في عالم يتعطش الى المياه، لا يمكن أخذ مطالبة لبنان بحقوقه المائية على محمل الجد ما دامت مياهه مهدورة على الطرقات وفي البحر. لقد وضعت مؤخراً خطة رسمية لعشر سنوات لتأمين موارد إضافية بالتخزين السطحي والجوفي، وسوف تصرف معظم ميزانيتها لإقامة سدود كبيرة مكلفة. لكن خبراء كثيرين يؤكدون أفضلية حقن مياه الأمطار في الأحواض الجوفية، بما فيها حتى مياه سطوح الأبنية، مع إقامة بحيرات جبلية محلية وسدود صغيرة متدرجة على الأنهار. وثمة من ينادي أيضاً باستيراد "مياه غير منظورة".
في ما يأتي عرض لواقع "ذهب لبنان الأبيض" وما يتم تداوله من سبل للحفاظ عليه.
هذا الشهر يبدأ تفريغ فائض المياه من بحيرة القرعون في البحر، بعد موسم أمطار غزيرة للسنة الثانية. والمفارقة انه في مقابل المياه المهدورة، يعاني اللبنانيون شحاً في إمدادات المياه، التي تصلهم بالقطارة من خلال الشبكة العامة، بضع ساعات في اليوم لأيام معدودة في الأسبوع. لبنان يطالب العالم بدعم حقه في مياهه. لكن هذه المطالبة ستبقى ضعيفة ما لم يتوقف هدر المياه المتوافرة.
الأرض في لبنان فقدت نفاذيتها، ومياه الأمطار "تكرج" اليوم الى البحر، اذ لم يعد هناك تراب يتشربها ولا أشجار على المنحدرات المتصحرة لتثبت التربة. وكل سنة تتسبب الفيضانات والسيول في خسائر مادية فادحة. بيروت اليوم قلعة اسمنت وأسفلت، من الأبنية والطرقات، مثلما هي حال معظم المنطقة الساحلية التي تفصل بر لبنان عن البحر المتوسط. فأينما اتجهت يطالعك عمران متواصل، من العاصمة الى الشمال أو الجنوب أو الجبل. وعلى امتداد الساحل، الذي كان خطاً طويلاً من السهول والبساتين، اختفت حتى لافتات القرى التي أصبحت موصولة. وقد تكون بعض مبادئ التخطيط المديني ظاهرة في قضاء الشوف ومناطق قليلة أخرى، حيث لا يجد العابر بيوتاً بين القرى، بل فواصل طبيعية كان يمكن أن تشترى بسهولة للاعمار لو سمح ببيعها.
وباتت مياه آبار المدن والبلدات الساحلية مالحة طوال السنة، اذ يُضخ منها أكثر من طاقة تجددها، فتدخل اليها مياه البحر. يقول الدكتور موسى نعمه، أستاذ الموارد الأرضية والمائية في كلية الزراعة في الجامعة الأميركية في بيروت: "الضخ يشبه الحساب المصرفي: اذا صرفت أكثر من المدخول يأتيك إنذار، والملوحة هي الانذار".
بلد فقير مائياً
أجريت دراسات كثيرة عن كميات المياه في لبنان، لكنها كلها مبنية على بيانات احصائية قديمة من فترة ما قبل العام 1975. فقبل بدء الأحداث كان هناك نحو 160 محطة لرصد الأمطار والرياح، معظمها قرب المخافر يديرها رجال الدرك (الشرطة). فلم يبقَ منها الا 10 محطات. وليست هناك آلات لرصد عمق الثلج على الجبال، وهو بمثابة المخزون المائي السطحي. ولعل ثلج لبنان يكفيه، فهو يذوب ببطء ليغذي المياه الجوفية.
في وضع لبنان المائي، يجب قياس وتسجيل كل نقطة، اذ ثمة مفاهيم خاطئة عن ضخامة ثروته المائية. فمياهه متجددة وتعتمد كلياً على الأمطار والثلوج، وكميتها في حدود نحو 860 مليمتراً في السنة، أو ما يعادل 8600 مليون متر مكعب، تتدنى الى نحو 6000 مليون متر مكعب في سنوات الشح. وهي تهطل على فترة 80 ـ 85 يوماً في السنة، أما الأيام الـ280 ـ 285 الباقية فيسودها طقس جاف كما في الدول المجاورة. ويسقط أكثر من 60 في المئة من هذه الأمطار على السفوح الغربية ذات الانحدارات الكبيرة، وما تبقى يكمل الى البقاع . ولا يتلقى البقاع الشمالي إلا نحو 250 مليمتراً في السنة.
