الخرطوم ـ ''البيئة والتنمية''
أفراس النهر المهاجرة خلفت ممراً شبيهاً بنفق وسط الأعشاب الشامخة، وغرزت آثار أقدامها عميقاً في الوحول، مرتحلة من جزيرة أوبيكولو في جنوب السودان الى جزر مجاورة يغطيها قصب البردي. وفي الجزيرة الواقعة وسط النيل الأبيض خمسون فيلاً ترعى بسلام.
''من ظن أنها اختفت الى الأبد خاب ظنه''، قال المقدم تشارلز جوزف نائب مدير منتزه نيمول الوطني قرب الحدود مع أوغندا، غائصاً في مياه تصل الى الركبة عبر مسطحات القصب للاقتراب من قطيع الفيلة.
الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، التي اندلعت عام 1983 ودامت 22 عاماً ولم تضع أوزارها تماماً، كانت أطول وأدمى نزاع في أفريقيا، اذ أودت بحياة نحو مليوني سوداني. وشردت جميع فيلة الجنوب تقريباً مع أعداد كبيرة من الحيوانات البرية الأخرى. وقد عمد المتقاتلون الى قنص الحيوانات كمصدر للطعام، كما كان الصيادون يصطادونها للاستفادة من لحومها والمتاجرة بعاجها وأعضائها في السوق السوداء. وأدت سنوات الجفاف الطويلة وما رافقها من تصحر واسع النطاق الى تراجع كبير في أعداد القطعان البرية.
عودة جماعية
بناء على مشاهدات في بلدان أخرى مزقتها الحروب، ظن دعاة الحفاظ على الطبيعة أن الحياة البرية انتهت في جنوب السودان. لكن الواقع أثبت عكس ذلك. فبعد ثلاث سنوات من السلام النسبي، ها هي الحيوانات تعود في إحدى أروع الهجرات المعاكسة.
بعد أن منحت الحكومة السودانية جنوب البلاد حكماً ذاتياً في كانون الثاني (يناير) 2005، ما أوقف الحرب الأهلية، بات العلماء قادرين على اجراء مسوحات جوية لسهول السافانا العشبية لاستقصاء وضع الحياة البرية فيها. وقد أجرت جمعية الحفاظ على الحياة البرية WCS ومقرها الولايات المتحدة مسحاً شمل ربع مساحة جنوب السودان، تحديثاً لمسح جوي سابق كانت أجرته عام 1981. ووجدت أن أعداد أنواع معينة من الحيوانات ازدادت في بعض المناطق عما كانت قبل عقدين، مثل ظبي المنغالا الذي ارتفعت أعداده كثيراً. وقدرت عودة نحو 7000 فيل و1500 زرافة و500 من المها المرقط كان يعتقد انها غادرت البلاد بلا رجعة. كما شوهدت اللقالق النادرة والنعام، والأسود والنمور والجواميس، وتشكيلة واسعة من الظباء والغزلان التي تقدر أعدادها بنحو 1,3 مليون رأس وينفرد السودان ببعض أنواعها. ووصف باحث في الجمعية هذا الحدث بأنه ''ثالث أكبر هجرات الحيوانات البرية على الأقل، بل ربما أكبرها على الاطلاق''.
عودة الفيلة عززت آمال الجنوبيين بالسلام. لكن الفيلة تعود الى منطقة هشة، فاتفاقية السلام بين حكومة الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب متداعية، وإذا انهارت فقد تعود الحرب.
الفيلة تعرف وطنها
في جزيرة أوبيكولو نزلت أفيال الى النهر تبرد أجسامها حتى الرقاب في مياه النيل السبخة، رافعة خراطيمها من وقت الى أخر لتتشمم محيطها. ووقفت أفيال أخرى على اليابسة تمضغ أغصان الأشجار بصوت عال. قال المقدم جوزف، وهو أول من رأى قطيع الفيلة بعد عودتها: ''لم يتوقع أحد أن يجدها هنا. انظر اليها، انها لا تبعد عنا أكثر من خمسة أمتار''.
صيادو الأسماك من قبيلة المادي المتوطنة في هذه المنطقة أقاموا مخيماً على طرف الجزيرة. قالوا ان قطيع الفيلة عاد الى السودان منذ نحو سنة، عابراً الحدود من أوغندا. وأكد تشارلز موليني كبير الصيادين: ''نحن في سلام معها، وهي ليست قلقة من وجودنا''.
