روجيه لوغان
غيانا هي احدى "دوائر" فرنسا ما وراء البحار. مساحتها نحو 90 ألف كيلومتر مربع، يقارب سدس مساحة فرنسا. مناخها استوائي رطب، وهواؤها يبقى محملاً بالرطوبة حتى أثناء احتباس المطر. وتضم أحد الامتدادات الكبيرة الأخيرة لغابة المطر الاستوائية، وعدداً من القبائل الاميرينديانية التي ما زالت تعيش كما كانت منذ قرون. ويتكون الخط الساحلي أساساً من مستنقع لأشجار القرم (المنغروف) وقليل من الشواطئ الرملية. وتشتمل ثروتها الحيوانية على القردة وتماسيح الكيمن والتابير والأسلوت وآكل النمل.
هذه البلاد، التي تقع على الساحل الشمالي الشرقي لأميركا الجنوبية على المحيط الأطلسي، هي الوحيدة التي تحتفظ بغابة أوروبية تكاد تخلو من السكان وترتفع تدريجياً من الشريط الساحلي باتجاه جبال توماك ـ هوماك على الحدود البرازيلية. وتغطي الغابة نحو 92 في المئة من مساحتها الاجمالية وتزخر بتنوع بيولوجي مذهل. ففيها نحو 750 نوعاً من الطيور و186 نوعاً من الثدييات و110 أنواع من الزواحف و106 أنواع من البرمائيات، تعيش في موائل متباينة بين شواطئ رملية ومستنقعات ساحلية.
رحلة في الغابة
زقزقة الطيور في الغابة شنفت آذاننا قبل شروق الشمس، ونحن نجذف بزورقنا صعوداً الى منبع نهر ماروني لاحصاء أنواع الحيوانات والنباتات المتواجدة في المنطقة. وكان علينا أن نمضي ثلاثة أيام أخرى من التجذيف في مياه ضحلة. فنحن في شهر آب (أغسطس)، أي في بداية موسم الجفاف الذي يدوم خمسة أشهر.
الرحلات العلمية المتعددة الأغراض التي كنا نقوم بها استهدفت تعميق معرفتنا بالثروة الحيوانية المحلية، واحصاء أعداد الحيوانات بحسب أنواعها، وهو عمل شاق لكنه ممتع. وهذه الرحلة بالذات، التي قادها فيليب غوشيه الاختصاصي بعلم الزواحف والبرمائيات، غايتها تكوين صورة عن هذه المنطقة واحصاء تنوعها الحيواني بالمقارنة مع أجزاء أخرى من غابة غيانا المترامية. وقد قام الباحثان أوبير جيرو وفيليب غوشيه باجراء مسوحات التنوع الحيواني، وتولى سيسيل ريتشارد ـ هانسن تنسيق هذه الدراسات الحيوانية مع دراسة أوسع حول أثر الصيد في غيانا.
أحصينا الاعداد الموجودة في أجزاء مختلفة من الغابة تبلغ مساحة كل منها كيلومتراً مربعاً، ما سمح لنا بتحديد الكثافة العددية لمختلف الأنواع في موائلها الطبيعية المختلفة، ومستوى الصيد ضمن كل منها. وتشمل هذه الطريقة تعداد جميع الثدييات والطيور التي تعتبر طرائد مفضلة للصيد، والمتواجدة ضمن مسار مستقيم بطول معيَّن عبر الغابة. وكنا نجتاز هذا المسار بانتظام في الصباح الباكر وعند الغسق، وهما وقتان مثاليان لرصد الحيوانات في أوج نشاطها.
فرنسوا كاتزيفيس، الاختصاصي بعلمي الوراثة والثدييات، أسندت اليه مهمة خاصة هي جمع عينات من أمصال وأنسجة الحيوانات، لفحصها وتحديد الأنواع التي تحمل أمراضاً معينة كالالتهابات الفيروسية والاربوفيروسات (حمى تنقلها المفصليات) وفيروس هانتا وحمى كيو وداء الكلَب وسواها، وذلك بالتعاون مع مختبرات معهد باستور في غيانا.
لاحصاء الموارد الطبيعية في هذا الجزء من الغابة، استخدمت فانيسا هوغيه وباسكال باترونيلي، الاختصاصيتان بعلم النبات، تقنية "المسح الموضعي" (quadrat points) أي التوقف كل 20 متراً عبر مسار معين وتسجيل أقرب أربع أشجار (عائلتها وجنسها ونوعها). هذه الطريقة المنتظمة لأخذ العينات تسمح بتكوين صورة عن التركيب النباتي في منطقة معينة وربطه بالأنواع الحيوانية المتواجدة فيها. ودراسة التركيب الوراثي للأنواع الحيوانية والنباتية في الغابات المطيرة الاستوائية تمكننا في النهاية من الالمام بثروتها الوراثية وبهجرة الحيوانات، اضافة الى طبيعة الاستيطان الذي قد يكون حدث قبل انفصال القارات.
مع انتهاء مهمتنا، كنا جمعنا عشرات العينات النباتية والمعطيات المتنوعة، وسجلنا ملاحظاتنا حول السلوكيات الطبيعية لأنواع عديدة من السنوريات والقردة والطيور.
ويخطط حالياً لانشاء منتزه وطني كبير في جنوب غيانا. فالغابات العذراء المترامية الأطراف هناك جديرة بالحماية. وأملنا أن تؤدي نتائج عمل هؤلاء العلماء الى تعزيز الوعي بالحاجة الى حماية الغابات المطيرة الاستوائية حول العالم، لأنها ضرورية لبقاء الحياة على الأرض، فضلاً عما تؤويه من أنواع حيوانية ونباتية لا تعوض.
كادر
كتاب غيانا
تضافرت جهود الدكتور سيسيل ريتشارد ـ هانسن الباحث في سلوكيات الحيوان، والمصور روجيه لوغان، فأثمرت كتاباً شائقاً بعنوان "غيانا الفرنسية: رحلة ايكولوجية".
الكتاب مزدان بصور رائعة تنقل إحساساً حقيقياً بأجواء الغابة المطيرة الاستوائية ومستنقعات المنغروف الساحلية، وما فيها من حيوانات ونباتات نادرة وغريبة. وهو يلقي الضوء على البيئة الخاصة في غيانا الفرنسية وظروف العمل التي يواجهها الباحثون المهتمون بدراستها.