ما أكثر الإعلانات والبيانات والمبادرات العربية التي صدرت حول موضوع البيئة والتنمية، منذ انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة لبيئة الانسان في استوكهولم في عام 1972. جميعها تبدأ بكلمات قوية وحاسمة مثل "التزاماً بـ..."، و"إنطلاقاً من..."، و"تمسكاً بـ..."، و"تأكيداً على ..."، و"إقتناعاً بـ..."، و"إيماناً بـ..."، و"إدراكاً بـ..."، و"اعترافاً بـ..."، و"إقراراً بـ..."، و"شعوراً بـ..."، و"وعياً بـ.."، و"عملاً بـ..." (ولم ينقصها سوى "بالروح، بالدم ..."). ثم تمضي هذه الإعلانات والبيانات والمبادرات لتحدد بعض المبادئ والأهداف والتوصيات. وقد ينبهر من يقرأ أياً من هذه الوثائق بسرعة، ولكن القارئ المتأني والعالم بأحوال العالم العربي لا يملكه الا أن يهز رأسه أسفاً على ما وصلت اليه أحوالنا من خلط بين الجد والهزل، وبين العلم والسياسة، وبين التذاكي والعمل العلمي الجاد. وحتى لا يتهمنا أحد بالتجني، لنستعرض معاً بعض هذه الاعلانات والبيانات والمبادرات.
في تشرين الأول (اكتوبر) 1986، أي بعد 14 سنة من اعلان استوكهولم، اجتمع الوزراء العرب المعنيون بشؤون البيئة في تونس، لأول مرة، وأصدروا "الإعلان العربي عن البيئة والتنمية" للتأكيد على ضرورة ادماج الاعتبارات البيئية في التخطيط للتنمية، حتى يمكن تدارك المشكلات البيئية والتعامل معها في مرحلة مبكرة. وفي العام التالي قرر الوزراء العرب في الرباط تأسيس ما يعرف الآن بـ "مجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة"، يعقد اجتماعات سنوية لمتابعة أمور البيئة في العالم العربي.
مرت أربعة أعوام، وحان وقت الاعداد لمؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية (قمة الأرض) الذي عقد في ريو دي جانيرو عام 1992. فعقد في القاهرة المؤتمر العربي الوزاري عن البيئة والتنمية، الذي أصدر بياناً بعنوان "البيان العربي عن البيئة والتنمية وآفاق المستقبل"، لم يضف جديداً على اعلان تونس الصادر في 1986 سوى انه نسخة موسعة ومنقحة. وفي تشرين الأول (اكتوبر) 1992، بعد قمة الأرض، اعتمد مجلس الوزراء العرب محاور وبرامج العمل العربي للتنمية المستدامة. وهذه البرامج تتكون من 13 برنامجاً هي: مكافحة التصحر وزيادة الرقعة الخضراء، مكافحة التلوث الصناعي، التربية والتوعية والاعلام البيئي، البيئة البحرية والمناطق الساحلية، تنمية واستغلال مصادر المياه، الدعم البيئي للبادية، المستوطنات البشرية، الهياكل التنظيمية لأجهزة ادارة البيئة، المعلومات البيئية، بناء القدرات البشرية، التنوع البيولوجي، التقنيات السليمة بيئياً، والمحافظة على المناطق الأثرية من التدهور. وقرر مجلس الوزراء العرب اعطاء الأولوية في التنفيذ لثلاثة برامج هي: مكافحة التصحر وزيادة الرقعة الخضراء، مكافحة التلوث الصناعي، نشر التربية والتوعية والاعلام البيئي. ولم يحدد مجلس الوزراء العرب جدولاً زمنياً للتنفيذ، او أي تقديرات لتكاليف ذلك ومن سيدفع كم وكيف. ولولا أن برنامج الأمم المتحدة للبيئة ساعد مجلس الوزراء العرب بميزانية متواضعة لما بدأت أية خطوة من خطوات تنفيذ هذه البرامج، التي اقتصرت الأنشطة فيها على بعض الاجتماعات والدورات التدريبية والندوات واعداد عدد محدود من الدراسات وبعض التجارب الميدانية. وهو ما لا يعد، من الناحية العلمية، تنفيذاً للبرامج الثلاثة التي يتطلب تنفيذها ميزانيات ضخمة لم يتم توفير أي منها.
