راغدة حداد
مع مساهمات من بوغوص غوكاسيان وطوني كرم
الآتي الى لبنان جواً تبهره روعة الساحل والجبال المترامية خلفه. لكنه إن أنعم النظر في المياه فلن تخفى عليه بقع متمايزة الألوان عند مصبات الأنهار والجداول. فهذه الشرايين الحية التي غذّت أرض البلاد على امتداد تاريخها، وعدَّلت مياه بحرها بعذوبة أوجدت موائل خاصة للثروة المائية، باتت أشبه بالمجاري. تصب فيها مياه الصرف البلدية والصناعية من القرى والمدن، فتنقلها كما هي لتطرحها في البحر المفتوح.
لبنان في جزئه الأكبر منبسط على البحر، من أقصى شماله الى أقصى جنوبه. وإذ تتدفق المياه المبتذلة عبر مئات المصبات الكبيرة والصغيرة المنتشرة على امتداد الشاطئ، يحلّ الدمار شيئاً فشيئاً بالثروة البحرية الحية، ويهدد السلامة العامة والآمال بمستقبل سياحي مشرق. فمن أي مياه يصاد السمك ويؤكل؟ وفي أي مياه يسبح السابحون؟
ولنتعمَّق في الداخل... الى منطقة البقاع مثلاً. الليطاني نهر مائت، ماؤه لا يُشرب وسمكه المتبقي لا يؤكل! 15 مليون متر مكعب من المياه الملوثة تصب فيه سنوياً حاملة أوساخ الصرف الصحي الطازجة ونفايات المصانع. هذا النهر الكبير، الذي يحتل حوضه 2175 كيلومتراً مربعاً مشكلاً نحو 20 في المئة من مساحة لبنان، والذي يسقي 20 في المئة من سكان البلاد ويروي 42 في المئة من أراضيها الزراعية، وصل الى "الخط الأحمر" تلوثاً. فهو يستقبل معظم مياه الصرف "الصحي" من المناطق المتاخمة التي تدار حفرها وشبكاتها على النهر وروافده. وفوق ذلك، تلقى فيه نفايات صناعية سائلة خطرة. ويقول المهندس نسيم أبو حمد من المصلحة الوطنية لنهر الليطاني ان معمل كسر البطاريات وحده يصرّف في النهر 5 كيلوغرامات من الزئبق السام يومياً، فضلاً عن أطنان الملوثات الكيميائية الصناعية المختلفة ولا سيما من مصانع الورق، والملوثات الصناعية العضوية ولاسيما من معمل السكر.
ويقول الدكتور موسى نعمه، أستاذ المياه والري في كلية الزراعة في الجامعة الاميركية، ان "بحيرة القرعون في الستينات كانت زرقاء اللون، أما اليوم فهي خضراء، والصيادون يشكون من نفوق الاسماك واختفائها سنة بعد سنة".
عند إطلاق مشروع "الدراسة البيئية لحوض نهر الليطاني" في نيسان (أبريل) 2004، قال رئيس مجلس ادارة المصلحة ومديرها العام السابق ناصر نصرالله ان محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي أنشئت في بعلبك، "ولكن لا شبكات بعد لايصال المياه المبتذلة اليها، وريثما تنشأ الشبكات فقد تخرب المحطة". وأضاف: "وضع حجر الاساس لمحطة زحلة، ولكنها واقفة بانتظار البت في الشركة التي سترسو عليها. ووضعت أرض بمساحة 36 ألف متر مربع في تصرف مجلس الانماء والاعمار لبناء محطة معالجة في جب جنين، لكن الملف لم يتحرك حتى الآن". ويرى نصرالله أن التصريف العشوائي في حوض النهر وروافده يفسد "أهم كمية مياه في البقاع، وربما لبنان"، معتبراً أنها في الاساس "مشكلة الادارة اللبنانية التي تتعاطى بخفة في موضوع المياه، وهي تخسرنا أهم ثروة لدينا، فالى أن يطلع عندنا بترول ليس لدينا سوى الماء".
