Friday 22 Nov 2024 |
AFED2022
 
AFEDAnnualReports
Environment and development AL-BIA WAL-TANMIA Leading Arabic Environment Magazine
المجلة البيئية العربية الاولى
 
مقالات
 
راغدة حداد اغتصاب حضارة  
أيار (مايو) 2003 / عدد 62
 "بين القطع الأثرية المسروقة من متحف بغداد مكتبة بابلية تضم بين ألواحها قصة الخلق والطوفان بما يشبه الى حد بعيد ما ورد في العهد القديم". هذا ما أكده بنيامين فوستر، أستاذ التاريخ الأشوري والأدب البابلي والقيِّم على مجموعة الآثار البابلية في جامعة يال الأميركية. فهل يكمن السر هنا؟ خاصة اذا علمنا أن هذه الألواح سبقت نص العهد القديم بآلاف السنين، ودراستها تكشف الكثير من المعتقدات التي تستند اليها الفكرة الصهيونية. هل هي مجرد سرقة أم محاولة لاخفاء التاريخ؟
المتحف الوطني في بغداد، الذي كان يضم كنوزاً أثرية من أقدم حضارات العالم، سرقت محتوياته أو حطمت في موجة نهب جنونية عمت العاصمة العراقية بعد انهيار نظام صدام حسين. وقد وصف رئيس قسم الآثار القديمة في العراق جبار هليل نهب المتحف بانه "جريمة العصر". وما أصاب المتحف أصاب المكتبة الوطنية ومكتبة الأوقاف في بغداد أيضاً، حيث نهب وأحرق نحو مليون طن من الوثائق والمخطوطات النادرة. الحريق التهم الوثائق العثمانية، بما فيها الأرشيف الملكي القديم، ومراسلات العراق مع الشريف حسين في مكة قبل الثورة العربية الكبرى، والأرشيف الحديث وفيه وقائع ووثائق حربي الخليج الاولى والثانية. واعتبر علماء دوليون ما حصل كارثة توازي حرق مكتبة الاسكندرية قبل ألفي سنة.
وكتب روبرت فيسك في صحيفة "الانديبندنت" عن مشاهداته: "رأيت الناهبين بأم عيني... لم يحرك الأميركيون ساكناً. عاد التاريخ الى نقطة الصفر مع تدمير محتويات متحف الآثار وإحراق الأرشيف الوطني والمكتبة القرآنية. اندثرت هوية العراق الثقافية بلمح البرق. لكن لماذا؟ من أشعل النار ولأي هدف دمر هذا الارث؟"
الرئيس الفرنسي جاك شيراك اعتبر نهب آثار العراق "جريمة ضد الانسانية". ووصف الخبراء سماح القوات الأميركية للصوص بالنهب والتخريب بـ"جريمة العصر الثقافية".
في متاهات السوق السوداء
يضم العراق، في متاحفه وفي أكثر من 10 آلاف موقع أثري، كميات هائلة من القطع الفنية التي تشهد على فصول عريقة من تاريخ "مهد الحضارات". كان هناك أكثر من 170 ألف قطعة أثرية في متحف بغداد، يعود تاريخ بعضها الى أكثر من 7000 عام. وبين المنهوبات، كما يقول الخبراء، ألواح من شريعة حمورابي من الألف الثاني قبل الميلاد، وأخرى من ملحمة جلقامش، والقيثارة الذهبية السومرية من الألف الرابع قبل الميلاد، وتمثال الوزير الأول دودو من الألف الثالث، ورقيم للرياضيات سبق فيثاغوراس بـ1500 عام، وتمثال ربة الجمال والخصب من الألف الثالث قبل الميلاد، وخنجر ذهبي من الألف الثالث، وعربة بابلية من الألف الثاني صنعت في أوروك، وآنية زهور مرمرية من أوروك يرجع تاريخها الى 3500 عام قبل الميلاد. وفقدت 80 ألف لوحة من الكتابة المسمارية، بعضها لم يُترجم بعد.
