عندما تهم بالسفر براً مغادراً دمشق باتجاه مدينة حمص، وعلى بعد 90 كيلومتراً من العاصمة السورية، تمر ببلدة تحتضنها جبال القلمون وترتفع حوالى 1400 متر عن سطح البحر. انها دير عطية، التابعة ادارياً لمنطقة النبك (ريف دمشق)، وهي أصبحت مثالاً رائعاً في سورية ونموذجاً للبلدة الحضارية. حتى الذين لم ترَ أعينهم واقعها الجديد سمعوا عن الجهود التي بذلت فيها، ولا تزال تبذل، ولاقت التشجيع من الناس ومن الهيئات الرسمية.
كانت البداية مشروع التشجير الحراجي والمثمر في الأراضي التابعة للبلدة. وكانت الامكانات محدودة وثقة الناس في نجاح المشروع ضعيفة. والسبب أن المنطقة شبه صحراوية، ومعدل أمطارها لا يتجاوز 130 مليمتراً سنوياً. الا أن الاصرار والعزيمة في سبيل تطويع الطبيعة لخير الانسان أعطت ثمارها بعد سنوات. واليوم، عندما تمر بالبلدة، تشعر وكأنك في منطقة لم تعهدها سابقاً. وتلفت انتباهك كثافة الاشجار وتنظيم الحدائق والشوارع والاحياء السكنية.
بعد مشروع التشجير، الذي لا يزال مستمراً بخطوات أوسع، نفذت مشاريع خدمية ارتقت بالبلدة الى مصاف البلدات الحديثة في العالم، علماً أن نسبة كبيرة من سكانها عاشت في بلدان الاغتراب في الأميركتين وأوروبا واوستراليا. فتم بناء مستشفى ضخم مجهز بأحدث التقنيات الطبية والكوادر الاختصاصية. وشيدت المدينة الرياضية وصالتها المغلقة ومسبحها، فساهمت بجعل الرياضة ممارسة جماهيرية.
وانصب الاهتمام على تأمين الماء النظيف لكل الناس وللأراضي الزراعية. وهو يضخ بشكل مقنن. ولقد رفع شعار جميل في البلدة يقول: "لسنا بخلاء الا في استهلاك الماء".
وتم تشييد أحد أضخم وأجمل المراكز الثقافية في سورية. كما أقيم متحف دير عطية الذي يحتوي الآن على كل ما يمت بتاريخ المنطقة وطرق عيش انسان القلمون القديم. وأعيد ترميم المباني القديمة في البلدة، مع اهتمام خاص بالمساجد والكنائس. وأنشئت جمعية سكنية لذوي الدخل المحدود تؤمن لهم المساكن بأسعار شبه رمزية. وأعيد بناء 250 مسكناً قديماً للأهالي المحتاجين.
ونظمت الشوارع وزرعت الأشجار، حتى في المناطق التي لم تسكن بعد. وغدت الشجرة كائناً قيماً في هذه البلدة، لا يسمح لاحد بالاساءة اليها. ولقد سمعت من البعض أنهم يعتبرون الأشجار والورود كأولادهم.
وأنجز مشروع رائع في مجرى السيل الذي كان بؤرة للقمامة على امتداد ثلاثة كيلومترات، قاطعاً البلدة من غربها الى شرقها. فقد تم تحويله الى حديقة عامة وغابة تمتلئ بالاشجار الحراجية والزهور وأماكن للهو الأطفال واستراحة للأهالي. وبني سد في أعلى المجرى لتجميع مياه الأمطار.
هذه هي دير عطية التي أصبحت وجهاً حضارياً في مواجهة الظروف القاسية. وانجازاتها الرائعة تحققت من خلال العمل الشعبي. انها عبرة إنسانية في حب الناس للطبيعة وحبهم بعضهم لبعض.
|