بقدر ما يمثل مشروع اعادة اعمار وسط بيروت نموذجاً في الادارة البيئية الحديثة المتكاملة، فإن بقية العاصمة، حيث يعيش معظم الناس ويعملون، ما زالت تعاني مشاكل خانقة، يبدأ حلها حين نضع الاصبع على الجرح، لتبقى بيروت، كما يقول عنها عاشقوها الكثيرون من لبنانيين وعرب وأجانب، جوهرة الشرق، والمدينة التي ليس كمثلها مدينة.
الصور: ابراهيم الطويل
جورج جحا
الباحث في مشكلات العاصمة اللبنانية قد يجد نفسه أمام سؤال: هل تمثل بيروت، من حيث مشكلاتها البيئية والعمرانية، عالماً صغيراً (ميكروكوزم) يحمل كل مشكلات العالم الأكبر منه، أي لبنان، وبالتوزع والنسب ذاتها؟ أم أنه عالم »مكثف«، فيه تلك المشكلات، بل أكثر منها أحياناً، لكن بأشكال قد يكون بعضها أشد مما هو في سائر الأنحاء وأكثر خطورة؟ عند عرض الوضع على الأرض قد نصل إلى استنتاج مؤداه أن بيروت ربما كانت أقرب إلى »مكثف« تتفاقم فيه مشكلات بيئية لبنانية شتى، يعتبر بعضها أقل شأناً في مناطق ريفية لديها ما يكفي من مشكلاتها الخاصة.
من الضروري، كما يرى خبراء بيئيون، وضع خطة بيئية وطنية فعالة للبلاد بكاملها. لكن هناك أيضاً حاجة مستعجلة لمواجهة مشكلات كبيرة لا يمكن ترك مفاعيلها الخطرة تنتظر الخطة الشاملة. وكي تتضح صورة العاصمة اللبنانية بشكل عام، يمكن القول باختصار ان أوضاع المدينة بكليتها، أي وضعها البيئي والتنظيم العمراني فيها ووضع سلطاتها البلدية، تواجه كلها مآزق يكاد حل بعضها يكون مستعصياً. فبعض ما ورثته من سمات جيدة تآكل وزال، وما جادت به الطبيعة عليها أبيد أو شوِّه، وسلطاتها المحلية تشكو من شلل تقول ان سببه قوانين تجمد حركتها. كل ذلك يجري وسط ما يصفه البعض بتعبير »السرطان الاجتماعي« الشائع في كثير من بلدان العالم، حيث تتحول المدينة إلى خلية كبرى تتضخم مرضياً على حساب سائر الجسم، وبشكل خاص من خلال النزوح الداخلي من الأرياف إلى المدن، لينتج هذا اكتظاظاً سكانياً وخللاً عمرانياً وتفاقماً في تلوث الهواء وتكاثراً للنفايات وتآكلاً في المساحات الخضراء الضرورية.
الصورة قاتمة من زوايا مختلفة، مما يعني أن هناك حاجة ملحة جداً إلى خطوات إنقاذية لوقف التدهور والسعي إلى إصلاح ما يمكن أن يصلح ورسم خطوط العمل مستقبلاً.
نظرة بيئية
تأثرت العاصمة اللبنانية تأثراً بالغاً ومباشراً بالعمليات القتالية خلال الفترة الممتدة بين 1975 و1991، وبالاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. وأدى غياب السلطة المركزية إلى تفشي الأعمال غير المشروعة، كإنشاء الأبنية عشوائياً ودون ترخيص واحتلال المشاعات وقطع الأشجار وتغيير وجهة استعمال الاراضي العامة، مما ساهم في تدمير البيئة الطبيعية. ولا ينسى السكان ما حل بحرج بيروت الشهير، "رئة" مدينتهم، الذي احترق بنيران القصف الإسرائيلي.
