المياه قضية جوهرية في أفغانستان. فهذا البلد الذي تبلغ مساحته حوالى 650 ألف كيلومتر مربع يحصل على أقل من 300 مليمتر من المطر كل سنة، ويتقاسم كل أحواض أنهاره مع بلدان مجاورة. والنزاعات التي عصفت به طوال 23 سنة خربت البنى التحتية للمياه. وفاقمت الوضع موجة من الجفاف الحاد ضربت البلاد خلال السنوات الخمس الماضية. وحالياً لا يستفيد من شبكة المياه الا 17 في المئة من سكان الأرياف و38 في المئة من سكان المدن، وهذه من أدنى المستويات في العالم.
لكن الوضع لا ينذر بكارثة، لأن كمية المياه المتوافرة للأفغان تفوق ما هو متوافر لكثيرين. فالاستهلاك هو في حدود 1700 متر مكعب للفرد، في حين أن المتوافر هو حوالى 3200 متر مكعب للفرد.
هذا المورد المائي يمكن ادارته بسهولة، جزئياً على الأقل، عن طريق اصلاح شبكة الكهاريز القائمة، وهي أنفاق مائية قديمة مبنية تحت سطح الأرض وتعمل بقوة الجاذبية، فتنقل المياه الجوفية دونما حاجة معدات وأجهزة ميكانيكية. ويقوم هذا النظام على حفر بئر عمودية للوصول الى المياه الجوفية على عمق حوالى 30 متراً، وبدلاً من سحب المياه الى السطح من موقع البئر، يتم حفر نفق أفقي بانحدار طفيف لجر المياه الى السطح على بعد عدة كيلومترات. ومن خلال اقامة عدد من شبكات الأنفاق هذه، يمكن تزويد مساحات كبيرة بالمياه لأغراض الري والخدمات المنزلية.
من بلاد فارس حتى الصين واسبانيا
شبكة الكهاريز هي أقدم نظام هندسي في العالم ما زال قيد التشغيل. فقد نشأ هذا النظام منذ نحو 3000 سنة في بلاد فارس (ايران حالياً) حيث يسمى "قناة"، وامتد شرقاً على طول "طريق الحرير" الى الصين وغرباً الى شمال افريقيا وقبرص وجزر الكناري وحتى اسبانيا.
استخدم الفلسطينيون منذ 2000 سنة وحتى 1948 نظام القنوات هذا مكيفاً مع طبيعة البلاد لري بساتين الزيتون والبرتقال والكرمة والاوركيديا (السحلبية) وفي أواسط القرن العشرين، كان لا يزال في ايران نحو 22,000 قناة تشكل شبكة تحت الأرض يزيد طولها على 273,000 كيلومتر، وتزود 75 في المئة المياه التي تحتاجها البلاد، بما في ذلك إمداد مليون نسمة في طهران بكامل حاجتهم. وما زالت أنظمة الكهاريز شغالة في ايران وأفغانستان والصين وباكستان والعراق وشبه الجزيرة العربية.
في أفغانستان، ما زالت 6500 شبكة من الكهاريز عاملة في 20 اقليماً من اقاليم البلاد الـ27. وحتى أواخر الثمانينات، كانت تروي نحو 170,000 هكتار، وكانت 10 أقاليم تعتمد عليها لسد أكثر من 40 في المئة من حاجتها الى الري. ولكن بعد سنوات النزاع الطويلة لم تعد الشبكة في حالة جيدة، وأصبح معظمها بحاجة الى اصلاح. كما لحقت أضرار كبيرة بقنوات ري سطحية وآبار قليلة العمق تتغذى من ينابيع طبيعية ومياه جوفية، تروي معاً نحو 367,000 هكتار، اضافة الى قنوات ري أكثر حداثة. والحصيلة هي أن المساحة المروية حالياً في أفغانستان نصف ما كانت عام 1980. وهذا ساهم في عدم الاستقرار الغذائي المستمر في تعريض حياة الكثير من السكان للخطر.
إعادة تأهيل الكهاريز
مع عودة نحو مليون نازح الى أفغانستان منذ آذار (مارس) 2002، ارتفع الضغط على المياه. فالزيادة المفاجئة في الطلب، وانخفاض كميات المياه الجوفية المتاحة بسبب أعمال الحفر وانهيار هيكليات المؤسسات، يلقيان بثقلهما على نظم ادارة المياه. ويعتبر تزويد الناس بالمياه مهمة عاجلة وأولوية قصوى في الجهود الدولية التي تبذل حالياً لاعادة بناء أفغانستان. وهناك خطط لاستخدام مساعدات خارجية من أجل "تطوير" شبكات المياه في البلاد. لكن ما لم تستغل هذه الأموال على الوجه الصحيح، فان البرامج المرتقبة يمكن أن تضر أكثر مما تنفع.