ان جغرافية لبنان وتكوينه يفرضان خسارة معظم مياهه المتجددة التي تذهب هدراً الى البحر. ويستهجن المدير العام السابق لوزارة الطاقة والمياه بسام جابر تقديم لبنان على أنه "القصر المائي للشرق الأوسط" أو "خزان المياه العذبة في المنطقة"، أو أنه يملك "المزيد من المياه العذبة التي ينبغي تقاسمها". ويقول: "ان 4500 مليون متر مكعب من مياه الأمطار السنوية يضيع بالتبخر (الطبيعي، والفيزيولوجي من خلال الأشجار والحيوانات)، ويذهب 670 مليون متر مكعب الى البلدان المجاورة (الى سورية عن طريق نهر العاصي والنهر الكبير وفي اتجاه فلسطين عن طريق نهري الحاصباني والوزاني). ويضيع 850 مليون متر مكعب غائراً الى جوف الأرض على أعماق كبيرة بحيث يتعذر استخراجها بطريقة اقتصادية". وهكذا لا يبقى للبلاد، نظرياً، سوى 2580 مليون متر مكعب سنوياً. أما الكمية المتاحة التي يمكن الافادة منها ضمن شروط اقتصادية مقبولة، فيقدرها جابر بنحو 2200 مليون متر مكعب، ويصنفها كالآتي: 800 مليون متر مكعب من المياه الجوفية التي يمكن استثمارها، و800 مليون متر مكعب من المياه السطحية التي يمكن تخزينها. ويضيف جابر: "الحاجات الحالية هي بحدود 1510 ملايين متر مكعب سنوياً. فاذا اعتبرنا اننا لمن نخزن حتى الآن سوى 220 مليون متر مكعب في سد القرعون، نكون اليوم قد قاربنا نقطة التقاء خطي الموارد والحاجات اذا لم نكن قد تخطيناها".
وهذا يجعل من لبنان دولة فقيرة مائياً، مثل غالبية دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا، اذ ان الكمية المتوافرة للفرد تقل عن 800 متر مكعب في السنة، وهي دون خط الفقر المائي الذي حددته الأمم المتحدة بـ1000 م سنوياً.
ويقول الدكتور فادي قمير، مدير عام الموارد المائية والكهربائية في وزارة الطاقة والمياه، ان "العجز المائي في لبنان هو نحو بليون متر مكعب في سنة هطول متوسطة، ويبلغ ضعفي ذلك في سنوات الشح".
المياه السطحية الباقية فتتعرض للتلوث بشكل متزايد، مع النمو السكاني والعمراني والصناعي وفي غياب محطات التنقية والمعالجة وبفعل عدم النضوج البيئي لدى المواطن. وليس في لبنان حالياً محطة معالجة واحدة. وقد اقترحت وزارة الطاقة والمياه اقامة 20 محطة، أمَّن مجلس الانماء والاعمار تمويل ست منها فقط ستتولى معالجة نحو 70 في المئة من مياه الصرف في البلاد.
في الماضي، كان الصياد اللبناني يشرب من أي ساقية يصادفها. أما اليوم، وقد سمح بالصيد مجدداً، فعليه أن يتذكر أخذ قارورة ماء مع البندقية. فأكثر من 70 في المئة من المياه السطحية ملوثة، تصب فيها مجارير المدن والقرى والمصانع. يفتح المواطن بئراً، فاذا كانت جافة حوَّل اليها مجرور بيته أو مزرعته. وكم من نفايات خطرة مطمورة عشوائياً على أعماق مختلفة، تنزّ سمومها ببطء الى التربة والمياه الجوفية.