وضع غير نظيف
الواقع أن التصريف العشوائي للمياه المبتذلة حالة عامة في لبنان. وقد لحظت دراسة أعدتها دائرة الاحصاء المركزي عامي 1996 و1997 أن 37 في المئة فقط من المباني موصولة الى شبكات الصرف الصحي. فحيث لا توجد شبكات، يصرّف المواطنون مياههم المبتذلة في ما يدعونه جُوَراً صحية، أو في آبار ناضبة، مع ما يشكله ذلك من خطر تلوث للمياه الجوفية والجداول والأنهار التي تصل اليها في نهاية المطاف. وحيث توجد شبكات، يتم تجميع المياه المبتذلة وتصريفها من دون أية معالجة في الوديان والأنهار وعلى الشواطىء. وهذا يشكل مصدر تلوث خطير للبيئة وللمياه السطحية والجوفية والبحرية.
ما لا شك فيه أن قطاع الصرف الصحي بوضعه الحالي يشكل خطراً على الصحة العامة. ومعظم البلديات بحاجة إلى انشاء شبكات لتجميع المياه المبتذلة أو الى اعادة تأهيلها. ويؤدي تهالك الشبكات أحياناً الى تلويث مياه الشفة بالمياه المبتذلة. وفي العام 2002، أظهرت تحاليل للمختبر المركزي التابع لوزارة الصحة وجود تلوث ميكروبيولوجي في 40 في المئة من 863 عينة جمعت من شبكات مياه الشفة في مناطق لبنانية مختلفة، وفي 37 في المئة من 450 عينة جمعت من الينابيع والمياه الجوفية. وفي آذار (مارس) الماضي، أدى اختلاط المياه المبتذلة بالمياه الجوفية في بلدة أنصار الجنوبية الى اصابة عدد من السكان، ومعظمهم أطفال، بحالات تسمم، وأقفلت المدارس لمدة أربعة أيام.
والوضع ليس "نظيفاً" في المدن أيضاً، حتى في العاصمة. فمع بدء شح نهر بيروت تعود معاناة سكان المناطق المجاورة، كالاشرفية وبرج حمود، اذ تشتد الانبعاثات الكريهة نتيجة للمياه المبتذلة التي تصب مباشرة في النهر.
بحسب تقرير لوزارة البيئة عام 2001، بلغ حجم الاجمالي للمياه المبتذلة في لبنان 249 مليون متر مكعب سنوياً. ويقول الدكتور جورج أيوب، الاستاذ في كلية الهندسة المدنية والبيئية في الجامعة الاميركية في بيروت، ان المياه العادمة الناجمة عن سكان المناطق الساحلية، الذين يشكلون حالياً نحو ثلثي مجموع سكان لبنان، تصب مباشرة على الشاطىء عبر 53 مصباً بحرياً، باستثناء منطقة الغدير حيث يوجد مصب يبعد مئات الأمتار عن الشاطئ. ويضيف: "من غير المقبول عدم وجود محطة معالجة واحدة تعمل بشكل طبيعي في لبنان، بينما في الدول المجاورة، كالأردن، هناك محطة معالجة لكل مدينة تقريباً". ويرى أيوب أنه في غياب محطات المعالجة فكل مصادر المياه معرضة للتلوث. ويلاحظ أن لبنان، اذا أراد النجاح سياحياً، فعليه ضمان نظافة بحره، وهذا لا يتحقق ما دامت المجارير تصب مباشرة في هذا البحر.