اللصوص قطعوا رؤوس التماثيل الضخمة التي لم يتمكنوا من إخراجها كاملة. ويعتقد الخبراء ان معظم المسروقات ستكسر لتباع مجزأة كي لا يتعرف عليها أحد. معظم القطع الأثرية المسروقة ذهبت الى غير رجعة. ويتردد أن بعضها ظهر بالفعل معروضاً للبيع في دول اوروبية. وبما أن السوق التقليدية للآثار مراقبة بشكل كثيف، فلا بد من أن يتم بيع القطع المسروقة في السوق السوداء، حيث العديد من البائعين والمشترين لا يهتمون بمصدرها بل باقتنائها. عجب أن تزدهر في الشهور والسنوات المقبلة الأسواق السوداء الدولية لتجارة التحف الشرقية، خصوصاً عبر إسرائيل.
أعمال النهب والتخريب طالت المتاحف والمواقع الأثرية في جميع أنحاء العراق. واعتبرها الرئيس الفرنسي جاك شيراك "جريمة ضد الانسانية". وقد اتضح حصول نوعين من عمليات النهب: نهب منظم ونهب عشوائي. وأكد ماغواير غيبسون، الاستاذ في جامعة شيكاغو ورئيس بعثة الآثار الأميركية في بغداد، أن نهب متحف بغداد كان عملية "مخططاً لها... تم تدبيرها في الخارج، ونفذتها عصابات منظمة كانت تعرف ما تبحث عنه"، مضيفاً أن هذه العصابات "كانت تسعى منذ 12 عاماً لتدمير المواقع الأثرية حتى تتمكن من إخراج قطع مهمة بطريقة غير شرعية من البلد". وحذر مدير الاونيسكو في الأردن ندييه فول من أن "تهريب القطع الأثرية من العراق ممارسة قديمة جداً ومنظمة جداً. ودعا القوات الأميركية والبريطانية الى ايلاء هذه الناحية اهتماماً خاصاً باعتبار أن "السارقين سيحاولون ولا شك بيع الأغراض التي سرقوها لهذه القوات".
أصابع الاتهام
بعد أيام من عمليات النهب، عقد في مقر الاونيسكو في باريس اجتماع حضره 30 خبيراً دولياً، لبحث إجراءات عاجلة لانقاذ الارث الحضاري العراقي. ودعا المجتمعون القوات الأميركية والبريطانية الى احترام مبادئ اتفاقية لاهاي التي أبرمت عام 1954 ووقعتها حتى الآن 103 دول، وهي تنص على حماية الممتلكات الثقافية في زمن النزاعات المسلحة. لكن المفارقة المريرة هي أن الولايات المتحدة وبريطانيا، المعنيتين مباشرة، لم توقعا اتفاقية لاهاي!
صدر عن اجتماع الخبراء الدوليين ست توصيات هي: تولي القوات الموجودة على الأرض فوراً حماية المتاحف والمكتبات والوثائق والنصب والمواقع الأثرية، والمنع الفوري لتصدير أي قطعة أثرية أو عمل فني أو كتاب أو وثيقة مصدرها العراق، والمنع الفوري للاتجار الدولي بأي قطعة تعود الى الارث الثقافي العراقي، وإطلاق نداء لاعادة القطع المسروقة، وانشاء لجنة استطلاع تتعاون مع الاونيسكو لتقدير حجم الأضرار والخسائر الثقافية، وتسهيل الجهود الدولية لمساعدة المؤسسات الثقافية في العراق.
وكان أمين عام الاونيسكو كويشيرو ماتسورا دعا الى إنشاء صندوق دولي للتراث العراقي، وشرطة محلية للتراث تكلف السهر على المواقع والمؤسسات الأثرية والثقافية في كل الاراضي العراقية، وإصدار قرار في مجلس الأمن يفرض حظراً لفترة محددة على الاتجار بالآثار العراقية. وناشد سلطات الدول المتاخمة للعراق والجمارك في بلدان العالم منع استيراد وتصدير ونقل ملكية التحف العراقية بطرق غير مشروعة. ودعا البوليس الدولي (الانتربول)، ومنظمة الجمارك العالمية، والاتحاد الدولي لجمعيات تجار التحف الفنية والأثرية، ومجلس المتاحف الدولي، والمجلس الدولي للمعالم والمواقع الأثرية، وكبار التجار والقيمين على سوق القطع الفنية، للتعاون مع الاونيسكو في "تعبئة شاملة تحول دون وصول المسروقات الى جامعي التحف".