تقنين وصهاريج وأمراض
البنى التحتية لقطاع المياه في لبنان يعود معظمها الى الخمسينات وما قبلها. الأنابيب في بيروت، مثلاً، لم تعد تتحمل ضغط الكثافة السكانية، وان يكن تم تغيير بعضها بعد انتهاء الأحداث. ويتضافر ضعف المرافق المائية مع شح المصادر ليسفرا عن امدادات متقطعة (10 ساعات كل يومين) وافتقار الى شبكات الأنابيب في عدد كبير من المناطق الحضرية الفقيرة. ويقدر أن نحو 22 في المئة من مجموع السكان غير موصولين بشبكة التمديدات المائية العامة، ولا سيما في الضواحي الجنوبية لبيروت. وكرد فعل على النقص، يلجأ سكان الأحياء الغنية والفقيرة على حد سواء الى شراء الماء من صهاريج تعمل من دون أي ضابط أو رقابة. وأينما توجهت فقد يطالعك خرطوم صهريج يضخ الماء الى مبنى، في مقابل 5 ـ 10 دولارات للمتر المكعب.
وقد أظهرت احصاءات حديثة للمختبر المركزي التابع لوزارة الصحة وجود تلوث ميكروبيولوجي في 24 في المئة من 403 عينات تم جمعها من شركات تبيع المياه، وفي 40 في المئة من 863 عينة جمعت من شبكات مياه الشفة في مناطق مختلفة. كما تبين أن 37 في المئة من 450 عينة جمعت من الينابيع والمياه الجوفية ملوثة ميكروبيولوجياً.
وفي دراسة حديثة أجراها فريق أبحاث في قسم الهندسة المدنية والبيئية في الجامعة الأميركية باشراف الدكتور معتصم الفاضل، تم فحص نوعية المياه في عينات من 65 متجراً لبيع المياه في ضواحي بيروت الجنوبية. وأظهر التحليل رداءة بعضها، خصوصاً في ما يتعلق بالمؤشرات الميكروبيولوجية. وهذه المعطيات تنذر بالخطر، لأن المياه الملوثة ترتبط بمخاطر صحية متنوعة على المدى القصير والطويل، يترتب عليها عبء اجتماعي واقتصادي.
والمعلومات حول معدلات الوفيات وانتشار الامراض المتعلقة بالمياه محدودة في غياب آلية صحيحة للابلاغ عن الأمراض. وتنحصر المعلومات المتوافرة بالأمراض المعروفة السائدة، كالاسهال والتيفوئيد والباراتيفوئيد والتهاب الكبد "أ". وبالنسبة الى معدل الوفيات، أظهرت دراسة أجراها برنامج الأمم المتحدة الانمائي عام 1990 أن كل طفل تحت الخامسة معرض لمعدل 3,5 نوبات اسهال كل سنة، مما يتسبب بوفاة 750 طفلاً سنوياً. وفي ما يتعلق بانتشار الأمراض، بلغ متوسط العدد السنوي للاصابات المسجلة خلال الفترة 1995 ـ 2000، حسبما أوردته مديرية الطب الوقائي في وزارة الصحة، 529 إصابة بالزحار (الديزنطاريا) و287 إصابة بالتهاب الكبد "أ" و809 إصابات بالتيفوئيد والباراتيفوئيد.
يقول الدكتور معتصم الفاضل ان دراسة فريقه "أظهرت ان الكلفة الصحية المباشرة التي يتكبدها المجتمع اللبناني نتيجة الاصابات المبلغ عنها التي لها علاقة بالمياه تقدر بين 613,295 و2,664,502 دولار، لافتاً الى أن "هذا تقدير متحفظ للتكاليف الحقيقية، لانه يستثني قيمة الألم والمعاناة والتعديل السلوكي والآثار الجانبية للأدوية".
استيراد مياه "غير منظورة"
يستهلك القطاع الزراعي في لبنان 70 ـ 80 في المئة من المياه المتوافرة، في حين يستهلك القطاع الصناعي نحو 12 في المئة والقطاع المدني 8 ـ 12 في المئة. وهناك أكثر من 10 آلاف بئر غير مرخصة تستخدم في الزراعة، ولا أسعار للمياه ولا عدادات للآبار ولا ترشيد للري، في حين يمكن اعتماد أساليب حديثة كالري الرذّاذ أو بالتنقيط ذي الكفاءة العالية. وكانت نتيجة هذه العشوائية ضخ المياه الجوفية من أعماق تزيد على 250 متراً، في ظاهرة تتجلى بأبشع صورها في البقاع، حيث كان الماء ينبثق من حفرة ضحلة حيثما نبشت الأرض، فازداد عمق المياه الجوفية من بضعة أمتار في الخمسينات الى أكثر من 300 متر حالياً.