12 محطة ساحلية و8 محطات داخلية
في كانون الأول (ديسمبر) 2003، نظمت المجالس البلدية في بحمدون وقرى وبلدات المتن الاعلى "نزهة غير سارة" في الأحراج والبراري الواقعة ضمن منطقة وادي لامرتين، حيث تحولت مجاري القنوات والجداول والأنهار الشتوية الى مصبات للمياه المبتذلة، تتجمع لتصب في الوادي وفي نهر بيروت. وانتقدت المجالس البلدية في المنطقة استثناء بلدات الاصطياف هذه من مشروع إنشاء 12 محطة تكرير لمياه الصرف أطلقه مجلس الانماء والاعمار، مطالبة بايلاء "وبمساواتها بسائر المناطق اللبنانية في سياق تطوير قطاعي السياحة والاصطياف".
وكان المجلس أطلق في وقت سابق من ذلك الشهر المرحلة التنفيذية من مشروع "مياه الشرب والصرف الصحي في بعلبك، بقرض من البنك الدولي قيمته 43,5 مليون دولار. وقال رئيس المجلس جمال عيتاني إن هذا يستكمل مشروعاً أنجز فيه جزء كبير من الانشاءات المائية كما تم تنفيذ وتسليم محطة معالجة مياه الصرف الصحي. وهو يقضي بانشاء الوصلات المنزلية وكافة شبكات المياه الثانوية وربط محطة المعالجة بشبكات تجميع مياه الصرف الصحي. وأوضح عيتاني أن هذا المشروع هو ضمن خطة مجلس الانماء والاعمار لقطاع الصرف الصحي.
وتقضي الخطة باقامة 12 محطة ساحلية لاستيعاب المياه المبتذلة الناتجة من المدن الرئيسية والتجمعات السكانية المحيطة بها على الساحل والسفوح الغربية لسلسلة جبال لبنان الغربية، والتي يمكن جر معظمها بالجاذبية، مما يغني عن اقامة محطات الضخ المكلفة. وبتنفيذ هذه المحطات والشبكات العائدة لها، تكون مشكلة الصرف الصحي قد حلت لأكثر من 65 في المئة من سكان لبنان، بطاقة استيعابية تأخذ في الاعتبار الزيادة السكانية حتى سنة 2020. وتقع هذه المحطات الساحلية في العبدة، طرابلس، شكا، البترون، جبيل، ساحل كسروان (طبرجا)، برج حمود، الغدير، ساحل الشوف (رأس النبي يونس)، صيدا، صور، مع إمكانية إنشاء محطة بين صيدا وصور.
كما تتضمن الخطة إنشاء 8 محطات أخرى في التجمعات السكنية داخل البلاد، منها زحلة وبعلبك والنبطية، ولحماية بعض مصادر المياه من التلوث وخصوصاً نهر الليطاني. ووعد المجلس أنه "بانشاء هذه المحطات الاضافية يكون تكرير المياه المبتذلة مؤمناً لأكثر من 80 في المئة من السكان بواسطة 20 محطة تكرير". أما المناطق المتبقية، والتي تضم نحو 20 في المئة من السكان، فهي بحاجة الى نحو 100 محطة صغيرة تتوزع جغرافياً لخدمة القرى والبلدات الواقعة في الداخل.
وكان المخطط التوجيهي للصرف الصحي الذي يعتمده مجلس الانماء والاعمار أعد عام 1982، وتم تحديثه عام 1994 بعد التغيير الديموغرافي الذي شهدته المناطق اللبنانية نتيجة التهجير وحركة النزوح الى المدن خلال الحرب الأهلية.
ماذا نُفذ حتى الآن؟
يقول الأمين العام لمجلس الانماء والاعمار غازي حداد ان تنفيذ كل محطة مع شبكاتها يستلزم نحو ثلاث سنوات. وهو أكد لـ"البيئة والتنمية" أن المحطات العشرين ستكون كلها شغّالة، تباعاً، بين 2008 و2012. وفي "جردة" خاطفة للمحطات الساحلية، قال ان محطة العبدة ما زالت في مرحلة البحث عن تمويل. ومحطات طرابلس وشكا وساحل الشوف هي قيد التنفيذ. محطتا البترون وجبيل تم تلزيمهما ولكن لم يعطَ أمر المباشرة بعد. محطة ساحل كسروان تنتظر موافقة ممولها. أما محطة برج حمود فهي في مرحلة فض العروض وسيتولى المتعهد تمويلها. وفي محطتي الغدير وصيدا بدأ تشغيل التكرير المبدئي للمياه المبتذلة، وقد أعطى الممولون موافقتهم للمناقصة على التكرير الأولي والثانوي. والبحث جار عن تمويل لمحطة صور، ولمحطة أخرى ربما في الناقورة.
