عملية تطوير مصادر جديدة للطاقة هي هاجس حقيقي للدول الصناعية الكبرى، إذ تحاول جاهدة تخفيض اعتمادها على النفط الذي أصبح مورداً مهدداً بالمتغيرات السياسية والاستراتيجية الدولية. وقد وصلت حركة الوعي البيئي في الغرب إلى مرحلة متقدمة، فباتت مؤثرة على الخيارات الاقتصادية الكبيرة. وهذا يعطي أهمية اضافية لموارد الطاقة المتجددة وتطوير تقنيات استغلالها.
في ألمانيا، عملاقة اقتصاد السوق الأوروبية المشتركة، تم إقرار العديد من الأدوات التشريعية والقانونية وأنظمة الحوافز والضرائب، لتشجيع تطوير موارد الطاقة المتجددة وتخفيف انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون وغازات الدفيئة الأخرى. وفي هذا الإطار، تعتبر ألمانيا واحدة من الدول الصناعية القليلة التي التزمت بمسؤولياتها في تخفيض الانبعاثات حسب اتفاقية كيوتو. ولكن من الواضح أيضاً أن سياسة ألمانيا في هذا المجال لا تهدف فقط إلى الحفاظ على البيئة، بل إلى كسب السباق التكنولوجي العالمي نحو تطوير موارد الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وتصديرها إلى دول العالم الثالث، بحيث تمثل استثماراً مستقبلياً لتقوية الاقتصاد الألماني وخياراته.
وقد أتيحت لي فرصة الإطلاع على التطور الألماني في مجال الطاقة، من خلال زيارة استغرقت أسبوعين ضمن فريق عمل من دول الجنوب (النامية)، بهدف تقييم السياسات الألمانية، من وجهة نظر جنوبية، في مجال التنمية المستدامة بعد 10 سنوات من مؤتمر ريو دي جانيرو وتنفيذ الأجندة 21. وقد أحسست أن في هذه التجربة من الأهمية ما يمكن مشاركته مع قراء "البيئة والتنمية".
ضريبة بيئية وحزب خضر ومئة ألف سطح شمسي
استخدام أدوات السوق الاقتصادية الرأسمالية في ألمانيا، في مجالات الطاقة المتجددة، يشكل نموذجاً هاماً يمكن تطبيقه في دول صناعية أخرى، شرط الالتزام الحكومي بها. ومما ساعد على ظهور هذه التجربة وتطورها في ألمانيا بالذات، انضمام حزب الخضر إلى الإئتلاف الحكومي عام 1997، وما تبعه من تأثير للحزب على كثير من السياسات الاقتصادية والاجتماعية وجعلها أكثر رفقاً بالبيئة والتنمية المستدامة.
أهم الالتزامات الحكومية الألمانية في مجال الطاقة يندرج ضمن تخفيض انبعاثات غازات الدفيئة. فقد التزمت الحكومة بتخفيض انبعاثاتها من غاز ثاني أوكسيد الكربون بنسبة 25% عام 2005، مقارنة بمستوى عام 1990. إلا أن الاحصائيات الأخيرة لا تعطي انطباعاً بامكان تحقيق هذا الهدف، اذ تقلصت الانبعاثات عام 2000 بنسبة 10% فقط، وهذا يعني عدم التمكن من تحقيق الهدف الطموح. ولكن الالتزام السياسي بضرورة تخفيض الانبعاثات لم يتوقف على الأقل. وقد طورت الحكومة الفديرالية أيضاً استراتيجية وطنية للتغير المناخي، تضمنت 130 إجراء يمكن تطبيقها في سبيل تقليل انبعاثات الكربون وزيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة.