تستوعب بيروت حالياً أكثر من ثلث سكان لبنان البالغ عددهم نحو 3,5 ملايين. وهي تعاني من تلوث شديد في هوائها ويقول الدكتور فريد شعبان، الاستاذ في كلية الهندسة والعمارة في الجامعة الأميركية والباحث في موضوع تلوث الهواء، ان السبب كثافة السيارات العاملة بشكل يومي ضمن نطاقها الجغرافي والتي يزيد عددها على نصف مليون سيارة، أي حوالي نصف عدد السيارات والآليات العاملة في لبنان. وتعاني المدينة بشكل خاص من ازدياد تركيز مادة الرصاص في الهواء، ذلك لأن نسبة السيارات التي تستعمل البنزين الخالي من الرصاص لا تزيد على 17 في المئة من مجموع السيارات. وهناك ملوثات أخرى تنتج عن قطاع النقل البري، مثل أول أوكسيد الكربون والضباب الدخاني وأوكسيدات النيتروجين التي تزيد معدلات تركيزها بأضعاف عديدة على المعدلات الواردة في المعايير المحلية والدولية.
وقد ازداد الوضع سوءاً خلال السنوات الماضية بسبب تزايد انتشار المحركات والسيارات العمومية العاملة على المازوت (الديزل) والمقدرة بنحو 40 ألف سيارة يعمل معظمها ضمن نطاق بيروت الكبرى. وهذا التحول الى المازوت المخصص أصلاً للقطاع الصناعي أدى الى ازدياد تركيز أوكسيدات الكبريت، لأن المازوت الصناعي يحوي مادة الكبريت بنسبة تزيد 10 أضعاف على تلك الموجودة في المازوت الخاص بالسيارات. أما الجزيئات الصادرة عن محركات المازوت فهي تفوق بعشرات الأضعاف تلك الصادرة عن محركات البنزين. وقد أعدت الحكومة اللبنانية مشروع قانون لالغاء استعمال المازوت في قطاع النقل. ومنع استخدام محركات المازوت في جميع السيارات السياحية ابتداء من أول تموز (يوليو) الحالي.
وازدحام الطرق يزيد من خطورة التلوث، فحركة السيارات تخلق تيارات هوائية تبدد الغازات الملوثة، في حين يؤدي دوران الآلاف من محركات السيارات المتوقفة أو السائرة ببطء إلى تجمع الغازات الملوثة في أجواء نقاط العبور، فتطال بسمومها السكان والمشاة وشرطة السير والسائقين أنفسهم. والأشجار، التي تساهم في تخفيف حدة تلوث الهواء، شبه معدومة. فاللافت في المدينة غياب اللون الأخضر، إلا في بقع محدودة حيث ما زالت الأشجار صامدة. وتبذل من حين إلى آخر جهود متفرقة لزرع جوانب الطرق والأماكن العامة.
ورداً على سؤال يطرح في شبه اتهام: "ماذا فعلت بلدية بيروت؟" تقول السيدة رولا العجوز، عضو المجلس البلدي، إن البلدية الحالية ورثت مدينة نمت فيها غابات الإسمنت مطيحة بالمساحات الخضراء، ولم يبق لبيروت، التي تبلغ مساحتها حوالى 18 كيلومتراً مربعاً، سوى 29 حديقة مساحتها الإجمالية 140 ألف متر مربع، أي أقل من واحد في المئة من مساحة المدينة. ونتيجة لضآلة الإمكانات المتاحة للبلدية، توجهت إلى القطاع الخاص واستعانت بالخبرات الخارجية، فتوصلت إلى إعداد مخطط توجيهي لتخضير المدينة مقسم إلى ثلاث مراحل. أولاها سهلة التنفيذ وهي زراعة الوسطيات وجوانب الطرق وتزيين الجسور وتحديث الحدائق الموجودة بمساعدة القطاع الأهلي. والمرحلة الثانية تشمل تحديث دائرة الحدائق البلدية وتعزيزها بشرياً ومادياً. أما المرحلة الثالثة فتتطلب، في رأي العجوز، جهوداً من قطاعات المجتمع الأهلي لممارسة الضغوط اللازمة لاستصدار قوانين وتشريعات تمنع، وتزيل، الاعتداءات على واجهة بيروت البحرية "التي تمنع زرقة البحر عن عيون الناس". وهي دعت المواطنين إلى أن يضغطوا، مع البلدية، على الدولة لمنع تحويل ما تبقى من الاراضي البور التي تملكها في بيروت إلى "قلاع إسمنتية".
