لو كانت للأدغال آذان لسمعت كل يوم صرخة الشعوب الفطرية: دعونا نعيش في أرضنا بسلام، ولا تطردونا منها بحجة إقامة محمية.
مأساة السكان الأصليين كانت محوراً رئيسياً للمؤتمر العالمي للمحميات الذي عقد الشهر الماضي في دوربان في جنوب أفريقيا. فالترحيل القسري من أجل إقامة محميات ومنتزهات كان موضوع احتجاجات أكثر من مئتي مندوب للشعوب الفطرية المنتشرة في أنحاء العالم والتي يقدر تعدادها بنحو 350 مليون نسمة. والصرخة أطلقها نيابة عنهم ملك الزولو في جنوب أفريقيا غودويل زويليتيني، داعياً الى إنصافهم وإعادتهم الى أراضيهم والتعويض عليهم وإشراكهم في إدارة المناطق المحمية، مع تشجيع سياحة مراعية للبيئة وللثقافة المحلية تكون في أيدي السكان الأصليين.
ومن الأمثلة على حالات الترحيل طرد شعب السان (البشمان) من كالاهاري في بوتسوانا وترحيل شعب الماساي من محميات تانزانيا. ولعل عبارة تفوه بها أحد مندوبيهم تلخص مرارتهم، إذ قال: "اعتبروني فيلاً أو واحداً من تلك الحيوانات التي كانت تعيش في هذه الأرض وتعملون اليوم على إعادة توطينها وحمايتها".
محميات على ورق
"حُماة الطبيعة" من أنحاء العالم تجمعوا في دوربان بين 8 و17 أيلول (سبتمبر) الماضي ليتباحثوا في كيفية حماية الارث الطبيعي للأرض، في وقت يحذر الخبراء من أن أكثر من 11 ألف نوع معروف من النباتات والحيوانات معرضة حالياً للانقراض. المؤتمر العالمي للمحميات، الذي يعقده الاتحاد الدولي لصون الطبيعة (IUCN) كل عشر سنين، كان شعاره هذه المرة "منافع تتخطى الحدود"، إشارة الى توسيع مكاسب الحماية الى خارج حدود المحميات لتشمل، مثلاً، تأمين فرص العمل والاسترزاق للسكان الريفيين في الجوار.
كلمات حارة تحضّ البشر ليكونوا أوصياء أفضل على الطبيعة ميزت افتتاح المؤتمر، في حضور نحو 2500 مشارك من 140 بلداً. نلسون مانديلا، الرئيس السابق لجنوب أفريقيا، قال إن مستقبل البشرية مرهون بعلاقة رعائية مع الطبيعة، مبدياً أسفه "لكثرة الشِّيب" بين المسؤولين حالياً عن الحماية، و"قلة الشباب" الذين من شأنهم أن يلعبوا دوراً حاسماً لضمان المستقبل.
الملكة نور الحسين، التي كانت راعية المؤتمر مع مانديلا، تكلمت بحرارة عن المناطق المحمية التي اعتبرتها "هدية غالية من الأجيال السابقة، وملاذات تغذي الروح وتقدم العزاء والالهام في عالم سريع التمدن"، منوّهة بالتوجه الحالي للاتحاد الدولي لصون الطبيعة بالتشجيع على إنشاء "محميات مع الناس" وليس "من دون الناس" أو غصباً عنهم كما كان النمط سابقاً. ولفتت الى أهمية إقامة محميات مشتركة عبر الحدود بين البلدان.
أما رئيس جنوب أفريقيا ثابو مبيكي فرأى أن إقناع الفقراء بقيمة المنتزهات الوطنية ووجوب احترامها وحمايتها لا يمكن أن يجدي بالحضّ والمناشدة فقط، "فمن الضروري ايجاد سبل رزق بديلة لفقراء العالم، كي لا يضطرهم الجوع والحرمان الى ممارسات تقوّض الجهود العالمية لحماية الأنظمة الايكولوجية".
