بعد أسابيع يهبط على جوهانسبورغ سبعون ألف شخص من جميع أنحاء العالم، بينهم ممثلو حكومات ومنظمات دولية وصناعيون وشركات متعددة الجنسية ومنظمات أهلية وناشطون بيئيون. قمة الأرض الثانية، أو القمة العالمية حول التنمية المستدامة، ستجمع أيضاً نحو مئة من رؤساء الدول، يأتي معظمهم الى جنوب افريقيا ليس عن اقتناع بامكانية تحقيق انجاز فعلي، بل للاستفادة من فرصة في العلاقات العامة الدولية، أحد فصولها صورة تذكارية مع الزعيم التاريخي نيلسون مانديلا.
لقد سرقت "الحرب على الارهاب" كثيراً من وهج الحرب على الفقر. وبدلاً من بحث ما تم تحقيقه على طريق تطبيق جدول أعمال القرن الحادي والعشرين الذي اتفق عليه في قمة الأرض الأولى في ريو، تريد القوة العظمى أن يكون البند الأساسي: ماذا قبل 11/9/2001 وبعده. وكأنّ كل مشاكل الجوع والفقر والمرض والتخلف أصبحت في الدرجة الثانية أمام هاجس "الحرب على الارهاب". ومن المفارقات أن بعض الذين سيتزاحمون لالتقاط صورة تذكارية مع نيلسون مانديلا كمناضل من أجل التحرر، كانوا ليعتبروه إرهابياً لو جدد نضاله اليوم.
أما جدول أعمال القرن الحادي والعشرين الذي أقرته قمة الأرض حول البيئة والتنمية عام 1992، فبقي في معظمه حبراً على ورق. وقد لاحظ الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، في تقريره عن التقدم نحو تحقيق مقررات ريو، ان أوضاع الدول النامية أصبحت أسوأ مما كانت عليه قبل عشر سنوات.
في الثلث الأخير من القرن العشرين، بدأ الاهتمام الدولي بمعالجة مشاكل التلوث الناجمة عن التنمية الصناعية المكثفة. وتبيّن أن المعالجة الجذرية تتطلب اقامة توازن بين واجبات حماية البيئة ومتطلبات التنمية، من خلال ادارة حكيمة للموارد. وتأتي قمة الأرض الثانية تحت عنوان التنمية المستدامة، لتؤكد على أن الطريقة الواقعية لرعاية البيئة تكون من خلال ادارة عملية التنمية.
أصبحت هذه مبادئ متفقاً عليها. لكن المعضلة الكبرى تبقى في التطبيق. فالمعادلة بسيطة: ادارة التنمية على مستوى العالم بما يحقق التوازن البيئي، تتطلب قيوداً على أنماط التنمية المنفلتة، التي تقوم على التوسع غير المحدود تلبية لطلبات المجتمع الاستهلاكي المتزايدة. القيود ستعني تباطؤ النمو الاقتصادي الرقمي في الدول الصناعية، التي تتسبب في أكبر قدر من استنزاف الموارد والانبعاثات الملوثة. بعض هذه الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تحاول التهرّب من تنفيذ اجراءات قد تؤثر على القدرة التنافسية لصناعاتها، وتحميل الدول النامية معظم العبء. وقد جاءت بعض المقدمات في الاسابيع السابقة لمؤتمر جوهانسبورغ لتؤكد هذا الاتجاه: فإدارة الرئيس الأميركي جورج بوش اقترحت تعديلاً على قوانين تلوّث الهواء في الولايات المتحدة، يسمح لمحطات توليد الطاقة بالتوسع وزيادة الانتاج، مع اعفائها من تدابير موازية لتخفيف الانبعاثات. هذا الاجراء سيوفر بلايين الدولارات على الصناعة، لكنه سيؤدي الى تدهور كبير في نوعية الهواء، وهو واحد من سلسلة إجراءات مشابهة اتخذتها الادارة الأميركية بعد رفضها بروتوكول كيوتو حول تغير المناخ. وكانت الولايات المتحدة، على رأس مجموعة من الدول الصناعية، رفضت الشهر الماضي، في مؤتمر بالي التحضيري لقمة جوهانسبورغ، وضع قيود فعلية على نشاطات الشركات المتعددة الجنسية العاملة في الدول النامية. فتحت ستار العولمة والانفتاح والتعاون الاقتصادي، تقدم شركات من الدول الصناعية على افتتاح فروع لها في الدول النامية، بحثاً عن عمالة رخيصة واحتماء بشروط بيئية متساهلة. وغالباً ما تكون هذه من الصناعات الأكثر تلويثاً. الولايات المتحدة عرقلت في بالي التوصل الى اتفاق يحمّل الشركات الأم في الدول الصناعية مسؤولية التلويث والأضرار الناجمة عن أعمال فروعها في الدول الفقيرة.
