من الصفات الخاصة بالعالم الثالث، الذي ننتمي اليه، أن كل الناس يتحدثون في السياسة والاقتصاد، ويتبارون في التحليلات واقتراح الحلول النهائية الحاسمة للمشاكل. وكل واحد يعتقد أنه يمتلك الكلمة الفصل لأية معضلة والجواب الشافي الكافي لكل سؤال. ففي أي مقهى، ومع أي سائق تاكسي، وفي أي برنامج تلفزيوني صباحاً أو مساءً، نسمع تحليلات وحلولاً في السياسة والاقتصاد، وكأن كل الشعب أصبح خبيراً في السياسة الخارجية والصناعة والتجارة.
في العالم المتقدم، يدور حديث المقاهي على الطقس، والفن، والرياضة، والحب، والطبيعة. ومردّ هذا التناقض بيننا وبينهم أن عندهم مؤسسات فاعلة، تمثل الناس تمثيلاً صحيحاً، مهمتها دراسة السياسات الاقتصادية والانمائية ووضع الحلول. وفي حين تقوم هذه المؤسسات بعملها بجدارة، يتفرغ الناس للعمل المنتج والتمتع بالحياة.
ان افتقار مجتمعاتنا الى مؤسسات عامة مختصة كهذه جعل كل فرد يشعر بالحاجة لأن يكون خبيراً في السياسة والاقتصاد، وشجع كل جمعية أو مجموعة أفراد على محاولة اختزال المهمات المفترضة لمؤسسات عامة مختصة غير موجودة أو غير فاعلة.
هذه الظاهرة بدأت اليوم تتفاقم في موضوع البيئة. فبدل أن يؤدي قلق الناس واهتمامهم بالتدهور البيئي الى قيام مؤسسات مختصة فاعلة، تحولت تفاصيل القضايا البيئية العلمية الى موضوع للتداول اليومي بين أفراد وجماعات يفتقرون الى الاختصاص، مما أدى الى نشوء أجواء هلع وضياع.
منذ شهور قام جدل عقيم في لبنان حول النفايات، بين المحارق والمكبّات والتخمير، أدارته مجموعة من الهواة، واستفاد منه تجار تحولوا بين ليلة وضحاها الى أصحاب حلول سحرية، بتكاليف باهظة. والحجة أن الخطط العاجلة والطارئة تكاليفها عالية. فمن كان السبب في ايصال المشكلة الى حائط مسدود، مما سمح للمستفيدين بتسويق حلول موقتة طارئة مكلفة؟ ان حالة الهلع لدى الناس سمحت للتجار بتسويق أي حل طارئ يبقى، على رغم كلفته الباهظة، اسعافاً أولياً.
وما لبث المسؤولون أن أعلنوا في مؤتمرات صحافية وبيانات عن «برنامج نموذجي لفرز النفايات في المصدر». فتم توزيع بعض المستوعبات على نحو عشوائي في بعض الشوارع، بلا حملات توعية مدروسة، وبلا متابعة. ووضعت على «مستوعبات الفرز» ملصقات باللغة الانكليزية، تحمل تعابير غامضة حتى على الاختصاصي، فكيف بالناس العاديين. وكأن جميع سكان شوارع بيروت المشمولة بالتجربة من خريجي جامعتي أوكسفورد وكامبريدج، حتى نخاطبهم باللغة الانكليزية. هذه المستوعبات التي يفترض أنها لفرز النفايات، ما زالت تعبّأ عشوائياً وكل يوم، بأي نفايات، حيث يختلط البلاستيك بالخضار واللحوم والخشب وبقايا الثياب والمعادن، لأن الناس لم يفهموا لماذا هي هناك وماذا يفترض بهم أن يضعوا داخلها. وعلى رغم ذلك، ما زالت سيارات الشركة الملتزمة تمر يومياً في موكب استعراضي ومع لوحات بالانكليزية، لجمع «النفايات المفروزة»، لإيهام الناس أن المشروع ناجح. ويكفي أن ينزل أي مسؤول الى الشارع ويكشف على محتويات مستوعب مخصص للفرز، ليجد فيه خليطاً من كل أنواع النفايات. فمن يدفع ثمن الخطأ؟ وهل هو خطأ في المبدأ أم في التخطيط والتنفيذ؟ وما هي خبرة الذين خططوا هذا المشروع في مجال فرز النفايات؟
وكانت قد طرحت في سوق التداول الشعبي، قبلاً، مواضيع النفايات السامة، والشواطئ، ومصانع الاسمنت، وتبارى جموع من غير المختصين في استنباط معلومات واقتراح حلول، الى أن طرحت مسألة استخدام الأسبستوس (الأميانت) في شبكة أنابيب المياه. فعادت نظريات هواة البيئة من جديد، أفراداً وجمعيات ونقابات، ناهيك عن «المستشارين». وكل يطرح شتات أفكار متعارضة، وكأنه يمكن معالجة مواضيع علمية بحتة عن طريق التصريحات الصحافية وضروب البلاغة اللفظية.
مرة أخرى، ندعو الى سحب موضوع البيئة من سوق الاستهلاك الاعلامي والسياسي، عن طريق انشاء مؤسسة وطنية للابحاث البيئية، ودعمها بالعلماء والباحثين والمختبرات، لتتولى، بالتعاون مع الجامعات ومراكز الأبحاث الأخرى، دراسة الأوضاع البيئية ووضع التقارير العلمية الموثقة في كل موضوع تفصيلي. هكذا لا يبقى العمل البيئي مبنياً على افتراضات عشوائية، ولا تتحول البيئة الى موضوع مثل السياسة والاقتصاد في عالمنا الثالث، حديث الذي لا حديث له.
|