من أهم هذه الإجراءات الضريبة البيئية (ecotax) التي تعتبر تجربة ريادية في ألمانيا، أدخلها حزب الخضر بالاتفاق مع الحزب الديموقراطي الاشتراكي صاحب الغالبية في الحكومة. والفريد في هذه الضريبة أن عائداتها تستخدم فقط لدعم الضمان الاجتماعي، أي يتم تدويرها لتصب في صالح الفئات الشعبية المعوزة والمعرضة للضغط الاجتماعي. وهذا جعل قبولها من الناخبين أكثر سهولة، ولم تثر حولها ضجة سياسية كبيرة كما كان متوقعاً. وفي المرحلة التالية من التطبيق، والتي ستزيد من نسبة الضريبة، سيتم استخدام بعض العوائد في دعم أبحاث ومشاريع تطوير الطاقة المتجددة.
ومن الوسائل الأخرى مشروع "مئة ألف سقف شمسي"، وهو مشروع فريد من نوعه يهدف إلى تركيب خلايا شمسية بأسعار زهيدة جداً على سقوف بعض البيوت والبنايات الكبيرة لتزويدها بالطاقة، ومن ثم ربط هذه السقوف بنظام إمداد كهربائي يزود محطة الكهرباء القريبة بالفائض من هذه الطاقة. وكلما ساهم المنزل أو البناية في تزويد نسبة معينة لمحطة الكهرباء، يتم حسم هذه النسبة من فاتورة المنزل، مما جعل فاتورة الكهرباء زهيدة جداً في هذه البنايات. وقد نجح المشروع بشكل كبير بسبب إقبال الناس عليه، حتى انه استنفد ميزانيته وتمكن من تركيب الخلايا الشمسية على مئة ألف سقف خلال مدة لا تتجاوز ستة أشهر.
التخلي عن الطاقة الملوثة
تلقى الاعتماد على الطاقة المتجددة دعماً مضاعفاً من قرار الحكومة بإنهاء العمل في محطات الطاقة النووية خلال فترة لا تتجاوز سنة 2020. وهذا يعني أن الطاقة التي تنتجها هذه المحطات يجب تعويضها بمصادر الطاقة المتجددة، من شمس ورياح وماء.
ومن مصادر الطاقة التقليدية الملوثة، التي تحاول ألمانيا تخفيف الاعتماد عليها تدريجياً، الفحم البني (الليجنايت) وهو من أكثر مصادر الطاقة تأثيراً على البيئة في ألمانيا. إذ ان عمليات التعدين للحصول على هذا الفحم تدمر مساحات شاسعة من البيئة الطبيعية بشكل لا يمكن استعادته طبيعياً. وفي بعض المناطق في محافظة الراين الشمالي، تتم إزالة قرى ومجمعات سكنية كاملة ذات تراث تاريخي للسماح بتوسعة نشاطات التعدين، التي تعمل مثل وحش عملاق يلتهم الأرض الطبيعية بشراسة.
لكن المشكلة التي تواجه ألمانيا في مجال الفحم هي أن تعدينه يعتبر رمزاً للهوية القومية، اذ زاوله الألمان منذ مئات السنين، كما أن العمل في مناجم الفحم يعتبر محلياً أحد اشكال إثبات الرجولة. وبالتالي يصعب تجاوز البعدين الاجتماعي والثقافي للتعدين لدى المجتمعات الريفية. وبالإضافة إلى ذلك، تتمتع شركات التعدين الكبرى في ألمانيا بنفوذ سياسي ومالي كبير، ساهم في تعطيل الوصول إلى إجراءات حكومية مشددة لتخفيض نشاطات التعدين في المناطق الطبيعية، باستثناء تلك التي تقع فوق أحواض المياه الجوفية.
تطوير الطاقة المتجددة
التميز الفعلي لألمانيا هو في مجال تطوير موارد الطاقة المتجددة. فهي تعتبر، الى جانب الدنمارك وهولندا، أكثر دول العالم تقدماً في هذا المجال. ومن المفارقات أن هذه الدول الثلاث يندر أن تظهر فيها الشمس، لكنها تصدّر تقنياتها الى الدول المشمسة في الجنوب، حيث يفضل الناس الاستلقاء تحت أشعة الشمس عندما تكون خفيفة أو الهروب منها إلى الغرف المكيفة عندما تكون حادة، بدل تطويرها كمصدر للطاقة الدائمة!
