تتنامى في لبنان هذه الأيام رياضة جديدة نسبياً هي مراقبة الطيور، سبقتنا إليها منذ زمن بعيد الدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا ودول أخرى. انها هواية تساهم في التعرف على أنواع الطيور المختلفة والتمتع بفك رموز تحديد هويتها وتصويرها ومعرفة الكثير عن عاداتها وبيئاتها وتصرفاتها وفوائدها، إلى ما هنالك من معلومات قلما نجدها في كتب أو دراسات. وهي أيضاً رياضة بالمعنى الحقيقي للكلمة، إذ يقوم المراقب بالمشي في البراري والحقول، ويتسلق الصخور ويهبط إلى الوديان ويعبر المستنقعات، بحثاً عن الطيور في بيئاتها، حيث يتنفس الهواء النظيف ويمتع نظره بالطبيعة العذراء.
مراقبة الطيور هي جزء من عملي الاحترافي. لكنني أسعى دائماً لاصطحاب الأصدقاء وبعض المهتمين بالمحافظة على البيئة ليشاركوني في رحلاتي، لعل قلوبهم تأنس الطير فيصبحوا من المدافعين عنه. في رحلات كهذه تتكون عدَّتنا من منظار مكبر (ناضور ـ دوربين) وكتاب دليل للطيور ودفتر صغير وقلم وكاميرا، وفي بعض الأحيان تلسكوب. أثناء المراقبة ننظر إلى الطائر بالمنظار، ونصف ألوان الذيل والجناح والعنق والصدر والمنقار والأرجل، ونعُدّ الخطوط تحت الذنب أو تلك التي تحت الجناح، ونلاحظ طريقة طيرانه أو نصغي إلى أصواته، إلى ما هنالك من ميزات تسهل التعرف عليه.
نرتاح تحت شجرة أو في ظل صخرة وعيوننا تراقب البر والسماء، لعلنا نسجل نوعاً جديداً أو نحصي أعداداً في رف يقترب من بعيد. كل ذلك يشكل متعة لا يحس معها المرء بتعب ولا ملل، في الوقت الذي يتعرف فيه على قرى بلاده وطبيعتها ويشتري منها ما يأكله ويشارك أهلها همومهم ومسراتهم.
هذه الرياضة هي جزء من السياحة البيئية التي تدر أموالاً هائلة على بعض البلدان، التي تعرف تماماً كيف تستفيد منها وتدعو إليها المهتمين بمراقبة الطيور من أنحاء العالم بواسطة الإعلان ووكالات السفر والسياحة. ففي تركيا، مثلاً، تدر هذه الرياضة نحو 8 ملايين دولار سنوياً، بينما تدر في الولايات المتحدة ما لا يقل عن 30 بليون دولار سنوياً.
متى تأتي الطيور؟
تأتي الطيور إلى لبنان إما أثناء عبورها في فصلي الهجرة من مواطن تفريخها في أوروبا وآسيا إلى مواطن إشتائها في أفريقيا، أو العكس. منها ما يتوقف في لبنان، إما للإشتاء فيه مكتفياً بمناخه المناسب وإما للتفريخ حيث يجد البيئة المناسبة.إضافة إلى هذه الطيور المهاجرة، هناك أنواع مقيمة في لبنان على مدار السنة ولا تغادره إطلاقاً.
وقد تم تسجيل 375 نوعاً من الطيور في لبنان, منها 56 نوعاً قاطناً ومعششاً، و55 نوعاً مصيفاً ومعششاً يفد في الربيع فقط ليعشش ويغادر، و174 نوعاً مهاجراً ومشتياً منتظماً، والبقية أنواع عابرة مصادفة لأسباب يتعلق معظمها بالأحوال الجوية.
من بين الطيور المهاجرة والقاطنة، هنالك 14 نوعاً مهدداً بخطر الإنقراض على المستوى العالمي، من أصل 29 نوعاً تمر في الشرق الأوسط ومن أصل 1000 نوع تتوزع على بقاع العالم. ومن هذه النورس الأدويني والنسر الأسود والعقاب الأمبراطوري وطائر السلوى وصقر العويسق.