الناحية العمرانية والتنظيمية
يرى الدكتور وديع قنبر، أستاذ هندسة العمارة والتنظيم المدني في الجامعة اللبنانية، أن لبنان هو من الحالات البارزة التي تعكس التأثير المتبادل بين الواقع الاجتماعي والسياسي والبيئة العمرانية للمدينة. "فالعثمانيون والفرنسيون تركوا بصماتهم الهندسية والعمرانية التي شكلت ميراثاً تاريخياً وهندسياً غنياً، يقف اليوم بشكل مغاير لما يحيط به من بيئة عمرانية نشأت خلال السنوات الست والخمسين الماضية من الاستقلال". وهو لفت إلى أن الروح الفردية تنتج عشوائية في العمران. فمشهد باريس من الجو، مثلاً، وهيكلية شوارعها العضوية وفقاً لأنماط من القرون الوسطى، ومدينة سان فرنسيسكو بنظام شوارعها المتعامد العائد إلى القرن التاسع عشر، يظهران "إرادة قوية من التنظيم المدني الهندسي، مقارنة مع صورة عشوائية لنفس عناصر البيئة المبنية في مدينة بيروت".
وفي عرض تاريخي، تحدث قنبر عن "محاولات التخطيط التي بدأت أيام الانتداب عام 1936، ثم مخطط ايكوشار عام 1944، لكن ذلك لم ينفذ. وعام 1959 أنشئت في وزارة الأشغال العامة المديرية العامة للتنظيم المدني في لبنان، وعام 1963 أنشئ المجلس الأعلى للتنظيم المدني، لكنهما لم يضما أي اختصاصي في هندسة المدن وتصميمها وتخطيطها". وبعد 65 عاماً من الدراسات والمخططات التوجيهية وتقارير الخبراء واللجان والمؤسسات الحكومية، ما زالت البيئة المبنية وغير المبنية تعاني من حال ضياع. واعتبر قنبر أن مدينة بيروت "مريضة عمرانياً وبيئياً"، وما صدر من أنظمة تخطيطية وشروط بيئية بسيطة تعرّض لانتهاكات ومخالفات متواصلة.
ولكن هذه الحالة المرضية والفوضى العمرانية المدينية ليست نتيجة الوضع الأمني وغياب السلطة في الأعوام الماضية فقط، بل هي أيضاً نتيجة إهمال التصميم الهندسي للمدن، وغياب التخطيط في مجال النقل والمواصلات المدينية، وتجاهل العمارة الحديثة للبيئة المدينية.
عرفت بيروت التصميم المدني منذ القدم، كما تشهد الآثار التي اكتشفت أخيراً في وسطها التجاري والتي تمثل حقبات مختلفة تشهد على رقي في التصميم. ومع الانتداب الفرنسي وضعت أسس تنظيم مدني حديث، فشيدت الأبنية والشوارع وفقاً لمخطط توجيهي مستوحى من التنظيم والعمارة الفرنسيين ما زلنا نرى بعض معالمه. وبعد الاستقلال، خصوصاً في فترة الخمسينات والستينات، ازدهرت العمارة تبعاً لازدهار الاقتصاد، وبرز دور الفن المعماري، وكبرت العاصمة وانضمت إليها مناطق فصارت تعرف باسم "بيروت الكبرى". ومع السبعينات دخلت العمارة سوق الطلب، وأصبحت سلعة تجارية همّ أصحابها الربح الوفير السريع. كما بانت نواقص تنظيمية لم تكن الإدارة مجهزة لمجابهتها والحد من تفاقمها، خاصة التدخلات السياسية. فتعطلت الإدارة وعمَّت الفوضى وكثرت المخالفات، ونشأت مناطق سكنية تبعد عن أي فن معماري.