وفي الداخل، قال حداد ان محطة بعلبك أنجزت وتم تسليمها، وهي قابلة للتشغيل، بانتظار إطلاق مناقصة الشبكات التي ستوصل المياه المبتذلة من المنازل الى المحطة. وما زالت محطة زحلة قيد التلزيم، على أن يبدأ تنفيذها خلال أشهر. ومحطة النبطية هي الآن في طور التنفيذ. أما مشروع المياه المبتذلة للبقاع الغربي بهدف حماية نهر الليطاني "من السد الى المرج"، فهو في مرحلة فض العروض، والتمويل متوفر لانشاء محطتين في جب جنين وصغبين مع الشبكات اللازمة للقرى المتاخمة.
وأما المحطات المئة الصغيرة التي ستتوزع في المناطق لتغطي حاجات نحو 20 في المئة من السكان، فإما تلزَّم كلها معاً، وإما تتولى البلديات تنفيذها.
ويتم تنفيذ خطة الصرف الصحي بواسطة قروض ميسَّرة من مصادر مختلفة، منها البنك الاسلامي للتنمية (محطات وشبكات البقاع الغربي)، والبنك الاوروبي للتثمير (محطة وشبكات طرابلس)، والبنك الدولي (محطة بعلبك)، والبنك الياباني للتعاون الدولي (محطة وشبكات صيدا)، والصندوق الألماني IBIC (محطة الغدير)، والحكومة الفرنسية وفق بروتوكول خاص (محطات شكا والبترون وجبيل وساحل الشوف والنبطية)، والحكومة الايطالية (محطة زحلة وغيرها)، بالاضافة الى اعتمادات من الحكومة اللبنانية.
تقنيات المعالجة
يعترض البعض على الجدوى الاقتصادية لانشاء المحطات الرئيسية على الساحل، حيث سعر العقارات مرتفع ويمكن استثمار الأراضي في مشاريع سياحية تخلق وظائف عمل. ويرى آخرون أنه، اذا أقيمت المحطة على ارتفاع 400 متر مثلاً، فيمكن الاستفادة من المياه المكررة في ري الأراضي الزراعية أو في التغذية الاصطناعية للأحواض الجوفية. لكن خبراء اقتصاديين يذكّرون بأن معظم المياه المبتذلة ناجمة عن المناطق الساحلية، وأن ضخها الى أعلى يزيد كلفة المعالجة بشكل كبير تعجز مصالح المياه عن تحمله.
ماذا عن تقنية المعالجة؟ يقول رئيس مصلحة تصحيح المحيط في وزارة الطاقة والمياه حسن جعفر ان "معظم المحطات تعتمد التكرير الثانوي". فبعد نزع المواد الصلبة الكبيرة في المرحلة التمهيدية، يستعان بتقنية الترسيب في المرحلة الأولية لفصل المياه عن الوحول، وهي تزيل ما بين 30 و40 في المئة من التلوث. وتعتمد المرحلة الثانوية على تقنيات التكرير البيولوجي مثل الوحول المنشّطة (activated sludge) والبيوفلتر، بحيث يأمل الخبراء أن تتخطى نسبة إزالة التلوث 95 في المئة. وفي نهاية هذه المرحلة تعقم المياه بواسطة الكلور أو الأشعة البنفسجية. تقنيات التكرير هذه تضمن الحد من التلوث الجرثومي بحيث يمكن تصريف المياه عبر مصب بحري أو في مجاري الأنهار والمجاري الشتوية، من دون تشكيل خطر على البيئة والمياه الجوفية أو السطحية أو البحر. وفي الامكان مستقبلاً استعمال المياه المكررة لري الأشجار والخضار التي تطبخ. وفي حال كانت المحطة تؤمن معالجة ثالثية (ربما في محطة زحلة)، تخضع المياه لتكرير فحمي قبل تعقيمها، وتصبح بعد ذلك صالحة للشرب ولري الخضار التي تؤكل نيئة.