وكانت حقوق الشعوب الفطرية نقطة رئيسية في كلمة الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، التي ألقاها نيابة عنه المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة كلاوس توبفر. أما إيان جونسون، نائب رئيس البنك الدولي، فركز على ثلاثة تحديات في إدارة المحميات هي: ضمان استدامتها ايكولوجياً واجتماعياً، وتأمين الطاقات البشرية والموارد المالية الوافية لادارتها، والتوزيع العادل لتكاليفها ومكاسبها. وشدد على ضرورة إصلاح هيكلية إدارة المحميات ومكافحة الفساد وزيادة الشفافية، ودمج حماية الطبيعة في القطاعات السياسية المختلفة.
وقالت يولاندا كاكابادسي نافارو، رئيسة الاتحاد الدولي لصون الطبيعة، ان تقدماً كبيراً أحرز منذ انعقاد المؤتمر الأخير في فنزويلا عام 1992، إذ بات نحو 12% من سطح الأرض مصنفاً على أنه "محمي"، أي ضعفا المساحة التي كانت محمية قبل عشر سنين، مضيفة أن أحد أهم التحديات هو تحويل مناطق كثيرة من "محميات على ورق" الى محميات حقيقية. وأشارت الى أن "اللائحة الحمراء" التي أصدرها الاتحاد عام 2002 تضمنت 11,167 نوعاً من النباتات والحيوانات المهددة بالانقراض، بينها واحد من كل أربعة أنواع من الثدييات وواحد من كل ثمانية أنواع من الطيور.
إعلان وخطة عمل
تنوعت المناقشات، التي دارت في أكثر من 200 جلسة وورشة عمل في قاعات المركز الدولي للمؤتمرات، من عرض التجارب والتخطيط لانشاء المحميات الى مواجهات حامية بين ممثلي الصناعات التعدينية والسكان الأصليين.
وأطلقت عـدة مبادرات خلال المؤتمر، تعهدت تأمين التمويل والدعـم السياسي والتقني لتحسين إدارة المحميات. وأعلـن تشكيل "شراكة عالمية لمكافحة الحرائق" تضـم الاتحاد الدولي لصون الطبيعة والصندوق العالمي للطبيعة (WWF) ومنظمة حماية الطبيعة، للوقاية من حرائق الغابات المدمرة كالتي استعرت الصيف الماضي في أنحاء أميركا الشمالية وأوروبا وقبلها في اوستراليا واندونيسيا. وكان المؤتمر مناسبة لعدة اجتماعات عقدها مندوبو اقليم غرب ووسط آسيا وشمال أفريقيا (WESCANA) الذي يضم الدول العربية.
وأعلن تأسيس الاتحاد العالمي للشعوب الفطرية المترحّلة، الذي سيعمل على حفز سياسات عادلة تضمن حرية تحركها واحترام حقوقها وتوصّلها الى العيش بطريقة مستدامة ومتوازنة مع الطبيعة. وقد وفر المؤتمر فرصة فريدة لجماعات الرُحًّل والرعاة والمزارعين المتنقلين والأقوام الذين يعتمدون في قوتهم على الصيد ونتاج الطبيعة، لكي يلتقوا ويتبادلوا استراتيجياتهم في ادارة الموارد الطبيعية وصون التنوع البيولوجي ومقاربة المصاعب التي تواجههم كشعوب مترحّلة.
ولعلها المرة الاولى في تاريخ المؤتمرات الدولية لحماية الطبيعة لا يتم تهميش الشعوب الفطرية والجماعات المحلية من سكان المناطق المحمية، بل هم كانوا في صميم المداولات والنتائج التي خرج بها المؤتمر. فمن أصل 13 هدفاً تضمنتها خطة العمل للسنوات المقبلة، ركزت ثلاثة منها على حقوق الشعوب الفطرية والمترحّلة والسكان المحليين في ما يتعلق بحماية الموارد الطبيعية والتنوع البيولوجي. وهي، أولاً، ادارة جميع المحميات القائمة والمستقبلية بشكل يضمن حقوقهم. ثانياً، أن تتضمن هيئات ادارة المحميات ممثلين عنهم يختارونهم بأنفسهم. ثالثاً، إرساء آليات عمل تشاركية ووضعها قيد التنفيذ بحلول السنة 2010، لكي تعاد اليهم أراضي أسلافهم التي انتزعت منهم لضمها الى المحميات.