وزادت الحرب الأهلية الوضع سوءاً. ويقول المهندس أندريه بخعازي، عضو مجلس نقابة المهندسين في بيروت، ان انحسار السلطة والتغير الديموغرافي والسكني أديا إلى تغيير معالم المدينة، "ليفيق البيروتي على تلوث معماري حيث ضاعت أسس التنظيم المدني الصحيح". ومن أبرز أوجه هذا الوضع مآخذ على طرق تطبيق قوانين البناء، إذ تتداخل الأبنية ممزِّقة الغلاف الأفقي. ومن ذلك أيضاً عدم الاهتمام بعلاقة العمارة بما يحيطها من بناء وبيئة طبيعية، "فكثرت اللغات المعمارية وتضاربت الأشكال والأحجام وغاب أي تناغم معماري عن المنظور العام لأي تجمع سكني".
ومن الأسباب المسؤولة عن هذا الوضع تفاوت، بل تضارب، التفسيرات القانونية أحياناً، وغياب الفسحات الخضراء، وطريقة أداء الموظفين، وعدم اهتمام المصممين بتطبيق هندسة عمارة تتجاوب وطبيعة المناخ والتراث، وعدم الاهتمام بالجودة الحقيقية في تأمين بناء يتمتع ساكنوه بالشمس والهواء والمناظر مع الحفاظ على خصوصية المحيط.
ورأى بخعازي أن على الدولة وضع خطط توجيهية لكل المناطق، لأن أكثر من 60 في المئة من أراضي لبنان غير مصنَّنَّفة. ودعا إلى إيجاد حلول سريعة للمناطق الكثيفة سكانياً لمحاولة توحيد لغتها المعمارية وترميم واجهاتها وفقاً لمخطط شامل، والى إعادة النظر في الواجهات البحرية لمدينة بيروت »ليعود شاطئنا مطلاً على البحر«. كما حثَّ نقابة المهندسين على تحسين أداء المنتسبين إليها باحترام القوانين.
المجلس البلدي والحلقة المفرغة
المهندس عبد المنعم العريس، رئيس المجلس البلدي في بيروت، شكا من أن التشريع المتعلق ببلدية بيروت "يشوبه كثير من الشوائب، إحداها الازدواجية في السلطتين التقريرية والتنفيذية في البلدية". فحين نال لبنان استقلاله عن فرنسا عام 1943 كانت معظم تشريعاته منسوخة عن التشريع الفرنسي. و"قانون البلديات" الذي صدر عام 1977 صدر بمرسوم اشتراعي وليس بقانون عن مجلس النواب. وقد وصفه العريس بأنه نسخة غير منقحة عن التشريع الفرنسي الصادر عام 1882 والذي عدلته فرنسا عشرات المرات إلى أن وصلت سنة 1982 إلى "تجربة رائدة في مجال اللامركزية الإدارية". وقال ان هذا القانون شل عمل المجلس البلدي، إذ "تفنن في تكريس مركزية قاتلة تكاد تجعل دور البلديات شكلياً وتكبلها بقيود رقابات سابقة ولاحقة، ربما كانت تصلح في مطلع القرن العشرين ولكن لا يجوز حتى الحديث عنها في الألفية الثالثة في عصر المراسلات بالبريد الإلكتروني وتقنيات الأقمار الصناعية والمكننة الخارقة". وقد خصّ القانون بلدية العاصمة بنص يفصل بين سلطتها التقريرية التي أناطها بمجلس بلدية بيروت وسلطتها التنفيذية التي أناطها بمحافظ مدينة بيروت، وابتدع تسمية لذلك بأن جعلها "بلدية بيروت الممتازة"، لامتيازها بهذه الخصوصية عن بقية بلديات لبنان. وإذا لم يكن للمجلس البلدي سلطة تنفيذ، فكيف يحاسبه الناخبون؟ فدوره يقتصر على التقرير، أي التوصية، أما التنفيذ فعند محافظ بيروت الذي يخضع لوصاية وزارة الداخلية ووزارة الشؤون البلدية والقروية. وخلص العريس إلى القول: "لا حل لبلدية بيروت إلا باستحداث تشريع خاص بها، يعتمد على لامركزية حقيقية لا على مركزية فولكلورية، ويعطي السلطة التقريرية والتنفيذية لمجلس بلديتها".