وفي منطقة سد القاسمية، حيث كانت المياه بمثابة المجانية، يسحب المزارعون نحو 20 ألف م3 للهكتار سنوياً. وقد دلت الدراسات على أن لا لزوم لأكثر من 6 آلاف م3 للهكتار. واليوم يقدم مشروع الليطاني حوافز للمزارعين الذين يروون بأقل من 12 ألف م3 للهكتار، في شكل تخفيضات على رسوم الماء أو مساعدات لشراء آلات ري حديثة.
يقول الدكتور موسى نعمه: "اللبناني يعتبر الماء شيئاً مجانياً. لماذا لا يتم تسعير الماء مثلما تسعَّر الكهرباء؟ فتعطى الكمية اللازمة بسعر مخفض، وكلما ازداد المصروف أصبح الماء أغلى؟ هكذا، مثلما يدفع المواطن تصاعدياً على كيلوواط الكهرباء، يدفع تصاعدياً على المتر المكعب من الماء. على سبيل المثال، يحتاج المزارع الى 6000 متر مكعب لري هكتار الليمون، فاذا زاد استهلاكه على هذا المعدل تضاعفت تسعيرة الماء مرتين أو ثلاث مرات".
في دراسة جديدة للدكتور موسى نعمه، أن اللبناني اذا أكل وفق الهرم الغذائي الأميركي (مثلاً: حصتان ألبان يومياً، 2 لحوم، 2 بقول، 4 خضر وفواكه، 2 قمح وألياف، 0,5 زيوت، 0,5 دهون)، فهو يستهلك 0,9 متر مكعب (900 ليتر) من الماء يومياً، هي الكمية التي يحتاجها انتاج هذه المأكولات، علماً أن اللبناني "يأكل" مياهاً أكثر لأنه يرمي قسماً من الطعام. وفي حساب بسيط: اذا اعتبرنا أن للمياه الهاطلة من السماء كفاءة إنتاجية (من المطر الى المائدة) بنسبة 20 في المئة، كما في البلدان المتقدمة، فهذا يعني أن كل فرد يحتاج الى 4,5 متر مكعب (4500 ليتر) يومياً لتأمين طعامه (0,9 ÷ 20%). وفي وجود نحو 4 ملايين مقيم، فان انتاج طعامهم اليومي يستهلك 18 مليون متر مكعب فـي اليوم، أي 6570 مليون متر مكعب في السنة. واذا كان لبنان يتلقى ما معدله 8600 مليون متر مكعب من مياه المطر سنوياً، فهذا يعني أنه مجبر على استيراد الأغذية.
ولكن لا خطة زراعية في لبنان لتشجيع المحاصيل الكفوءة مائياً. في الحسابات العلمية، يستهلك إنتاج كيلوغرام من لحم البقر 27 متراً مكعباً من الماء، ليباع بنحو 6000 ليرة لبنانية (4 دولارات). أي إن مردود المتر المكعب هو 200 ليرة. وفي المقابل، فان انتاج كيلوغرام من البندورة (الطماطم) يستهلك 0,2 متر مكعب. أي ان كمية 27 متر مكعب تكفي لانتاج 135 كيلوغراماً من البندورة تغلّ 27,000 ليرة لبنانية (18 دولاراً) لو بيع الكيلوغرام بـ200 ليرة فقط.
ثمة نظرية جديدة مطـروحة عالمياً ويجدر أخذها فـي الاعتبار، هي استيراد المياه غيـر المنظورة (virtual water)، أي زرع محاصيل ذات مردود اقتصادي عالٍ للوحدة المائية واستيراد الحاجات الغذائية الباقية (بكلام آخر استيراد الماء غير المنظور). وهو يطمئن المواطن اللبناني الى أن "لا خوف على احتياجاته المائية للشرب، ولكن اذا استعملت المياه للزراعة فلن تكفي الآن ولا في المستقبل".
كذلك يجب ترشيد الاستهلاك الصناعي، وإلزام المصانع بتنقية مياهها العادمة واعادة استعمالها منعاً لتلوث النهر أو الساقية التي تصب فيها. وضروري أيضاً ترشيد الاستهلاك المدني وتوعية المواطن الى أن الماء ليس سلعة مجانية، وهذا لا يجدي الا بتسعير الماء وفقاً للاستهلاك.