غير أن الدول النامية نفسها تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن وضع التخلُّف الذي تعانيه. فهي ما زالت تنتظر ما يأتيها كمساعدات وهبات، بلا خطة واضحة لمستقبل شعوبها. وهي تستعيض بالاسعافات الأولية عن الاستراتيجية البعيدة المدى. وتكتفي بردات الفعل العاجزة، فتبقى قاصرة عن المبادرة. وقد يكون أخطر ما يميّز حكومات هذه المجموعة من الدول التعامي عن مشاكلها والتباهي أمام شعوبها بما تسوّقه كنجاحات وانجازات. واذا قرأنا بعض تقارير الدول العربية، فقيرها وغنيّها، الى قمة جوهانسبورغ، لاعتقدنا أن الشعوب العربية أصبحت في طليعة التقدم والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وأنها قد نجحت في حلّ كلّ مشاكلها، فعمّ الرخاء وتحققت أهداف التنمية المستدامة كلها، ولم تبق أية معضلات بلا حلول. فإذا كانت الحال هكذا، لماذا نذهب الى قمة الأرض إذاً وما هي طلباتنا منها؟
على الرغم من نظريات "أولوية الحرب ضد الارهاب" و"العالم قبل 11/9 وبعده"، فالعالم يمشي، والفقراء يزدادون فقراً، والحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى الى عقد عالمي جديد قائم على العدالة. وقمة جوهانسبورغ توفر فرصة حقيقية للتوافق على مفهوم للتنمية يقوم على ادارة الموارد وتطويرها وتوزيعها بعدالة، فيشارك الجميع في البحبوحة. ذلك أن التنمية المستدامة تعني توزيع غنى لا توزيع فقر.
لقد فشلت نظريات حماية البيئة في حلّ المشكلة خلال العقود الماضية، إذ اقتصرت على تدابير التوفير والامتناع ومحاولة توزيع القليل المتوافر. فكادت المبادرات البيئية الدولية تتحول الى حلقات تسلية للدول النامية والجمعيات الأهلية، واستمرت القرارات الكبرى التي تحدد اتجاه العالم تتخذ على مستوى مؤسسات التمويل العالمية التي تديرها القوى العظمى. لهذا نعتبر أن القمة العالمية حول التنمية المستدامة فرصة لتصحيح الاتجاه، فتكون حماية البيئة جزءاً من إدارة التنمية المستدامة، وتكون الدول النامية طرفاً في القرارات الاقتصادية أيضاً. لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب حضوراً فاعلاً للدول النامية في القمة، وتنسيقاً في المواقف، واطلاق مبادرات مشتركة جدية تتعدى تقارير الانجازات والنجاحات المزعومة. فالولايات المتحدة ومجموعتها ستحاول حصر موضوع القمة في أدبيات البيئة والطبيعة، ومنع البحث الجدي في أية تدابير اقتصادية، بحجة أنها اختصاص حصري لمنظمة التجارة العالمية ومؤسسات التمويل.
ولعل الولايات المتحدة تدرك قبل فوات الأوان أن التنمية المستدامة، القائمة على الادارة العادلة لموارد العالم والتوزيع العادل للثروات وضمان الحقوق الانسانية للشعوب، هي الطريق الأقصر والأوفر لمكافحة الارهاب.
هذا هو التحدي: تحويل قمة جوهانسبورغ الى منبر عالمي يدمج البيئة في الاقتصاد، فلا تبقى البيئة هواية الفقراء والاقتصاد اختصاص منتديات الأغنياء.