لا يجوز التعامل مع ادارة المياه كاجراء طارئ، فهي تحتاج الى رؤية واستراتيجية على مستوى وطني. والاستثمار في ادارة المياه يجب أن يخلق فرص عمل على الفور، ويحسن توافر المياه والأمن الغذائي، ولا يضر بالنظم الايكولوجية، ويضمن تقاسماً عادلاً للمياه.
يمكن تجديد شبكة الكهاريز الأفغانية برمتها بكلفة 20 مليون دولار. وهذا مبلغ زهيد مقارنة بالـ4,5 بلايين دولار التي سبق التعهد بتخصيصها كمعونة لأفغانستان، ومن شأنه أن يخلق فرص عمل في الأرياف. وسوف تحسن الاصلاحات على الفور معيشة ملايين الفقراء الريفيين.
ولشبكة الكهاريز ميزة اضافية تتمثل بعدالة التوزيع. فكل مزارع يعتمد على مصدر مائي يقع على بعد كيلومترات في أعلى المجرى، وهو في الوقت نفسه مصدر المياه لمزارع في أسفل المجرى. وتدير المؤسسات الأهلية صيانة الكهاريز وتقاسم المياه، مما يعني أن الهيكليات المؤسسية الوطنية لا تحتاج الى بناء فوري.
وشبكة الكهاريز مستدامة أيضاً بطبيعتها، اذ تتكيف مع مستوى المياه الجوفية المتوافر. فاذا هبط المستوى بسبب انخفاض مياه الأمطار، تهبط أيضاً كمية المياه الجارية عبر الشبكة. وبهذه الطريقة، فان الخزانات الجوفية الحيوية التي تعتمد عليها أيضاً الينابيع والآبار القليلة العمق لا تستنزف خلال فترات الجفاف.
السلام والأمن المائي
ان لاصلاح شبكة الكهاريز فوائد واضحة، لكن المؤسف أن هناك ميلاً الى تركيز مساعدات التنمية على البنى التحتية المائية الكبرى، مثل السدود والتحويلات والآبار العميقة، بدلاً من النظم التقليدية. صحيح أن أفغانستان لا يمكن أن تعتمد فقط على النظم القائمة، فهي ستحتاج، مثلاً، الى نظم لتخزين المياه. لكن أي بنية تحتية واسعة النطاق يجب أن تنفذ بطريقة لا تضر بالنظم الايكولوجية ولا تحرم الناس من ادارة الشبكات القائمة.
حفر الآبار العميقة يثير القلق بنوع خاص. فقد يكون في المدى القصير وسيلة سريعة لامداد مياه الشرب والري، لكن الحفر العشوائي سيؤدي الى هبوط مستوى المياه الجوفية وجفاف شبكة الكهاريز والآبار القليلة العمق والينابيع. وهذا سيؤثر على ملايين الناس، وسيضيع جميع الاستثمارات السابقة في هذه النظم، مالية كانت أم بشرية. وقد بدأ اعتماد تكنولوجيا الحفر يخلّ بمبادئ ادارة المياه في المجتمع الأفغاني محدثاً صراعات جديدة.
مستقبل السلام والوئام في أفغانستان يعتمد كثيراً على الادارة الصحيحة للمياه. والحكومة الانتقالية الحالية مدركة لذلك، وقد عبرت عن مخاوفها في مؤتمر "ادارة الموارد المائية والتنمية في أفغانستان" الذي عقد قبل أشهر في كابول.
وتبنّي الادارة المائية المستدامة سيتيح للحكومة والمنظمات الدولية فرصة فريدة لاجتناب الأخطاء التي ارتكبت في بلدان نامية أخرى. فقد وصف الخبراء، حتى الاسرائيليون منهم، انهيار نظام القنوات في فلسطين بأنه مأساة بشرية وايكولوجية وحضارية. ويؤمل ألا تصبح ألوف سنوات الاستثمار الاجتماعي والعمالي في أفغانستان شيئاً من التاريخ.
الدكتور بكشام غوجا كـان فـي عداد بعثة مشتركة لليونيسف والصندوق العالمي لحمـاية الطبيعة (WWF) أجرت عام 2002 تقييماً لوضع ادارة الموارد المائية في أفغانستان.