سدود صغيرة أجدى من سد كبير
لا خطة مائية في لبنان منذ العام 1948، عندما وضع المهندس ابراهيم عبدالعال خطة شاملة بعيدة النظر لم ينفذ منها الا سد القرعون على نهر الليطاني الذي تبلغ سعته 220 مليون م3. وهو مشروع ناجح لأن موقعه مسطح بين سلسلتي جبال لبنان الشرقية والغربية. وهناك خطط مجزأة لسدود كبيرة تم تنفيذ بعضها بتكاليف كبيرة لم تثبت جدواها. فجغرافية لبنان تحكم بخلاف ما يرتجى أحياناً كثيرة، لأن السفوح الغربية التي تتلقى معظم الأمطار هي شديدة الانحدار وقصيرة، والأرض كلسية مشققة لا تحفظ المياه السطحية، وكلفة بناء السدود الكبيرة هي غالباً غير مجزية اقتصادياً. على سبيل المثال، تبلغ كلفة سد شبروح في أعالي كسروان 45 مليون دولار، وسعته التخزينية 8 ملايين م3 من مياه الشرب. أي ان الكلفة الأولية للمتر المكعب ستكون 5,6 دولارات (تتناقص بالطبع بعد السنة الاولى). وفي المقابل، فان تحلية مياه البحر تكلف أقل من دولار للمتر المكعب.
ويطرح الدكتور موسى نعمه بديلاً يعتبره أجدى كثيراً من السدود الكبيرة، هو بناء برك جبلية وسدود صغيرة مدرجة على الأنهر، تنفذها البلديات بكلفة أقل نسبياً وخلال مدة قصيرة، فتسقي القرى والبلدات وتغذي المياه الجوفية. وربما أتاحت إنتاج كهرباء محلية ترفد الشبكة العامة وتخفف من استهلاك الوقود المستورد. ومن النماذج الناجحة بركة أنان في قضاء جزين.
وقد وضعت وزارة المياه والطاقة خطة لعشر سنوات (2000 – 2009) من أهدافها تأمين موارد مائية اضافية "بالتركيز على التخزين السطحي والجوفي"، عبر بناء السدود واعادة حقن المياه في الأحواض الجوفية، لري مساحة زراعية أكبر وتأمين الحاجات المائية الصناعية والمنزلية لأعداد متزايدة من السكان. ويقول الدكتور فادي قمير ان الخطة تبيّن "اننا حالياً متخلفون جداً في مجال السيطرة على قسم مقبول من المياه الهاطلة على أرضنا، فتذهب المياه هدراً، ويبدو، لبنان وكأنه يعوم على بحر من المياه فيستقطب الأنظار الدولية التي لا تتقبل هذا الوضع في ظل حاجة الدول الى المياه، بينما في الحقيقة لبنان من أمس الحاجة الى مياهه". كلفة الخطة نحو 1,5 بليون دولار، سيخصص معظمها لبناء سدود كبيرة.
لكن ثمة معارضين لمشروع السدود الكبيرة. ويرى المهندس سليم مقصود، المستشار لدى شركة دار الهندسة، أن الأولوية يجب أن تعطى لاعادة حقن المياه في الأحواض الجوفية، فهي أقل كلفة ولا تقتضي استملاك الاراضي المنتجة لأن المستوعبات موجودة أصلاً. والسدود تغير البيئة الطبيعية، وتحتاج الى صيانة دائمة والا تكدس فيها الطمي. ومياهها مفتوحة للتبخر ومعرضة للتسرب الى جوف الأرض، وهي غالباً ملوثة كما الأنهار التي تتدفق منها. أما المياه المحقونة في جوف الأرض فلا تتعرض للتبخر، وتخضع لعملية تنقية طبيعية. يقول مقصود: "لدينا قدرة تخزينية جوفية تبلغ 1000 مليون متر مكعب، في حين تقتصر إمكانات التخزين السطحي على نصف هذه الكمية". وتبلغ السعة الاجمالية لأهم 17 سداً في الخطة العشرية 626 مليون متر مكعب.
ومن تقنيات تغذية المياه الجوفية "آبار الحقن" التي تحقن فيها المياه المعالجة في فصل الشتاء، بما فيها مياه الطرقات التي تتحول أنهاراً في غياب المصارف والبنى التحتية الملائمة. لكن هذه الطريقة تقتضي انشاء محطات لتنقية مياه الصرف. وقد بدأ تنفيذ مشاريع لآبار الحقن في الدامور والحدث.