بعض فوائدها
تساعد الطيور الإنسان في القضاء على الآفات الزراعية من دون أي مقابل، وتساهم في تلقيح النباتات. السمّن، مثلاً، يساهم في انتشار شجر اللزاب والعديد من الأشجار الحرجية الأخرى. والسنونو تأكل نحو 4000 حشرة في اليوم، ما يعادل وزنها تقريباً. وتلتهم الطيور التي تمر في لبنان نحو 80 ألف طن من الحشرات والقوارض في اليوم الواحد. وتقضي الصقور والبواشق في النهار على القوارض، كالفئران التي تفتك بالمحاصيل الزراعية, بينما تقوم طيور البوم بالمهمة نفسها ليلاً.
وتلعب النسور دور عمّال البلديّة في الطبيعة، فتنظفها من الجيف (الحيوانات النافقة) لتقي الإنسان شر انتشار الأوبئة. ويساعد الواق أو القيقب في القضاء على دودة الصندل ويرقات الحشرات التي تهدد الغابات. ويساهم القرقف أو سن المنجل في التحكم بحشرة السفلسيا التي تفتك بأرز تنورين.
من الفيروسات التي تصيبها تصنع لقاحات أمراض كثيرة تصيب الإنسان. ومن عظامها المجوفة صنعت أغلى الآلات الموسيقية وأتقنها في العالم. وبرازها المتراكم على الصخور في بعض دول أميركا الجنوبية يشكل مادة تصدير رئيسية لهذه الدول.
الطيور، من جهة أخرى، تشنف الآذان بتغريدها العذب، وتمتع النظر بشكلها الجميل، وتلهم الكاتب والشاعر والقصّاص والأديب وأهل الفن والطرب والغناء والرسم والنحت. وهي مادة ثقافية وضعت رسومها وصورها على طوابع البريد وأعلام الدول وشعارات المؤسسات، وورد ذكرها في الأساطير والحكايات والكتب السماوية. ولسهولة مشاهدتها في أي مكان، تعتبر الطيور مادة تربوية بامتياز لطلاب المدارس.
لماذا تنقرض؟
تختفي الطيور مع انحسار المساحات الخضراء التي تشكل مأوى لها، نتيجة الحرائق وقطع الأشجار وتوسيع الرقع الزراعية وانتشار الغابات الإسمنتية. ومن أسباب اختفائها أيضاً إدخال أنواع غريبة من الحيوانات تفترسها أو تنافسها على سبل الحياة. كما يقضي عليها رش المبيدات السامة، والصيد العشوائي وعدم تطبيق القوانين.
فماذا يمكنك أن تفعل لمساعدتها؟
لا تقتنص العصافير، بل مارس هواية أخرى كرماية الأطباق أو مراقبة الطيور أو تصويرها أو رسمها.
لا تدمّر أعشاشها أو تأخذ فراخها, بل قم بتعليق أعشاش اصطناعيّة لها في الحدائق والمساحات الخضراء وعلى أشجار الغابات والأحراج.
أعط الطير فرصة للتكاثر، ودعه يعشش بهدوء.
إذا كنت من محبي الصيد، التزم بمواعيد ابتداء موسم الصيد وانتهائه وبالأنواع المسموح صيدها. ولا تستعمل الدبق والشراك والشباك وآلات التسجيل.
لا تقطع الشجر، ولا تكن سبباً لاشتعال حرائق في الغابات.
لا تستعمل المبيدات الزراعيّة ولا تنصح باستعمالها، بل شجع الزراعات العضوية.
انتسب إلى جمعيّة حقيقية لحماية الطيور والبيئة. وكلما سنحت لك الفرصة، قم بتوعية الناس حول فوائد الطيور وأهمية حمايتها.
الدكتور غسان رمضان جرادي متخصص بعلم الطيور البرية ورئيس محمية جزر النخل في شمال لبنان.