وجهت انتقادات كثيرة إلى بلدية بيروت حول ضآلة المساحات الخضراء المتوفرة. وجاء في بيان حديث لجمعية "الخط الأخضر" أن هذه المساحات تقدر بنسبة 0,8 متر مربع لكل مواطن، في حين يجب الا تقل عن 40 متراً مربعاً. وآخر عقارين تملكهما بلدية بيروت هما عقار "الاونروا" ومساحته 10 آلاف متر مربع وعقار "سباق الخيل" الذي تبلغ مساحته 213 ألف متر مربع. وهذان، تقول الجمعية، "لا يمكن التفريط بهما من أجل مشروع لا يراعي إقامة حدائق عامة فيهما"، رافضة حجة مجلس بلدية بيروت بأن إقامة حدائق عامة تكلّف أموالاً طائلة وأن ميدان سباق الخيل يؤمن عائدات للبلدية وأن سعر عقار الاونروا مرتفع ويمكن إقامة مشروع تجاري فيه يدر على البلدية عائدات هي بأشد الحاجة إليها، باعتبار أن "مجلس بلدية بيروت ليس شركة تجارية وإنما هدفه تأمين الحاجات الأساسية لمدينة بيروت ومنها إقامة حدائق عامة".
كيف تعود بيروت بيئياً إلى خريطة العالم الحديث؟
هل يمكن فصل مشاكل البيئة في بيروت عن المشاكل البيئية في لبنان كله، وهل يمكن حلها بمعزل عنها، وهل يصح أساساً فصل الوضع البيئي عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية عامة؟ لا بد في الأساس من سياسة بيئية وطنية، لأن المعالجات الموضعية للمشاكل البيئية الكبرى تبقى إسعافات أولية ما لم ترتبط بسياسة بيئية وطنية متكاملة. ويدعو الملمّون بأولويات البيئة الدولة إلى إقرار برنامج بيئي وطني قابل للتطبيق يقوم على أسس أبرزها: تنظيم وزارة البيئة وجعلها فاعلة لتصبح قادرة على إدارة السياسات البيئية والتخطيط الاستراتيجي والتشريعات والقوانين، والصناعة وحماية المستهلك، والنفايات والضجيج والسير والماء والزراعة والمواد الكيميائية والمشعة والهواء والطاقة والإعلام والتوعية، والعلاقات الدولية بما فيها المعاهدات والمنظمات. وثمة اقتراح بإنشاء مجلس أعلى للبيئة برئاسة رئيس الحكومة كهيئة تنسيق بين الوزارات والإدارات المختلفة تكون مخولة اتخاذ قرارات ملزمة، بالإضافة إلى إنشاء هيئة طوارئ بيئية تتألف من أبرز الاختصاصيين والعاملين في شؤون البيئة وتقوم بإجراء مسح لجميع المشاريع والبرامج البيئية، وهيئة وطنية لحماية البيئة كجهاز متخصص مهمته وضع الخطط والدراسات العلمية البيئية. ويدعو الاقتراح إلى اعتماد سياسة وطنية للبيئة تضع أهدافاً محددة تتيح إجراء المحاسبة وتحديد النجاح والإخفاق، والى إنشاء أجهزة بيئية في البلديات لتنظيم العمل محلياً.