عشرات المنظمات الأثرية الأميركية ومنظمة الاونيسكو أشارت بأصابع الاتهام الى المسؤولين الأميركيين، خصوصاً لأنها نبهتهم الى ما سيحصل قبل أشهر من بدء الحرب. وكان ماغواير غيبسون ضمن مجموعة التقت مسؤولين من وزارة الدفاع (البنتاغون) عدة مرات وقدمت لهم قائمة بمواقع أثرية ومواقع أخرى تتعين حمايتها، خصوصاً المتحف الوطني العراقي في بغداد. قال: "حذرناهم من أعمال النهب منذ البداية، وأكدوا أن هذه المواقع ستصان". وأضاف: "هذا يشبه مثلاً كما لو وقف جنود أميركيون على مسافة 70 متراً من متحف القاهرة يراقبون الناس وهم يذهبون بكنوز مقبرة الفرعون توت عنخ أمون أو ينقلون المومياوات على عربات تجرها الدواب".
وقال مؤيد سعيد الدامرجي مستشار وزير الثقافة السابق واستاذ علم الآثار في جامعة بغداد: "كانت الدبابات الأميركية متمركزة أمام المدخل الرئيسي لمتحف بغداد عندما قام اللصوص بنهب محتوياته... طلبنا المساعدة من الجنود فأجابونا أن ليست لديهم تعليمات بالتدخل".
ترى، كيف تقف الولايات المتحدة وبريطانيا لو نهب اللصوص المتحف البريطاني أو أحرقوا مكتبة الكونغرس؟ من المفارقات أن نيويورك تحتضن هذا الشهر معرضاً ضخماً لفنون بلاد ما بين النهرين.
لا يمكن الادعاء أن ما حصل كان سابقة لا يمكن تلافيها. فقد كانت للقوات الأميركية تجارب في هذا المضمار، حين أدركت أن الارث الحضاري سيكون في خطر عند حصول غزو وعملت لتدارك هذا الخطر. ففي ربيع 1943، عندما كان الانتصار على ألمانيا النازية ما زال بعيد المنال، أوجد الجيش الأميركي "قسم الآثار والفنون والأرشيفات". وعمل مؤرخو الفن والباحثون التابعون للجيش في أنحاء أوروبا لمنع أي اعتداء على الآثار الفنية والمواقع التراثية وحمايتها بعد توقف النزاعات. وكان أفراد هذا القسم يرافقون العسكر الى المناطق التي مزقتها المعارك للتفتيش على تحف وأعمال فنية استولى عليها النازيون، وإعادتها الى البلاد التي نهبت منها.
في حين اكتفى وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد بالاعراب عن "قلق" بلاده بشأن نهب متحف بغداد، استقال رئيس اللجنة الاستشارية الرئاسية للشؤون الثقافية في الولايات المتحدة مارتن سوليفان استنكاراً لنهب المتحف الذي اعتبره "مأساة كان يمكن توقعها ومنعها لولا تراخي أمتنا"، وأيضاً لأنه "لا يستطيع أن يتكلم بحرية" لكونه موظفاً حكومياً. واتهم القوات الأميركية التي استخدمت أسلحتها لحماية وزارة الطاقة وحقول النفط العراقية بالتقصير عن تأمين حماية الملكية الثقافية. وهو قال في رسالة استقالته الى الرئيس بوش: "أنتم وإدارتكم اخترتم شن عمل وقائي، وقررتم الحرب باختيار الوقت والدوافع، في خيار كان ينبغي أن يواكبه واجب توقَُع ومحاولة منع أعمال النهب والتدمير". وقال غاري فيكان، عضو اللجنة الاستشارية الرئاسية الذي استقال هو أيضاً: "نحن بالتأكيد نعرف قيمة النفط، لكننا بالتأكيد لا نعرف قيمة التحف التاريخية". وكانت القوات الأميركية والبريطانية سارعت الى تضييق الحماية على حقول النفط الثمينة فور بدء الحملة العسكرية على العراق، وطوقت دباباتها وزارة النفط وجعلتها قلعة حصينة.