أصبحت التقنيات مهيأة في ألمانيا لدمج الطاقة الشمسية مع الطاقة التقليدية لانتاج الكهرباء في غالبية البنايات. ونسبة مساهمة الخلايا الشمسية في إنتاج الكهرباء هي بازدياد مستمر، والتطوير في مقدار حساسية هذه الخلايا لا يتوقف، من خلال عمل كبرى شركات الطاقة في هذا المجال، وفي مقدمتها شركة "شل" التي أقامت مصنعاً خاصاً في مدينة بون لإنتاج أحدث أنواع الخلايا الشمسية ذات الكفاءة العالية والمتناسبة مع الأجواء الباردة في الشمال، وكذلك التأقلم مع الأجواء الساخنة وحدّة الشمس العالية في الجنوب. ومن المفارقات أن المواد الخام لإنتاج هذه الخلايا تصل إلى المصنع من بولندا والمجر وهولندا، وليس من ألمانيا.
في مدينة جيلسنكيرشن الريفية، التي كانت معقلاً للتعدين وإنتاج الفحم حتى أواسط الثمانينات، تم بناء "مدينة علمية" لتطوير الطاقة الشمسية لا مثيل لها في العالم، تجمعت فيها شركات القطاع الخاص العاملة في هذا المجال لاجراء أبحاثها ودراساتها وتجاربها. وتوفر المدينة للشركات المستثمرة فيها اعفاءات ضريبية وحوافز اقتصادية للبحث والتطوير، وتؤمن لها الدولة مساحة مجانية للقيام بهذه الابحاث. وقد بدأت التكنولوجيا المتطورة في هذه المدينة بغزو أسواق الدول النامية، التي اختارت أيضاً أن تطور قدراتها واعتمادها على الطاقة الشمسية ولو بكلفة عالية.
والاستثمار في الطاقة المتجددة لا يقتضي تطوير التقنيات فحسب، بل القدرات البشرية أيضاً. فقد أدى تراجع قطاع التعدين إلى خسارة كثير من الوظائف، ولكن قطاع الطاقة المتجددة يساهم الآن في تغيير أنماط المهارات والوظائف التقليدية، ويساهم أيضاً في تقليص فجوة البطالة، وخصوصاً في محافظة الراين الشمالي التي تعتبر قلب التعدين في أوروبا.
عموماً، يمكن القول ان خيارات ألمانيا الحالية والمستقبلية في قطاع الطاقة تشكل نموذجاً يحتذى، خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة من بروتوكول كيوتو، اذ أصبحت الساحة بحاجة إلى دول تأخذ دفة القيادة في هذا المجال. فالمعادلة الالمانية اعتمدت على منهج متكامل، تضمن تطوير السياسات البيئية من خلال صنّاع القرار (الحكومة الفدرالية وحزب الخضر)، واستخدام الادوات الاقتصادية الرأسمالية الحديثة (الضريبة البيئية)، وتقليل الاعتماد على الطاقة التقليدية الملوثة (الفحم والطاقة النووية)، ودعم الحكومة للقطاع الخاص كي يستثمر في الطاقة المتجددة، وأخيراً دور المواطنين من خلال ترشيد استهلاك الطاقة والاعتماد على الطاقة المتجددة وتشجيع استخدامها.
وفي النهاية، نحس نحن أبناء الجنوب بالحسرة من قيام دول الضباب بالبحث عن مصادر الطاقة من الشمس وتطويرها، بينما نحن خذلنا الشمس ولا نزال متكلين على ما يصنعه الآخرون، حتى في المجالات التي نتمتع بها أكثر من غيرنا!