير بوقود يحوي نسبة عالية من الرصاص. ويعزو معظم الباحثين الجزء الأكبر من مشكلة تلوث الهواء الى ذلك. وقد ذكرت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية أن الرصاص مسؤول عن وفاة أكثر من 800 طفل وأكثر من ستة آلاف بالغ سنوياً نتيجة أمراض في القلب والأوعية الدموية.
وفي محاولة لرصد نوعية الهواء على نحو أكثر دقة، تبين أن نصف المسؤولية على الأقل تقع على المصانع في شبرا الخيمة، حيث يتشارك السكان والمصانع في الأحياء نفسها.
يقول خالد عبد التواب، وهو عامل شاب يكسو وجهه السخام: "أعتقد أن ذلك يسبب المرض". وهو كان يتناول طعام الغداء الذي اشتراه من كشك مكشوف في الشارع، حيث البطاريات مرمية ومفتوحة بعدما جرى تذويب محتواها في الأفران هناك لفصل الرصاص.
ويرى الخبراء أنه حتى لو كانت معدلات الرصاص أدنى مما هي عليه في المصانع والمناطق المحيطة بها، فإن الرصاص قد يسبب مشاكل صحية خطيرة، لعل أهمها تأخير نمو الدماغ لدى الأطفال، وزيادة احتمال الاصابة بسكتات دماغية (فالج) عند البالغين.
لكن عبد التواب الذي يعمل عشر ساعات يومياً، ستة أيام في الأسبوع، ليجني 120 دولاراً في الشهر، يصرّ على أنه لم يواجه أي مشكلة صحية طوال سنوات عمله الاثنتي عشرة: "قد أبدأ بالسعال في المستقبل. وحده الله يعلم، وإن حدث لي ذلك فستكون مشيئة الله".
حتى أواخر السبعينات، كانت طرقات المنطقة تؤدي الى الحقول الزراعية على طول قناة الاسماعيلية. وفجأة حلت المصانع مكان المزارع. وتذمر الأهل من ذلك الوضع. فدخان المصانع يسبب ألماً محرقاً في العينين، وضيقاً في الصدر، وينشر السخام بحيث يتوجب على الناس إعادة طلاء جدرانهم كل بضعة أشهر. لكن قلة منهم تدرك المخاطر الحقيقية للرصاص في الهواء، كما يرى باحثون في الجامعة الأميركية في القاهرة. فربع المصريين، البالغ عددهم 62 مليون نسمة، يعيشون في مدينة القاهرة الكبرى، ويحتشد معظمهم في مساحة قطرها 16 كيلومتراً.
واللافت أن النشاطات الملوثة تتركز في قلب العاصمة وحولها، حيث يتم توليد نحو 41 في المئة من طاقة مصر الحرارية الكهربائية، وتسير 48 في المئة من الآليات، وتعمل 64 في المئة من مصانع البلاد بكامل طاقتها. ومع هذا العدد الكبير من السكان والنسبة الهائلة من التلوث في هذه الرقعة الصغيرة، يقول الخبراء إن الرصاص لا يثقل الهواء فقط، وإنما أيضاً الطعام والماء. وبما أن معدل هطول الأمطار في القاهرة لا يتجاوز 2,5 سنتيمتر في السنة، فإن تركيزات الرصاص في غبار بعض الملاعب ناهزت تلك الموجودة في مكبات النفايات الخطرة في الولايات المتحدة.
وفي الفترة الأخيرة، أوقفت وزارة النفط المصرية إضافة الرصاص الى النفط في معظم معامل التكرير، واستبدلته بمادة إضافية أكثر أماناً لدعم وقود الأوكتان. وتسعى الحكومة المصرية اليوم الى تنظيف المصانع والمناطق الرئيسية المنتجة للرصاص، بما في ذلك العمليات في شبرا الخيمة التي تنتج 30 ألف طن من أنابيب وصفائح وسبائك الرصاص كل عام.