اختتم المؤتمر باصدار "إعلان دوربان" حول مستقبل المناطق المحمية، ومعه خطة عمل للعقد المقبل، و32 توصية، من أجل تحقيق "رؤية دوربان للمحميات" باعتبارها وسيلة مزدوجة لحماية التنوع البيولوجي وتخفيف حدة فقر السكان. كما خرج المؤتمر برسالة الى اجتماع اتفاقية التنوع البيولوجي الذي سينعقد سنة 2004، تدعو الدول الموقعة الى الالتزام السياسي بتحقق هدف القمة العالمية للتنمية المستدامة بابطاء سرعة خسارة التنوع البيولوجي بحلول السنة 2010.
وقد رافق المؤتمر معرض للصناعات التقليدية وللمشاريع والبرامج المتعلقة بالمحميات حول العالم.
لائحة المحميات لسنة 2003
قد يتبادر الى الذهن أن المحميات ظاهرة حديثة. لكن الواقع أن حماسة الانسان لحماية أماكن موارده الحيوية تعود الى آلاف السنين. ففي العام 252 قبل الميلاد كرس إمبراطور الهند أشوكا مناطق محمية للثدييات والطيور والأسماك والغابات. وحوالى العام 130 الميلادي، حين قدم الامبراطور الروماني هادريان الى لبنان، وجد أن معظم الثروة الحرجية قطعت، فعمد الى تحديد مساحة ما تبقى بحجارة منقوشة تكرس ملكية الامبراطورية لهذه الأحراج وحمايتها. وهذه أقدم الأمثلة المسجلة للحماية الحكومية.
هناك اليوم أكثر من مئة ألف منطقة محمية حول العالم، 90% منها تم تسجيلها خلال الأربعين سنة الأخيرة. وهي تضم ما بين 10% و30% من بعض المعالم الطبيعية الحيوية للحياة على الأرض، مثل غابات الأمازون المطيرة وسهول التندرة القطبية الشمالية وسهول السافانا العشبية الاستوائية. لكن التقدم ما زال متعثراً في حماية مناطق أخرى ذات أهمية بيولوجية وايكولوجية كبرى. فأقل من 10% من البحيرات الكبيرة حول العالم خاضعة للحماية. ومثلها تقريباً الاراضي العشبية المعتدلة المناخ، كالمروج المنتشرة في آسيا الوسطى وأميركا الشمالية. وعلى رغم أهمية المسامك والشعاب المرجانية وموائل بحرية أخرى كمصادر للغذاء والاسترزاق لبلايين البشر، فما زال أقل من 0,5% من بحار العالم ومحيطاته في عداد المناطق المحمية.
"لائحة الأمم المتحدة للمناطق المحمية عام 2003"، التي أعدها فريق اختصاصيين من برنامج الأمم المتحدة للبيئة والاتحاد الدولي لصون الطبيعة وتم إصدارها خلال مؤتمر دوربان، شملت 102,102 محمية تبلغ مساحتها الاجمالية 18,8 مليون كيلومتر مربع، 17 مليوناً منها برية تمثل 11,5% من مساحة اليابسة على الأرض، ونحو 1,6 مليون كيلومتر مربع محميات بحرية. ويقع 40% من تعداد هذه المحميات في البلدان النامية. وتتراوح المناطق المحمية التي شملتها اللائحة بين منتزه غرينلاند الوطني الذي تزيد مساحته على 970 ألف كيلومتر مربع، وهو الأكبر في العالم، وآلاف المواقع الصغيرة التي تقل مساحتها عن 10 كيلومترات مربعة، وكثير منها أملاك خاصة وقد أدرجت للمرة الاولى في لائحة الأمم المتحدة. وتضم أوروبا أكبر عدد من المحميات البرية وهو 43 ألفاً، لكن أميركا الوسطى والشمالية تضم أعلى نسبة من الأرض المحمية وهي 25% لكل منها.