ويميل مقصود الى حل أبسط وأرخص هو تعديل أرضية مجاري الأنهر والجداول ببناء سلسلة من الحواجز الخفيضة على القاع. هذه الحواجز تبطئ الجريان في الشتاء، اذ تبسط المياه على كامل عرض النهر مما يسمح بتسرب كمية أكبر منها الى التربة والطبقات الجوفية. لكن أحد العوائق التي تحول دون اعتماد هذا الحل، يقول مقصود، هو أن لا سلطة للدولة على مجاري الأنهر ولن تستطيع اقامة حواجز عليها لأن معظم الضفاف "محتلة". فهناك أشخاص يستخدمون الاراضي المتاخمة للنهر بطريقة غير شرعية حيث يفترض أن تتدفق المياه في سنوات الفيضان. ويضيف: "انهم يبنون المقاهي، ويستغلون الارض للزراعة، وعندما يفيض النهر ويأخذ كل شيء يطالبون بتعويضات. لكنهم في الواقع يحتلون أرض فيضان النهر، وهي ملك عام".
ويتفق الدكتور موسى نعمه مع مقصود على جدوى السدود الصغيرة. ويقترح طريقة عملية وغير مكلفة لتغذية المياه الجوفية والتخلص من الملوحة في المنطقة الساحلية، هي "وضع قانون يلزم كل من يملك بئراً في بنايته أن يحوّل اليها مياه السطح بعد الشتوة الأولى، مع وضع "فوّاشة" لوقف التلقي في حال الامتلاء. فهذا يساهم في تغذية المياه الجوفية، ويضمن التخلص من الملوحة باعتبار أن كل متر عمقاً من المياه العذبة يدفع المياه المالحة 40 متراً. ثم إن هذه الطريقة تحول دون غرق الطرقات".
"خُوّة" موحدة
تم اقتراح ثلاثة خيارات لتمويل الخطة العشرية هي: الخزينة، والمنح والقروض، وعقود الانشاء والتشغيل وتحويل الملكية (BOT). فقرر مجلس الوزراء اختيار العقود، وهو في طور تحضير قانون لها. ويرى فادي قمير أن عقود الـBOT ستعتمد لمشاريع تجتذب القطاع الخاص، مثل السدود التي تدر أرباحاً (بخلاف حقن المياه في الأرض) ومنها سدود جنه والبارد والبترون وبسري والمرحلة الثانية من مشروع سد العاصي. وكلها ستولد كهرباء يمكن بيعها اضافة الى المياه.
في ظل تدني جودة الخدمة وضعف الجباية وقدرة القطاع العام على تسيير مؤسسات المياه والصرف الصحي ادارياً وفنياً، يقول الخبير الاستشاري فيليب جيانتريس ان الخصخصة مفيدة في قطاع المياه، خصوصاً لأن الثقة بالادارة ضرورية لتأمين التمويل الذي يأتي عادة في شكل قرض من الخارج. لكنه لا يرى وجوب خصخصة هذا القطاع كلياً، "لأن المياه ثروة وطنية يجب أن تبقى بين يدي الدولة التي يمكنها أن تلعب دور "المايسترو" الذي يوزع المهمات ويمسك بزمام الأمور".
لكن أي خطة لن تجدي ولن تستقطب مستثمرين ما لم يتم إصلاح نظام التسعير. فالقطاع الخاص يريد أن يسترد أمواله وأن يربح لاحقاً ليدخل قطاع المياه. وجميع المشتركين يدفعون حالياً رسماً سنوياً موحداً للماء هو 220 ألف ليرة لبنانية (150 دولاراً). فلا بد من فرض تسعيرة على أساس الكمية المستهلكة لكي تكون مشاريع السدود مربحة. وهذا ليس بالأمر السهل، فباستثناء منطقة صيدا، لا وجود لعدادات في بيوت المشتركين لقياس الاستهلاك والدفع على أساس الكمية. ويعتبر رئيس مجلس ادارة مؤسسة لبنان الجنوبي المهندس أحمد نظام أن الاشتراك الموحد المعتمد حالياً هو "خوة" اعتباطية. ووعد بأن المستهلكين في صيدا سيدفعون ثمن استهلاكهم سنة 2004، وفق ما تسجله العدادات، مضيفاً: "سوف يبكون، لأنهم أهدروا كثيراً".
