مدينة الفلوجة في العراق ربما تستحق أن تستأثر باهتمام كل ناشط في مجال البيئة. فمنذ الاحتلال الاميركي للبلاد في 9 نيسان (ابريل) 2003 قتل فيها ما لا يقل عن 30 ألف مدني، باعتراف فريق طبي بحثي من جامعة هارفرد عمل ميدانياً بالتعاون مع فريق طبي من جامعة المستنصرية العراقية. وتوصل الفريق المشترك الى ان عدد المدنيين العراقيين الذين قتلوا منذ الاحتلال تجاوز 100 ألف، ثلثهم من الفلوجة التي لا يزيد تعداد سكانها على 600 ألف نسمة في مساحة 36 كيلومتراً مربعاً.
الفلوجة مرت بحدثين شغلا العالم. الأول ازمة نيسان (ابريل) 2004 التي قتل فيها أكثر من 750 مدنياً. والثاني معركة تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 التي استمرت لاكثر من شهر ونصف شهر وقتل فيها اكثر من 6000 نسمة، باقرار منظمات دولية مثل الصليب الاحمر والهلال الاحمر. وكنت شاهداً على هذه المعركة التي ينبغي اعتبارها احدى أكبر مجازر التاريخ المعاصر. وكنت خلالها المصدر الاعلامي الوحيد لأكثر من خمسين شبكة اذاعية وتلفزيونية.
بدأت المعركة في 1/11/2004، وكانت الطائرات الحربية والدبابات والمدرعات تقصف بعنف لم يحصل سابقاً. ونتيجة لذلك لم يبق في الفلوجة سوى 100 ألف نسمة بعدما نزح 500 ألف. كان القصف عشوائياً واستهدف الأحياء السكنية. وكنت اشاهد النساء والاطفال يهرعون مذعورين في الشوارع، وكل متر مربع يشهد انهمار مئات الشظايا في كل دقيقة. فسقط مئات المدنيين مثل الطيور قتلى وجرحى في شبه إبادة. وكثيراً ما كانت الصواريخ والقذائف تتصادم في سماء المدينة في مشهد يندر مثيله. ومع انقطاع المنظومة الكهربائية بعد تدميرها، باتت الانفجارات العنيفة المتواصلة وارتفاع ألسنة النيران في المنازل والمحال التجارية تحول الليل الى نهار. وملأت سحب الدخان الخانقة أجواء المدينة وعانى الناس من صعوبة في التنفس.
وباتت الشوارع والمنازل مقابر جماعية. ولما طالت العمليات العسكرية تعفنت جثث القتلى وانبعثت منها روائح لا تحتمل، ما زالت تنبعث من أحياء الضباط والعسكري والشهداء بعد مضي نحو خمسة أشهر على الهجوم.
أبناء الفلوجة الذين نزحوا إلى القرى وأطراف المدن عاشوا شهور الشتاء الباردة في خيم بلا تدفئة ولا أغطية كافية، الى جانب سوء التغذية وانعدام المستلزمات الصحية. وسرت أمراض انتقالية بين سكان المخيمات مات ضحيتها مئات معظمهم أطفال. وفي خرق للقوانين الدولية وقواعد البيئة وحماية الإنسان، ألقت القوات الأميركية مواد كيميائية سامة في الفلوجة. وبحسب قول الطبيب إبراهيم الكبيسي، وهو رئيس فريق طبي من وزارة الصحة أرسل إلى الفلوجة وقت العمليات العسكرية، فان التحليلات الطبية أكدت مقتل عدد كبير من المدنيين باستنشاق المواد السامة، وقد تحللت اجسادهم وتفسخت. ومن اعتراف القوات الاميركية بخطورة التلوث في المدينة انهم حذروا المواطنين، في بداية دخولهم الى الفلوجة في 25/12/2004، من تناول أي مواد غذائية في المنازل أو مياه الشرب في الخزانات، وجاء ذلك في تعليمات طبعت في منشورات تم توزيعها على المواطنين.
مراكز البيئة تنتشر، وأصوات الناشطين البيئيين ترتفع، غير أن هناك خروقات واسعة النطاق تمارسها دول متقدمة تكنولوجياً لكنها متخلفة الى أبعد الحدود من الناحية الانسانية.
|