أرض الأوائل
العراق مهد الحضارات. فمنذ نهاية الألف الخامس قبل الميلاد كانت بلاد ما بين النهرين منشأ إبداعات تقنية وثقافية أغنت البشرية. هنا كانت بداية الزراعة والحياة المستقرة، حيث تضافرت عوامل جغرافية ومناخية مميزة أثمرت فيضاً زراعياً كان سبب نشوء المجتمعات المتطورة، واختراع الكتابة، وتأسيس أول مستوطنات حضرية وأول شرائع قانونية. وفي التاريخ الأحدث، كانت بغداد عاصمة الخلافة العباسية ومركزاً سياسياً وثقافياً للعالم الاسلامي.
آلاف المواقع الأثرية في العراق تشهد على أمجاد حضارات متعاقبة منذ الألف الخامس قبل الميلاد، الذي يعتبر الحد الفاصل بين حقبات ما قبل التاريخ وحقبة التاريخ البشري، الى الحضارات السومرية والأكادية والبابلية والأشورية والكلدانية والفارسية والساسانية والاغريقية والرومانية والاسلامية. ومن أبرز هذه المعالم مدينة أور مسقط رأس ابراهيم الخليل، ومدينة بابل وبرجها الاسطوري، ومدن نينوى وأشور وسامراء. مدينة الحضر، التي تحمل بصمات اغريقية ورومانية وشرقية، هي الموقع العراقي الوحيد على قائمة الاونيسكو للتراث العالمي. وهناك سبع مدن أخرى مرشحة للادراج على هذه القائمة، هي الموصل ونمرود وأشور وسامراء والأخيضر والوسيط وأور.
في غمرة عمليات نهب كنوز العراق، تناقلت الصحف العالمية كارثة سرقة خاتم وسوار كانا يخصان مارلين مونرو، من معرض في لندن كرّس لأسطورة هوليوود. قامت القيامة وتحركت الشرطة على الفور ولن تقعد قبل العثور على المسروقات. أما في مهد الحضارة، فقد نهبت كنوز التاريخ على مرأى ومسمع من عشرات آلاف الضباط والجنود الأميركيين والبريطانيين، مع أنه شتّانَ ما بين جواهر مارلين وشريعة حمورابي.
 
 
 
 

اضف تعليق
*الاسم الكامل  
*التعليق  
CAPTCHA IMAGE
*أدخل الرمز  
   
 
بندر الأخضر صديق البيئة
(المجموعة الكاملة)
البيئة والتنمية
 
اسأل خبيرا
بوغوص غوكاسيان
تحويل النفايات العضوية إلى سماد - كومبوست
كيف تكون صديقا للبيئة
مقاطع مصورة
 
احدث المنشورات
البيئة العربية 9: التنمية المستدامة - تقرير أفد 2016
 
ان جميع مقالات ونصوص "البيئة والتنمية" تخضع لرخصة الحقوق الفكرية الخاصة بـ "المنشورات التقنية". يتوجب نسب المقال الى "البيئة والتنمية" . يحظر استخدام النصوص لأية غايات تجارية . يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير في النص الأصلي. لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر يرجى الاتصال بادارة المجلة
©. All rights reserved, Al-Bia Wal-Tanmia and Technical Publications. Proper reference should appear with any contents used or quoted. No parts of the contents may be reproduced in any form by any electronic or mechanical means without permission. Use for commercial purposes should be licensed.