وفي بادرة نموذجية جديرة بالاقتداء، تحضّر مؤسسة لبنان الجنوبي مخططاً توجيهياً للمياه العذبة ومياه الصرف الصحي في نطاقها. وهي تضم مصالح مياه صيدا وصور وجبل عامل ونبع الطاسة، وتغطي مساحة 2130 كيلومتراً مربعاً أي أكثر من خُمس مساحة لبنان. ومن أهم أهدافها الاستراتيجية تخفيض كمية المياه غير المحتسبة الى أقل من 20 في المئة سنة 2008، بتقليص الهدر الاداري الى أقل من 5 في المئة والهدر الفني الى أقل من 15 في المئة. ترافق ذلك زيادة نسبة الجباية الى 90 في المئة. يقول نظام: "في نهاية 2008، سيتم تأمين خدمات ايصال المياه الى المشتركين بالكمية المكتتب بها، أي 175 ليتراً في اليوم للفرد الواحد وبالضغط المناسب لمدة 24 ساعة يومياً".
في هذا الاطار، يقول خبراء ان فرض نظام العدادات لن يكون عادلاً ما لم تتوافر المياه بلا انقطاع، لأن الهواء يدفع مروحة العداد اذا انقطعت المياه، فيسجل مصروفاً لم يُصرف قد يبلغ 10 في المئة من الفاتورة.
ذهب لبنان أبيض
منـذ سنتين، كـاد ضخ لبنان لجزء مـن حصته فـي مياه الوزاني يؤدي إلـى مواجهة اقليمية. غيـر أن المعالجة العلمية لهذا الملف، مـن خلال التقـرير الدقيق الـذي قدمـه لبنان حول نطاق خدمة مجرى الحاصباني (Position Report: Service Area of Hasbani Water course)، أدت الى حصوله على دعم دولي في موقفه. وساعد في تهدئة المسألة أن موسم الشتاء كان سخياً في السنتين السابقتين، فارتفع مستوى بحيرة طبريا إلى أعلى نسبة له خلال العقود الأخيرة، ولم تبرز أية مضاعفات من ضخ كمية المياه القليلة. وتجري الاستعدادات الآن لضخ كمية إضافية لخدمة بعض قرى جنوب لبنان.
ومع أن القانون الدولي يمنح لبنان الحق في ثروته المائية، إلا أن اهدارها يشكل حلقة ضعيفة. فلا بد من إرادة سياسية لاقامة برامج جدية على مدى لبنان لاستغلال ثروته المائية ووقف هدرها في البحر.
في شباط (فبراير) 2003 و2004، اضطر المسؤولون الى فتح مسارب بحيرة القرعون على مجرى نهر الليطاني للتخلص من 3 ملايين م من المياه يومياً. وقد أعلن مدير عام مصلحة نهر الليطاني ناصر نصرالله أنه يتوقع فتح الأقفال لتهريب كمية أخرى من المياه هذه السنة أيضاً، لتجنب فيضان البحيرة.
آلاف ملايين الأمتار المكعبة من مياه لبنان تذهب هدراً للبحر والتلوث، في منطقة جافة وفي عالم أصبحت تعتبر فيه المياه سلعة أهم من النفط.
الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في جنوب لبنان ستيفان ديميستورا يقول: "إن المياه، مع الطاقة البشرية، أهم ثروتين يملكهما لبنان". ويتابع: "ليس في لبنان مصادر للنفط أو المعادن حتى الآن، وأهم ما يملك وما يميزه عن بقية المنطقة طاقة بشرية نشيطة وخلاّقة هي بمثابة الذهب الأصفر، ومورد المياه وهو بمثابة الذهب الأبيض". ويقول ديميستورا إن "المياه في عصرنا الحاضر أهم من النفط. فالنفط يمكن استبداله بمصادر الطاقة المتجددة كالشمس والرياح وحتى الطاقة النووية، أما الماء فلا يمكن استبداله بغير الماء". ويؤكد أن خطر النزاعات المسلحة في المستقبل سيكون بسبب المياه، كما كان النفط مصدر نزاعات في العقود الماضية. ويختم بنصيحة واحدة للبنان: "بدل فتات المشاريع الصغيرة الآنية الفائدة، يجب توحيد جهود التنمية في مشروع كبير لاستغلال مياه لبنان وحفظها ومنع إهدارها".
فهل يكون في هذا رسالة إلى المنظمات الدولية والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي، للعمل على مساعدة لبنان في مشروع مائي كبير، بدل هدر القروض والهبات في برامج صغيرة متفرقة؟