لكن الجهود أثبطت بفعل الضغوط الممارسة على معظم جهود حماية البيئة في مصر. كما أن مشاريع الدولة تعتبر هي أيضاً من أبرز مصادر التلوث. والقانون البيئي الذي أقر عام 1994 لن يصبح نافذ المفعول قبل 1998. وحتى عندئذ، سوف تمنح الشركات فترة سماح من ثلاث سنوات للتقيد بالمعايير الجديدة.
وفيما تدعو الخطة الى نقل مصانع الرصاص الى خارج العاصمة، يوضح أصحاب هذه المصانع أنهم غير مستعدين للانتقال. وطالبوا بالسماح لهم باستمرار استيراد البطاريات القديمة، على رغم أن القانون البيئي يصنفها ضمن النفايات الخطرة. واعلن بعضهم أنهم، حتى لو باشروا عمليات صناعية أنظف في مناطق اخرى، فسوف يبقون مصانع شبرا الخيمة على حالها.
كادر
هواء لبنان
تعتبر نوعية الهواء الاجمالية في لبنان نظيفة بفضل موقعه الجغرافي على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. ولكن هناك بعض المناطق "السوداء بيئيا" والقريبة من المنشآت الصناعية الأساسية، مثل المحطات الحرارية لتوليد الطاقة الكهربائية ومعامل الاسمنت والاترنيت، وبعض المناطق ذات الازدحام شبه الدائم خصوصاً مداخل العاصمة بيروت.
في ظل انعدام أي أجهزة لقياس التلوث بشكل مستمر، قام فريق علمي من كلية الهندسة والعمارة في الجامعة الأميركية في بيروت، بتمويل من المجلس الوطني للبحوث العلمية، باعداد دراسة مبدئية عن تلوث الهواء. وقد أجريت القياسات التقريبية في المناطق ذات التلوث الأشد، وهي شكا، وذوق مكايل، والجية. وهنا بعض ما أظهرته هذه القياسات:
- منطقة شكا حيث معامل الاسمنت: بلغ معدل تركيز ثاني اوكسيد الكبريت نحو 550 ميكروغرام/م3، في حين أن الحد الأقصى السنوي بحسب المعايير العالمية يبلغ 80 ميكروغرام/م3 والحد الأقصى اليومي 365 ميكروغرام/م3. وتعاني المنطقة كذلك من تناثر ألياف الاسبستوس المستعمل في صناعة الاسمنت والتي تؤدي الى حالات سرطانية.
- منطقة ذوق مكايل شمال بيروت حيث المعمل الحراري الرئيسي لتوليد الطاقة الكهربائية بالاضافة الى ازدحام شبه متواصل للسير على الطريق الساحلية التي تربط العاصمة بالمناطق الشمالية: أظهرت النتائج أن معدل تركيز ثاني اوكسيد الكبريت يبلغ 400 ميكروغرام/م3. وتعاني المنطقة من تلوث الهواء بمادة الرصاص، حيث بلغت النسبة حسابياً 10-14 ميكروغرام/م3 في حين أن الحد الأقصى المسموح به يبلغ 1,5 ميكروغرام/م3. ويعود السبب الأساسي الى أن 8% فقط من السائقين يستعملون البنزين الخالي من الرصاص بحسب احصاءات وزارة الصناعة والنفط للعام 1996.
- منطقة الجية حيث المعمل الحراري لتوليد الطاقة ومعمل لانتاج الاسمنت: بلغ تركيز ثاني اوكسيد الكبريت نحو 350 ميكروغرام/م3. وتعاني المنطقة من حالات التلوث ذاتها التي تعاني منها منطقة شكا، وإن بمعدل أقل نسبياً.
بالاضافة الى هذه المناطق الثلاث، أظهرت الدراسات أن مداخل بيروت ذات الازدحام الدائم تعاني من ملوثات هوائية صادرة عن قطاع النقل، مثل اوكسيدات النيتروجين التي بلغت 120-140 ميكروغرام/م3 في حين أن الحد الأقصى المسموح به عالمياً يبلغ 100 ميكروغرام/م3.
وتعاني بعض الشوارع الرئيسية في العاصمة من تلوث بالرصاص بلغ 4-6 ميكروغرام/م3.