العبرة ليست في العدد
المؤتمر العالمي السابق للمحميات، الذي عقد في كاراكاس في فنزويلا عام 1992، حدد 14 فئة من الموائل البرية القائمة على اليابسة (terrestrial biomes)، وأرسى هدفاً بحماية 10% على الأقل من كل فئة. وحتى الآن، تحقق هذا الهدف بالنسبة الى تسع فئات. فتمت مثلاً حماية نحو 23% من الغابات الاستوائية الرطبة، و10% من الصحارى وأشباه الصحارى الحارة، و15% من سهول السافانا العشبية الاستوائية، و10% من الغابات الدائمة الاخضرار الصلبة الأوراق. وأصبح نحو 17% من غابات المطر جنوب خط الاستواء خاضعاً للحماية وكذلك 30% من أنظمة الجزر المختلطة كالتي في إندونيسيا.
لكن الهدف لم يتحقق بعد في خمس فئات من هذه الموائل. فالحماية لم تشمل الا 1,5% من البحيرات، و4,5% من الاراضي العشبية المعتدلة المناخ، وأقل من 8% من الصحارى الباردة شتاء مثل صحراء غوبي، وأقل من 8% من غابات الأشجار العريضة الأوراق في المناطق المعتدلة مثل شمال أميركا وشمال أوروبا، وأقل من 9% من غابات الأشجار الإبرية المعتدلة المناخ كالتي في اسكوتلندا واسكندينافيا.
وفي حين تجاوز عدد المحميات البرية المئة ألف، هناك 4,116 محمية بحرية فقط مسجلة في لوائح الأمم المتحدة. وهي تغطي 1,6 مليون كيلومتر مربع، أي أقل من 0,5% من مساحة البحار والمحيطات. وتشمل مياه اوستراليا ونيوزيلندا أكبر مساحة بحرية محمية تغطي 420 ألف كيلومتر مربع. ومع أن اوروبا تضم أكبر عدد من المحميات البحرية وهو 800، لكنها صغيرة وكثير منها لا يتمتع الا بحماية محدودة. أما السواحل الأقل حماية فهي تلك الواقعة في جنوب وشرق أفريقيا وجنوب آسيا، مما يجعل المحيط الهندي أقل المحيطات حماية، على رغم ثرواته الضخمة من الشعاب المرجانية وغابات المنغروف (القرم) و"سهول" الأعشاب البحرية.
المؤتمر العالمي للمحميات سلط الأضواء على الأهمية الايكولوجية والاقتصادية للمحميات، وركز على ضرورة إشراك السكان في ادارتها وعلى التوزيع العادل لمنافعها. وخطة العمل الطموحة التي وضعها هي بمثابة وثيقة تقنية، ولكن غير ملزمة، تعرض لصانعي القرار أهدافاً وجداول زمنية لتحسين أوضاع المناطق المحمية وتعميم فوائدها. فكيف يكون الوضع في اللقاء المقبل سنة 2013؟ لقد تضاعف عدد المحميات 10 مرات منذ انعقاد المؤتمر للمرة الاولى عام 1962. لكن العبرة ليست في العدد. وكما قال واضعو لائحة محميات العالم لسنة 2003، "التحدي الآن هو اكتشاف مدى جودة إدارتها".
كادر
ومضات
- الملكة نور الحسين مازحت نلسون مانديلا قائلة إن هناك دافعاً "خفياً" وراء نقل عشرات الأفيال من منتزه كروغر الوطني في جنوب أفريقيا الى موزمبيق، وهو أنها جزء من مؤخر مهر عروسه غراكا ماتشل.
- نظم اتحاد إنقاذ الساحل الافريقي تظاهرة لاحراج الحكومة في يوم افتتاح المؤتمر، احتجاجاً على خطة لشق طريق سريعة الى دوربان تمر عبر منطقة ذات تنوع نباتي فريد عالمياً. لكن التظاهرة ألغيت في اللحظة الأخيرة إذ تأجل اتخاذ القرار بشأن الطريق الى ما بعد انتهاء المؤتمر.
- رداً على سؤال حول تكاليف المؤتمر الذي جمع أكثر من 2500 مندوب من أنحاء العالم، قال وزير البيئة في جنوب أفريقيا فالي موسى إن بلاده كانت ستتكلف عشرة أضعاف ما أنفقته على المؤتمر لتحقق المكاسب السياحية التي حققها لها.