منذر داغر
ماذا تبقَّى من غابة الأرز الكبرى التي كانت تزيِّن جبال لبنان والتي تغنى الملوك والشعراء منذ فجر التاريخ بمحاسنها وبعبق الطيوب التي كانت تفوح منها؟ تلك الغابة العظمى، فاتنة الشعوب وشاغلة الحضارات على مرِّ العصور، بقيت منها تجمعات منعزلة، متباعدة، متناثرة على امتداد السلسلة الغربية لجبال لبنان.
غابة أرز تنورين هي واحدة من تلك التجمعات. انها تشكل أكبر موئل منفرد لأشجار الأرز في لبنان، إذ تبلغ مساحتها نحو 600 هكتار، أي ربع مساحة هذه الغابات مجتمعة، وتعدّ اشجارها نحو 400 ألف شجرة. هذه الغابة هي ملك مشترك لبلدات تنورين وحدث الجبة ونيحا وقنات وكفور العربي والبطريركية المارونية. أعلن الجزء التابع منها لبلدة تنورين محمية طبيعية بموجب قانون صدر عام 1999، نظراً لكونه ملكاً مشاعاً للبلدة. أما المساحة المتبقية فتخضع لقانون حماية الغابات الصادر عام 1996، نظراً لكونها مؤلفة من مجموعة ملكيات خاصة يصعب تحويلها الى محمية طبيعية. تدير المحمية لجنة مؤلفة من ممثلين عن وزارتي الزراعة والشؤون البلدية، وبلديات القرى المعنية، والجمعيات البيئية المحلية، ومجموعة اختصاصيين بشؤون الغابات، وهي تخضع لوصاية وزارة البيئة.
تحدّ هذه الغابة من الشمال بلدتا حدث الجبة وقنات، ومن الغرب قريتا نيحا وكفور العربي، ومن الجنوب دسكرتا عين الراحة ورأس بنيّة التابعتان لبلدة تنورين، ومن الشرق جرود تنورين وحدث الجبة. ويتراوح ارتفاعها عن سطح البحر بين 1200 و1850 متراً، وتبعد حوالى مئة كيلومتر عن العاصمة بيروت وثلاثين كيلومتراً عن مدينة طرابلس.
أرض الغابة صخرية كلسية تكسوها طبقة "دولميتية" رملية حمراء غنية بالمواد العضوية، حيث سماكة الدبال تتراوح بين 5 سنتيمترات و15 سنتيمتراً. ويبلغ معدل كثافة الغطاء النباتي حوالى 80 في المئة، معظمه (90 في المئة) من أشجار الأرز اللبناني التي تتراوح أعمارها بين سنة وثمانية قرون، يصل علو بعضها الى 40 متراً ويتجاوز قطر العديد منها 14 متراً. أما النسبة الباقية فتتألف من أشجار وشجيرات نادرة مرافقة للأرز، أهمها اللزاب والعرعر والقيقب الطورسي والحرموني والملول والسنديان والسنديان الأرزي والتفاح البري والخوخ البري والاجاص البري والعنب البري وغيرها.
تتراوح رطوبة الهواء في غابة تنورين بين 50 في المئة صيفاً و80 في المئة شتاء، ومتوسط الحرارة بين 3 درجات مئوية في الشتاء و25 درجة في الصيف. تهطل الأمطار بمعدل 1000 مليمتر سنوياً، وتهطل الثلوج شهرين ونصف شهر فتغطي معظم أراضي الغابة لمدة أربعة أشهر في السنة، بين كانون الأول (ديسمبر) ونيسان (أبريل).
تمتاز هذه الغابة بثروة نباتية غنية التنوع نظراً لكبر مساحتها وتدرّج ارتفاعاتها ورطوبة سطحها وخصوبة تربتها. وقد أحصى خبراء علم النبات مؤخراً، خلال مدة زمنية قصيرة نسبياً وعلى مساحة سدس الغابة، نحو 400 صنف نباتي، منها العديد من النباتات الطبية والعطرية والغذائية والنادرة والمهددة بالانقراض. ويقدّر هؤلاء الباحثون، الذين يقومون حالياً بدراسة الغطاء النباتي للغابة، وجود أكثر من ألف صنف نباتي في أرجائها. كما أنها تؤوي الكثير من الحيوانات البرية، والزواحف، والطيور المستوطنة والمهاجرة، والفراشات والحشرات المتنوعة التي تنتظر من يعمل على تصنيفها. وتبذل جهود لتمويل دراسة علمية تتناول هذه الكائنات، كما يحصل حالياً بالنسبة للثروة النباتية.
تشكل غابة تنورين مَعْلَماً طبيعياً فريداً، يجمع بين أشجار أرز دهرية تتحدى الزمن متجاورة مع تماثيل صخرية "مزروعة" في كل ناحية أبدعت عوامل الطبيعة في نحتها على مرّ العصور. وهي تفترش بساطاً محبوكاً من مئات الأنواع من الزهور التي تسحر النظر بألوانها. وتشرف من الشمال والجنوب على واديين سحيقين خلابتين هما وادي قاديشا ووادي عين الراحة، تحكي مغاورهما ومعابدهما قصص شعوب لجأت الى أنحائها العاصية لتعيش آمنة وتمارس معتقداتها بحرية وسلام.
تتناغم هذه الغابة مع جوارها في تجمع فريد لمعالم طبيعية وحضارية متميزة، يمكن إذا ما أحسن استغلالها، أن تشكل محجّة سياحية مميّزة.
الدكتور منذر داغر باحث وأستاذ فيزياء في كلية العلوم بالجامعة اللبنانية، وناشط بيئي، ورئيس تجمع أصدقاء أرز تنورين.
|