الفيلة أكبر الثدييات البرية، تعيش في قطعان تهاجر عبر أراض شاسعة. وهي تعمر عقوداً ولها ذاكرة أسطورية. وقال مسؤولو منتزه نيمول إن 350 فيلاً عبرت الحدود الاوغندية الى داخل المنتزه. ويفخر الجنوبيون بهذه الحيوانات المهيبة، وقد أصر حراس المنتزه على أن القطعان التي نشأت أصلاً في المنطقة هي التي تعود، مدفوعة برغبة في الرجوع الى موطنها. والدليـل على ذلك أن لا أعمال عنف تتهددها وتدفعها الى ترك أوغندا أو كينيـا المجاورتين.
وقال اللواء ألفريد أكوش وكيل وزارة البيئة وحماية الحياة البرية والسياحة في حكومة جنوب السودان: ''كنا نخبر الناس أن الحياة البرية ما زالت موجودة في الجنوب، ولكن لم يصدقنا أحد. وإذا كانت الآن تعود، فلأنها تعرف أين موطنها''. وأشار الى أن أفيالاً مسنة شوهدت وحيدة في بادئ الأمر تستكشف موائلها القديمة، ''وعندما وجدت أن المنطقة آمنة ولا أحد يطلق النار عليها، عادت لتحضر عائلاتها''.
دخل من السياحة
اتفاقية السلام التي أنهت الحرب الأهلية ومنحت الجنوبيين دوراً في حكومة وحدة وطنية، أسفرت عن حكومة مستقلة ذاتياً في الجنوب وتعهدت باجراء استفتاء سنة 2011 حول استقلال الجنوب. لكن الجنوبيين يتهمون الشمال بخرق هذه الاتفاقية. وفي خطوة مفاجئة، ترك الثوار السابقون في الحركة الشعبية لتحرير السودان حكومة الوحدة الوطنية في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) 2007 مطالبين بالتزام نصوص الاتفاقية. وأشار باغان أموم، أمين عام الحركة، الى أن الجنوب متعب وسيعمل لتجنب اقتتال جديد: ''نريد أن تزدهر هذه الأرض ثانية وأن يتمتع الشعب بها أخيراً''.
يأمل الجنوبيون في حال ترسخ السلام أن تساعد السياحة في تمويل دولتهم التي هي بأمس الحاجة الى النقد. وتخطط حكومة جنوب السودان لافتتاح منتجع سياحي في نيمول، ولاعادة فتح عشرات المنتزهات والمحميات الوطنية في أنحاء الجنوب، الذي هو منطقة شبه استوائية تربو مساحتها على 550 ألف كيلومتر مربع ويعيش فيها نحو ثمانية ملايين نسمة.
يقول العلماء إن الجغرافيا أدت دوراً رئيسياً في بقاء الحياة البرية أو زوالها. ففي حين شاهد فريق جمعية الحياة البرية خسائر فادحة لحقت بالجواميس والفيلة والحمر الوحشية في الأجزاء الغربية من جنوب السودان، لاحظوا أن قطعاناً كبيرة هربت من ميادين القتال ومن الصيادين الى جزء شاسع تتخلله المستنقعات في وسط جنوب السودان وشرقه يعرف باسم السدّ، ما أمن لها الحماية. وقد تعهد الكولونيل بول أدوت، قائد الحرس في منتزه نيمول الوطني، بحماية قطعان الفيلة من الصيادين والمتطفلين في المنتزه الذي تبلغ مساحته 1000 كيلومتر مربع. وهناك 190 حارساً، معظمهم جنود سابقون في الحركة الشعبية لتحرير السودان، يتناوبون على 20 بندقية اوتوماتيكية وسيارة جيب ودراجتين ناريتين.
وأشار أدوت الى أنه كان مولعاً بالحياة البرية منذ الطفولة، وكان يصغي للمسنين في القرية وهم يروون حكايات عن الحيوانات. وقال مبتسماً: ''كان هناك الفيل والضبع والأرنب البري، وكنا نعيش جنباً الى جنب مع الحيوانات''. ومن مرتفع يشرف على سهل السافانا الشاسع في منتزه نيمول الوطني، أشار الى النهر حيث ترعى الفيلة قائلاً: ''نريد أن تبقى''.