وما العمل بالكميات الكبيرة من الوحول التي تنتج من عملية التكرير؟ المخطط التوجيهي الذي أعده مجلس الانماء والاعمار لمعالجة هذه الوحول، بالتعاون مع وزارات الصحة والطاقة والمياه والزراعة والبيئة والداخلية، أخذ في الاعتبار عدة خيارات، منها تسميدها لاستعمالها في الزراعة، أو طمرها، أو التخلص منها في محارق خاصة مجهزة بفلترات ومستوفية الشروط الصحية والبيئية. لكن ممثل منظمة غرينبيس في لبنان وائل حميدان يحذر من أن "حرق الوحول التي تحوي معادن ثقيلة سيسبب كارثة بيئية، خصوصاً في المناطق السكنية، اذ يحول المواد الكيميائية شبه الخطرة الى مواد عالية الخطورة، مثل الديوكسين، تسبب أمراضاً سرطانية وتنفسية وغيرها".
وتجدر الاشارة الى أن الوحول الناتجة عن المياه المبتذلة تحتوي على كائنات مجهرية ناقلة للامراض، وعلى مواد عضوية ومعدنية وكيميائية، بعضها سام وخطر على الانسان وعلى البيئة. ويقدم الاختصاصيون عدة طرق لمعالجة الوحول، أبرزها:
- تثبيتها، أي تأمين استقرارها، فتصبح غير قابلة للتحلل بحيث يمكن إما طمرها وإما استعمالها في الزراعة كسماد للشجر ضمن معايير مشددة. وفي هذه الحال، يتم تحديد كمية السماد الذي سيستعمل على مساحة معينة خلال مدة معينة، اضافة الى استيفاء مدة انتظار، نحو شهر، بين وضع السماد وقطف الاشجار المثمرة، لتحييد ضرر المواد العضوية والمعادن الثقيلة في الوحول.
- التخمير مع مواد اضافية مثل نشارة الخشب لامتصاص الرطوبة. وتستعمل الوحول بعد ذلك في الزراعة ضمن معايير أكثر مرونة. كما يمكن تخميرها مع النفايات العضوية.
- التكليس، أي إضافة الكلس الى الوحول، ومن ثم تحييدها على درجة pH7، وعندئذ تطمر أو تستعمل في التربة الفقيرة بالكلسيوم.
- التجفيف الحراري، وهو يحيِّد الوحول من المواد العضوية ولكنه يبقي المعادن الثقيلة. وهذه التقنية عالية الكلفة، مثل الحرق، وان تكن أقل ضرراً، كما أنها تقلص حجم الوحول ووزنها.
مياه الصرف الصناعي
محطات التكرير هي الحل الضروري لواقع الصرف الصحي. ولكن ماذا عن مياه الصرف الصناعي؟ ان وصلها الى شبكات الصرف البلدية يمثل تهديداً رئيسياً لعمل محطات التكرير وعملية المعالجة. وبحسب تقرير وزارة البيئة عام 2001، قدرت كميات مياه الصرف الصناعية المنتجة في لبنان بنحو 43 مليون متر مكعب سنوياً، وهي تحتوي على نسب مرتفعة من مواد كيميائية خطرة كالزئبق والزرنيخ والزنك والكروم أدت الى القضاء على الثروة السمكية في بعض الأنهار والمناطق الساحلية. الدول المتقدمة تجبر المعامل على إنشاء محطات خاصة بها لمعالجة نفاياتها السائلة وتحييدها قبل إحالتها على شبكات الصرف الصحي. أما في لبنان، وعلى رغم وجود تشريعات بهذا الخصوص، بينها قرار من مجلس الوزراء يلزم كل مصنع بمعالجة مياهه قبل تصريفها، فلا تتقيد المصانع بهذه التشريعات.