مرت تسعة اعوام على هذه الحال حتى قرب موعد الاعداد لمؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، الذي عقد في جوهانسبورغ في 2002. فتتابعت المؤتمرات بكثافة خلال 2000 ـ 2002 ليصدر كل منها اعلاناً او بياناً، يكرر في الغالب ما ورد في اعلانات اخرى. وفي 2001 تم اعداد تقرير عن "مستقبل العمل البيئي في الوطن العربي" ، لم يتطرق بالتحليل الى "ماضي" العمل البيئي في الوطن العربي، ما هي النجاحات وما هي الاخفقات، ولماذا تعثرت الخطى. والغريب ان التقرير اختزل، دون ذكر الأسباب، الـ 13 برنامجاً التي سبق ان وافق عليها مجلس الوزراء العرب في 1992 الى أربع مشكلات: المياه والأرض، الطاقة، اتساع الرقعة الحضرية، المناطق الساحلية. وفي شباط (فبراير) 2001 اجتمع الوزراء العرب واعتمدوا التقرير واصدروا "إعلان أبوظبي عن مستقبل العمل البيئي في الوطن العربي" (صدر ايضاً في القاهرة في تشرين الأول (اكتوبر) 2001 الاعلان الوزاري العربي عن التنمية المستدامة). تكرار في تكرار، من دون ان يرد في أي من هذه الوثائق أي شيء عن تكاليف وآليات التنفيذ.
ولزيادة الطين بلة، هرولت جامعة الدول العربية الى تقديم "مبادرة جامعة الدول العربية بشأن التنمية المستدامة في المنطقة العربية" الى مؤتمر جوهانسبورغ. تضمنت المبادرة سبعة مجالات هي: السلام والأمن، الاطار المؤسسي، الحد من الفقر، السكان والصحة، التعليم والتوعية والبحث العلمي ونقل التكنولوجيا، الاستهلاك والانتاج، العولمة والتجارة والاستثمار. وذكر ان هناك ثلاثة مجالات اعطيت الأولوية في التنفيذ هي برنامج الادارة المتكاملة للموارد المائية، وبرنامج تدهور الأراضي ومكافحة التصحر، وبرنامج الادارة المتكاملة للمناطق الساحلية. وان مقارنة ما جاء في هذه المبادرة مع ما تضمنه اعلان ابو ظبي وغير ذلك من اعلانات، يوضح لنا مدى الارتباك الذي يسود العمل البيئي في العالم العربي.
تصحّر وطاقة
خلال مؤتمر جوهانسبورغ تم طرح مبادرة ابوظبي العالمية للبيانات البيئية، وهي عبارة عن خطة طموحة لبناء قاعدة معلومات بيئية موحدة المعايير تساعد في اتخاذ القرارات الانمائية المتوازنة. ويحتاج انطلاق المبادرة الى مسح شامل مسبق لمصادر المعلومات البيئية الموجودة فعلاً، عالمياً واقليمياً ووطنياً، حتى يمكن التعرف على الثغرات ووضع اولويات لسدها بالتنسيق مع بنوك المعلومات المختلفة. وقد وضعت، في صيغاتها الأولى، أهدافاً واسعة جداً للعمل على نطاق عالمي. غير أنه نتيجة للنقاشات قرر القيمون على المبادرة اعتماد خطة واقعية، بالانطلاق من برنامج نموذجي في أبوظبي، وتوسيعه ليشمل دولة الامارات، قبل أن ينتقل الى المجال الإقليمي العربي والمستوى الدولي، في ضوء التجربة. وقد رصدت "هيئة أبحاث البيئة والحياة الفطرية وتنميتها" في أبوظبي مبلغ خمسة ملايين دولار للمبادرة، مما يعطيها فرصة كبيرة للتنفيذ الناجح بعد المراجعة واعتماد خطة العمل النهائية.