ولكن، في انتظار إقرار هذه المبادئ والسياسات والبرامج، على بلدية العاصمة والمؤسسات الأهلية العمل على أولويات محلية، منها: إدخال المفاهيم البيئية العصرية في بلدية بيروت، وإنشاء دوائر متخصصة قادرة على التخطيط والتوجيه، وتوسيع اهتمام البلدية ليشمل قضايا مثل تلوث الهواء والضجيج وإدارة النفايات والتوعية البيئية الشعبية. ولا يمكن حماية شاطئ بيروت وبحرها، بل شاطئ لبنان كله الممتد على البحر من جنوبه إلى شماله، من غير إلزام جميع الصناعات القائمة على الشاطئ معالجة نفاياتها الصلبة وإقامة أنظمة لتكرير مياه المجاري. وهذا يقتضي إجراء مسح يشمل المصانع والمشاغل والورش وأسواق الخضر، وتحديد نوعية مخلفاتها وأثرها في المحيط والعمل، ووضع برنامج توجيهي مرحلي لتخفيف ضررها.
ويبقى عمل كثير لوضع بيروت، بيئياً، على خريطة العالم الحديث. ومن ذلك إنشاء محطات ثابتة لقياس نوعية الهواء، وتحديث وسائل النقل العام، وترشيد استخدام الطاقة والمياه، ودعم استخدام الطاقة الشمسية، وتخفيف كمية النفايات وفرزها وتعزيز إمكانات إعادة تصنيعها، وتخصيص جوائز للممارسات البيئية الفضلى.
وثمة تدبير بديهي لم يؤخذ بجدية بعد، وهو إحصاء الاراضي الشاغرة في بيروت ودرس إمكانية استملاكها وتحويل قسم منها إلى مساحات خضراء وحدائق. ومن الاقتراحات الجريئة تشجيع إنشاء حدائق على سطوح المباني، كما في محيط منطقة "صوفيل" في الاشرفية، عن طريق ربط إعطاء أي ترخيص لإنشاء طبقة إضافية بأن يخصص نصف مساحة السطح، على الأقل، لإنشاء حديقة مفتوحة.
كادر
الضجيج في بيروت الكبرى: الدراجات النارية الأكثر ازعاجاً
داخل المدينة ونباح الكلاب خارجها
التلوث الضوضائي مشكلة كبيرة في لبنان، كما في كثير من البلدان النامية. فاكتظاظ المدن نتيجة الهجرة من الأرياف والنزوح السكاني خلال فترة الأحداث، والافتقار الواضح إلى التخطيط المدني، وعدم تقيد المواطنين بأنظمة السير، والكثافة السكانية العالية مقارنة بالمقاييس العالمية، وارتفاع عدد السيارات مقارنة ببلدان مجاورة أو ذات دخل مماثل، وتزايد أعمال الإنشاء بعد الأحداث، واستعمال المولدات الخاصة بسبب تقنين التيار الكهربائي، كلها عوامل تساهم في تفاقم مشكلة الضجيج في لبنان.
في السنة الماضية، أجريتُ دراسة لتحديد تأثيرات الضجيج في منطقة بيروت الكبرى، ساعدتني فيها مي مسعود من الجامعة الأميركية. قمنا بقياس مستويات الضجيج في 14 موقعاً وفي ثلاثة أوقات مختلفة: صباحاً قبل ازدحام السير، وأثناء الازدحام، وفي المساء. واستطلعنا آراء 1038 رب عائلة أجاب 900 منهم بمعلومات مكتملة. وتضمن الاستطلاع تحديد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين (العمر، الوضع العائلي، المهنة، التعليم، الدخل)، ومواقفهم من الضجيج وتأثيره في نشاطاتهم اليومية (العمل، الدراسة، النوم، مشاهدة التفزيون، الاستماع إلى الراديو، إبقاء النوافذ مفتوحة)، إضافة إلى الإزعاج والتأثيرات الصحية. وشمل الاستطلاع 94 منطقة ذات مستويات ضجيج مختلفة. واختيرت عينات من الناس في كل منطقة بشكل عشوائي.