من جهة أخرى، واذ يتوقف حسن عمل المحطات على نوعية المياه الواردة اليها، من الضروري تأمين صيانة صحيحة لشبكات الصرف الصحي وتحاشي تدفق مياه الأمطار اليها، لأن وصول كميات كبيرة من هذه المياه الى المحطات يمكن أن يؤدي الى خلل في عملية التكرير. وتحول مراقبة الشبكات وصيانتها دون تسرب المياه المبتذلة الى المحيط الطبيعي. ويؤكد مجلس الانماء والاعمار على تغطية المنشآت المعرضة لتسريب الروائح وتزويدها بتجهيزات لتنقية الهواء، وإنشاء مصبات بحرية تؤمن حماية الشواطئ والبيئة البحرية وتحول دون ارتداد التلوث الى الشاطئ نتيجة التيارات. ويلفت أمين عام المجلس غازي حداد الى أن المياه المكررة ستضخ في البحر على بعد 500 ـ 700 متر من الشاطئ. وعقود إنشاء المحطات تلزم المتعهدين بضمان نوعية المياه المكررة، وتفرض عليهم غرامات في حال عدم احترام هذه النوعية. كما يتم إدراج عمليات الصيانة والتشغيل لمدة 3 ـ 5 سنوات في العقود، وخلال هذه المدة يتوجب على المتعهدين تدريب فرق عمل لبنانية لتتولى التشغيل والصيانة لاحقاً، عندما تتسلمها مصالح المياه في وزارة الطاقة.
هنا يتساءل بسام جابر، مدير برنامج دعم السياسة المائية في لبنان الذي تموله الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بالتنسيق مع وزارة الطاقة والمياه: "في حال تسلمت مصالح المياه محطات المعالجة، هل ستتمكن من صيانتها وتشغيلها في غياب المهارات الكافية للتشغيل؟" ويرى جابر أن الادارات الرسمية غير مؤهلة حالياً لادارة المحطات، نظراً الى النقص الفادح بخبراء تكنولوجيا معالجة مياه الصرف الصحي. ويدعو الى إشراك القطاع الخاص عن طريق عقود BOT (الانشاء والتشغيل وتحويل الملكية)، لافتاً الى جدوى استيفاء تعرفات خدمة الصرف الصحي من المواطنين لتغطية جزء من تكاليف التشغيل والصيانة.
وفي الإطار ذاته، يشير الدكتور جورج أيوب الى أن بعض المحطات الصغيرة التي نفذتها جمعيات أهلية بتمويل من منظمات دولية أهملت عند تسليمها للبلديات، التي تعجز غالباً عن تشغيلها أو صيانتها لأسباب مادية أو فنية، فتتحول المحطة الى مصدر تلويث يضر بالمنطقة بيئياً واقتصادياً واجتماعياً وسياحياً.
يبقى التخطيط والتنسيق بين الوزارات المعنية ضماناً لسلامة مياه لبنان، ذهبه الأبيض، عبر حسن استخدام القروض المقدمة من البنك الدولي والجهات المانحة الأخرى. وحتى يتم إنشاء محطات المعالجة الموعودة وتحويل مياه شبكات الصرف الصحي اليها، ستظل الروائح الكريهة تزكم أنوف سكان القرى والمدن الداخلية التي تفرغ أوساخها ومياهها المبتذلة في الطبيعة، وسكان المناطق الساحلية التي تصبها في البحر. ولا جدوى من طرح مشاريع سياحية ما دام الصرف الصحي لم يعالج، وما دامت المجارير تفرغ محتوياتها الطازجة على الشواطئ، وما دامت مياه الشفة تختلط بالمياه المبتذلة.