وفي شباط (فبراير) 2003، عقد في ابوظبي مؤتمر عن الطاقة والبيئة، وأبى الوزراء الذين حضروا المؤتمر (16 وزيراً من 12 دولة عربية) الا أن يصدروا إعلاناً بعنوان "إعلان ابوظبي عن الطاقة والبيئة"، ويا ليتهم ما فعلوا ذلك. فقد جاء الاعلان ضحلاً يحوي اخطاء علمية وسياسية فادحة. لقد خلط الاعلان خلطاً معيباً بين البرامج النووية العسكرية والمحطات النووية لتوليد الكهرباء. فمنطقة الشرق الأوسط كلها ليس فيها محطة واحدة لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية، انما فيها مفاعل (او مفاعلات) لأغراض عسكرية، وهو موضوع بعيد كل البعد عن سياق مؤتمر عن الطاقة والبيئة، وما كان يجب الزج بهذا الموضوع في الاعلان بهذه الطريقة الخاطئة علمياً وسياسياً. كذلك طالب الاعلان بمساعدة البلدان العربية للتعامل مع قضية تغير المناخ، وخصص جزءاً كبيراً عن بروتوكول كيوتو. ويبدو أن احداً لم يقرأ ما جاء في تقرير اللجنة الحكومية المعنية بتغير المناخ (IPCC) الصادر في العام الماضي عن ان منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا لن ترتفع فيها درجة الحرارة بصورة عامة ولن تحدث فيها اضرار تذكر، بل ان بعض المناطق قد يستفيد من زيادة سقوط الأمطار عليه. بالاضافة الى هذا كيف يسهب الاعلان في الحديث عن بروتوكول كيوتو علماً بأن هناك أربع دول عربية فقط هي التي أقدمت على التوقيع او التصديق على البروتوكول حتى وقت صدور الاعلان (وحتى الآن)، وهي مصر والأردن وتونس والمغرب. واذا كان الوزراء حريصون على بروتوكول كيوتو لماذا لم يشجبوا انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من البروتوكول في عام 2001؟
لقد حدث تحول في العالم، من الحديث عن التلوث البيئي الى الحديث عما سمي بالتنمية المستدامة. وهناك شبه اجماع كامل على ان التنمية المستدامة تستند على ثلاثة اعمدة: الموارد الطبيعية والبيئة، والتنمية الاقتصادية، والتنمية الاجتماعية. وكنا نتوقع ان تعكس الاعلانات التي صدرت، خاصة في الأعوام الأخيرة، هذا التغير في الفكر، ولكن هذا لم يحدث. فمثلاً، صدر في 1993 إعلان عمان الثاني بشأن السكان والتنمية في العالم العربي (الإعلان الأول صدر في 1984)، في اطار الاعداد لمؤتمر الأمم المتحدة عن السكان والتنمية الذي عقد في القاهرة في 1994. وقد أرسى اعلان عمان 18 مبدأ للسياسات السكانية، وحدد خمسة أهداف لذلك، وأوصى بـ 82 توصية منها 9 توصيات تتعلق بالسكان والتنمية والبيئة، لم يرد ذكر أي منها في اعلانات الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة، التي لم تشر ايضاً، من قريب او بعيد، الى اوضاع التنمية البشرية المتردية في العالم العربي. وبهذا اغفل سوبرماركت الاعلانات أن التنمية المستدامة هي بالإنسان، وللإنسان.
إننا لا نلوم الجهات المسؤولة عن اعداد واصدار هذه البيانات فقط، وانما نلوم وبدرجة أكبر وسائل الاعلام المختلفة المرئية والمسموعة والمقروءة التي اقتصرت مهمتها على نقل اخبار هذه المؤتمرات والاعلانات الصادرة عنها، دون أي تحليل موضوعي لها، يحدد بوضوح اسباب اصدارها وتداعيات ذلك على الانسان العربي. كما نلوم، وبالدرجة نفسها، المنظمات العربية غير الحكومية المهتمة بشؤون البيئة التي يبدو ان اهتماماتها قد تركزت في الغالب على الحصول على بعض المشروعات من "الجهات المانحة"، وعلى حضور حفلات الكوكتيل في المناسبات المختلفة.
وأخيراً، يبدو أن حكمة القرود الثلاثة قد أصابت أصحاب الرأي الحر في مسائل البيئة: لا أسمع شيئاً عن التلوث، لا أرى شيئاً من التلوث، ولا أتكلم عن التلوث. فالتزموا الصمت، وفي رأينا هذه خيانة لأجيال المستقبل.
الدكتور عصام الحناوي أستاذ في المركز القومي للبحوث ـ القاهرة
كادر
إعلانات... إعلانات
خلال السنوات الثلاث الأخيرة فقط، أحصينا 12 إعلاناً عربياً عن قضايا البيئة والتنمية:
- اعلان جدة حول المنظور الاسلامي للبيئة (2000)
- اعلان الرباط حول فرص الاستثمار من اجل التنمية المستدامة (2001)
- اعلان ابوظبي عن مستقبل العمل البيئي في الوطن العربي (2001)
- الاعلان الوزاري العربي عن التنمية المستدامة (القاهرة 2001)
- مقررات منتدى عمان الدولي للبيئة والتنمية المستدامة (2001)
- اعلان ابوظبي للتنمية الزراعية ومكافحة التصحر (2002)
- الاعلان الاسلامي حول التنمية المستدامة (2002)
- اعلان دبي حول الادارة المتكاملة للموارد المائية في المناطق الجافة (2002)
- اعلان مسقط حول مؤتمر عمان الدولي لتنمية وادارة القنوات المائية (2002)
- مبادرة ابوظبي العالمية للمعلومات البيئية (2002)
- مبادرة جامعة الدول العربية للتنمية المستدامة في المنطقة العربية (2002)
- اعلان ابوظبي عن الطاقة والبيئة (2003)