أظهر قياس الضجيج في جميع المواقع أنه أعلى من المستويات الموصى بها للازعاج. وكان أعلى مستوى للضجيج في منطقتي الكولا وفرن الشباك، اللتين تتشابهان في الكثافة السكانية المرتفعة وزحمة السير وأعمال الإنشاء وتقنين الكهرباء. وسُجل أدنى مستوى للضجيج في المنصورية.
وعي الضجيج: بينت الدراسة أن نسبة عالية (69,7%) من السكان في منطقة بيروت الكبرى يدركون التأثيرات السلبية للضجيج. وهذا يرتبط غالباً بالمستوى العلمي الذي كلما كان مرتفعاً ازداد الوعي، كما يرتبط بمستوى الدخل ونوع المهنة. وقد سجلت فئة الموظفين أعلى نسبة (38,3%) لكثرة احتكاكها بمصادر الضجيج.
مصادر الضجيج: طلب من المشاركين في الاستطلاع تحديد أكثر مصادر الضجيج ازعاجاً في محيطهم. فتبين أن هذه المصادر هي وسائل النقل: الدراجات النارية (حددها 70,4% من المشاركين)، وحركة السير (63,1%)، وزعيق أبواق السيارات (56,3%). تلي ذلك مولدات الكهرباء الخاصة (55,1%) وأعمال الإنشاء (42%). وسجلت حركة الطائرات نسبة 13,8% فقط نظراً لتحويل مسارها فوق البحر.
وجاء ترتيب مصادر الضجيج في المواقع المختلفة متشابهاً إلى حد بعيد. ولعل النسب المنخفضة للدراجات النارية (36%) وحركة السير (24%) والنسب المرتفعة للمولدات (66%) ونباح الكلاب (61,4%) كمصادر للضجيج في المنصورية، تفسر مستوى الضجيج الأدنى الذي تم قياسه. أما مستويات الضجيج المرتفعة التي قيست في الكولا وفرن الشباك فيمكن أن تعزى إلى حركة السير (88,5% و90%) والدراجات النارية (82%) وأعمال البناء (52%) والمولدات (73% و82%). ولوحظ أيضاً طول فترة الضجيج في الموقعين، وإن تكن أطول فترة سجلت في منطقة الشياح.
الانزعاج: سجلت نسبة عالية (73,6%) للأشخاص الذين أبدوا انزعاجاً من مصادر الضجيج في بيروت الكبرى. لكن تبين وجود تفاوت كبير في نسب الانزعاج بين المواقع المختلفة التي شملتها الدراسة. وسُجلت أعلى نسبة (89%) في فرن الشباك وأدنى نسبة (56%) في المنصورية. ولحظ المشاركون أن الضجيج يعيق قدرتهم على إبقاء النوافذ مفتوحة (50%) وعلى العمل والدراسة (46%) والإصغاء إلى الراديو أو مشاهدة التلفزيون (39%) والنوم (39%) والتحدث مع الآخرين في المنزل (25%).
توصيات: أوصت الدراسة بمراقبة مصادر الضجيج وتحليلها بشكل مستمر، وتطبيق سياسات لمنعها من تجاوز المقاييس المقبولة، واشتراط تخفيف الضجيج الناتج عن أعمال الإنشاء للحصول على تراخيص بإقامة مشاريع جديدة، وإجراء تقييم بيئي لجميع مشاريع النقل المقترحة التي قد تزيد مستويات الضجيج. ومن التدابير الأخرى ضبط أصوات المولدات الكهربائية، وتنظيم قيادة الدراجات، ومنع التزمير إلا عند الضرورة القصوى، واستعمال أسفلت في المدينة يمتص الأثر الضجيجي لإطارات السيارات.
د. سميرة قرفلي
متخصصة في الكيمياء الجيولوجية البيئية
وأستاذة في دائرة العلوم الطبيعية في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت