المنطقة العربية، التي قادت العالم في العلوم والرياضيات والأدب في فترة مضت، تواجه الآن تحديات تنموية وبيئية فريدة. وعلى رغم التحسينات المطردة خلال العقد المنصرم، فان أجيال المستقبل في هذه المنطقة ستستمر في مواجهة تحديات بيئية جدية، ما لم تبذل عناية كبيرة وتستثمر الأموال لعكس حالة التدهور البيئي الراهنة، خصوصاً في ما يتعلق بشح المياه ومشاكل التلوث والصحة وضعف المؤسسات البيئية والأطر القانونية.
المشاكل البيئية والطبيعية تمليها جغرافية المنطقة ومناخها الجاف وشبه الجاف. ونتيجة لذلك، أدى توزع الموارد المائية والأراضي الصالحة للزراعة الى تركيز نحو 250 مليون شخص في المناطق الساحلية وأودية الأنهار. هذه الظاهرة، التي رافقها تركيز مماثل للصناعة والزراعة والنقل، خلقت مشاكل فريدة ومعقدة تتعلق بالادارة البيئية. والضغوطعلى قاعدة الموارد تفاقمها الطلبات الناتجة عن معدلات النمو السكاني المرتفعة نسبياً والهجرة المستمرة من المناطق الريفية الى المراكز المدينية المكتظة بصورة متزايدة.
هناك في أنحاء المنطقة انقسام ثنائي في التنمية. فمستويات التعليم والصحة والنمو السكاني والتدهور البيئي تدل على أن بلدان المنطقة هي أقل نمواً مما توحي نظرة عجلى على اقتصادياتها وبنيتها التحتية. وفي طول البلدان وعرضها فوارق مذهلة في الدخل وفرص العمل. هذه الفجوات التنموية يعقّدها التباين الهائل في الأوضاع الاقتصادية والموردية لهذه البلدان. فبعضها يملك موارد نفطية كبرى ويجتذب العمالة من أجزاء أخرى من المنطقة، ولدى بعضها الآخر وفرة سكانية وموارد طبيعية محدودة وهي تصدر العمالة. وثمة بعض البلدان ذات الدخل المنخفض تعاني من محدودية في المؤسسات الحكومية والموارد البشرية. لكن ما يجمع كل بلدان المنطقة هو حاجة واضحة لتقوية المؤسسات، خصوصاً تلك التي لها علاقة بدمج قضايا حماية البيئة وادارة الموارد الطبيعية في عملية التنمية الشاملة. لا مفر من وجود مؤسسات أقوى اذا كان المطلوب تحقيق تحول ناجح الى التوازن والتنمية المستدامة في أنحاء المنطقة العربية.
شحّ وتصحر وتلوث
القضايا البيئية الرئيسية التي تواجه المنطقة تتمحور، بطريقة أو بأخرى، حول انخفاض كميات المياه المتوافرة للاستهلاك البشري، والقضايا الخطيرة المتعلقة بنوعية المياه والناشئة عن محدودية الامدادات والمعالجة البلدية غير الوافية وارتفاع كمية مياه الصرف الزراعي والتصريف الصناعي غير المنضبط.
يبلغ معدل توافر الماء لكل فرد في المنطقة حالياً قرابة 1200 متر مكعب في السنة (المعدل العالمي نحو 7000 متر مكعب). ووفق البنك الدولي، يتوقع أن تهبط الموارد المائية السنوية لكل فرد الى 740 متراً مكعباً بحلول سنة 2015. وعلى رغم تناميأعداد سكان المدن، فان قرابة 90 في المئة من الموارد المائية في المنطقة مخصصة للقطاع الزراعي، بينما لا يذهب الى الاستهلاك المنزلي الا 7 في المئة.
فيما يبقى التوافر التقليدي للمياه ثابتاً نسبياً، يتزايد الطلب بحدة نتيجة النمو السكاني وتطور مشاريع الري. ولتلبية هذا الطلب المتزايد، يتم استخراج المياه الجوفية، المصدر الرئيسي للمياه في بلدان كثيرة، على نحو يتجاوز معدل تجددها في أنحاء من المنطقة. ففي شمال افريقيا الساحلي، أدى الضخ الجائر للمياه الجوفية الى تلويث الطبقات المائية بمياه البحر المالحة.
يخفض تردي نوعية المياه من توافر المياه العذبة للاستعمال المنزلي والزراعي ويزيد كلفة معالجة المياه واعادة استعمالها. ان أقل من 15 في المئة من مجموع المياه المبتذلة المتولدة في المنطقة يعالج بالشكل المناسب. ومن مصادر التلوث الأخرى مياه الصرف الزراعي الناتجة عن المبالغة في استعمال المبيدات والأسمدة الكيميائية، ومياه التصريف الصناعي المحتوية على معادن ثقيلة ومواد سامة.
وعلى رغم بعض التقدم، ما زال 45 مليون شخص محرومين من المياه المأمونة، و85 مليون شخص، أي نحو 30 في المئة من سكان المنطقة، محرومون من مرافق صحية مناسبة.
وتعاني المنطقة أيضاً من خسارة الاراضي الصالحة للزراعة وتزايد التدهور الساحلي. وتتقلص الأراضي الزراعية الدائمة، التي تقل حالياً عن 6 في المئة من المساحة الاجمالية، نتيجة التدهور. ويقدر أن الأثر التراكمي لتدهور الاراضي بلغ 1,15 مليار دولار في السنة كخسارة في الانتاج الزراعي. وانعدام الادارة المتكاملة للمناطق الساحلية يفاقم التنافس على الاراضي والموارد البحرية. ويقدر البنك الدولي أن المنطقة تخسر قرابة 1,2 مليار دولار سنوياً كعائدات سياحية نتيجة تدهور المناطق الساحلية وتصريف المياه المبتذلة في البحر.
أما التلوث المرتبط بمشاكل صحية، خصوصاً في المراكز المدينية والصناعية، يمثل تحدياً بيئياً رئيسياً آخر. ومن مصادره مكبات النفايات البلدية المكشوفة، وحرق النفايات البلدية في الهواء الطلق، وأسطول سيارات متقادم وسيئ الصيانة، والاستعمال غير الكفوء للوقود الاحفوري في توليد الطاقة وفي الصناعة، وانبعاثات أكاسيد الكبريت من الصناعة.
ان تركيز الصناعة حول المراكز المدينية الرئيسية مسؤول عن جزء كبير من تلوث الهواء في المنطقة. فالقاهرة والاسكندرية، مثلاً، مسؤولتان عن قرابة 95 في المئة من التلوث الصناعي في مصر. وثمة وضع مماثل في المغرب والجزائر وتونس.
أين البيئة في السياسة؟
المشاكل البيئية في المنطقة ليست قضايا مجردة لا يستطيع أن يتحملها الا الأثرياء، كما يقال عادة. هذه المشاكل التي تدوم طويلاً لها تأثيرات لا يستهان بها على الاقتصاد وصحة الانسان. وقد قدرت خطط العمل البيئي الوطني لبلدان المنطقة أن الكلفة السنوية للاضرار البيئية تراوح من 4 الى 9 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي لبعض البلدان. ومن الأمثلة على ذلك الجزائر (9,6٪) والمغرب (8٪) وسورية (7٪) ولبنان (6٪). وهذه التكاليف أعلى من تلك التي في اوروبا الشرقية (5٪)، وأعلى الى حد كبير مما في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (2 ـ 3٪). وعموماً، يقدر ان العبء الصحي البيئي هو في حدود 15 في المئة من مجموع العبء الصحي في المنطقة.
التقدم البطيء في تحسين نوعية البيئة وتحقيق التنمية المستدامة في المنطقة العربية متأصل في اخفاقات سياسية ومؤسساتية، مقرونة بانعدام الوعي الجماهيري وضعف القاعدة المعرفية. وفي كثير من البلدان، لم يتقدم إمكان حصول الجماهير على معلومات بيئية. وما زالت الأسعار المدعومة للمياه، خصوصاً في الري، العقبة الرئيسية لكثير من البلدان. كذلك يسود دعم أسعار الطاقة.
لا يمكن تعزيز استراتيجيات التنمية الا عندما تدمج القضايا والاجراءات البيئية في الخطط والسياسات. وعلى البلدان العربية أن تزيل الحوافز الفاسدة المتضمنة في الدعم والتدخل في الأسعار، التي تفاقم الخسائر الاقتصادية والايكولوجية، خصوصاً في قطاعي الطاقة والزراعة.
ومن شأن تحرير الاستثمار أن يوفر فوائد بيئية كبيرة، من خلال تشجيع المنافسة والتخصص وتحسين سبل الحصول على تكنولوجيات رؤوفة بالبيئة. وهذا مناسب بنوع خاص حيث الصناعات المركزة حول المدن في المنطقة العربية تتبع القطاع العام وتعمل وفق تكنولوجيات ملوثة جداً بطل استعمالها. ان مشكلة وجود الفوسفات في امدادات المياه في تونس، ومشاكل التلوث الزئبقي في الجزائر، ومشكلة الغبار الاسمنتي في مصر، ترتبط جميعها بالملكية شبه الحكومية. وازدياد المنافسة والاستثمار في التكنولوجيات الرؤوفة بالبيئة يمكن أن يحقق تخفيضات جوهرية في مشاكل تلوث الهواء والمياه الناتجة عن الصناعة في تلك البلدان. وفي حالات كثيرة، يجب استكمال هذه الاصلاحات السياسية باجراءات هادفة لكسر حلقات الوصل السلبية بين التنمية الاقتصادية والتدهور البيئي. ويمكن توجيه الضرائب أو الأنظمة الحكومية المباشرة الى مستخدمين محددين للموارد، لاخضاعهم لمحاسبة كاملة على النفقات البيئية لسلوكهم.
من العوامل الرئيسية في تحقيق تنمية مستدامة وسليمة بيئياً بناء القدرة المؤسساتية والتقنية على اختيار وتطبيق وتكييف تكنولوجيات مناسبة للطاقة والنقل والانتاج الصناعي والزراعي. وهناك أيضاً حاجة لدعم اقامة شبكة راقية من مراكز الأبحاث والتدريب في البلدان العربية، من أهدافها تسهيل نقل المعارف وتطوير قدرة قوية في العلوم والتكنولوجيا لتحسين ادارة الموارد الطبيعية. ومن شأن هذه المراكز أيضاً تعزيز قدرة البلدان على تقييم التأثيرات الاقليمية للتغير العالمي وعلى المشاركة بفعالية فيالمناقشات والمفاوضات الدولية حول البيئة العالمية.
يجب أن تكون المعرفة العلمية أساس تبيان أهداف التنمية المستدامة، من خلال تقييمات علمية للأوضاع الراهنة والامكانات المستقبلية للبيئة في المنطقة العربية. ويجب استخدام هذه التقييمات أيضاً للابلاغ عن تطوير استراتيجيات بديلة لوضع سياسات طويلة الأمد. البحث والتطوير في مجالي العلوم والتكنولوجيا يجب أن يتيحا إدخال تحسينات في كفاءة استهلاك الموارد، بما في ذلك استخدام أكثر كفاءة للطاقة في الزراعة والصناعة والنقل، وتطوير مصادر طاقة بديلة خصوصاً الطاقة الشمسية. الاستجابة لتحديات التنمية المستدامة المعقدة والمترابطة تتطلب أيضاً زيادة التعاون الاقليمي. ومن شأن التعاون الاقتصادي بين البلدان أن يخفف التوترات، ويتيح لها اعادة توجيه مواردها نحو التنمية، ويعزز بيئة اقتصادية مؤاتية أكثر ويخفف التوتر وعدم الاستقرار. والتعاون في التجارة يوسع السوق ويسمح بجني مكاسب من الاقتصاديات الكبيرة ومن اعتماد التكنولوجيا. وبعض مشاريع البنية التحتية والبيئية، التي تحمل وعداً بالمساهمة في ازدهار اقتصادي، لا يمكن تنفيذها الا في سياق اقليمي.
بداية القرن الحادي والعشرين هو وقت ملائم لارساء ''أجندة عربية للتنمية المستدامة والبيئة'' ومعاهدة اقليمية توجه الموارد لمواجهة التحديات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية. بمعاهدة اقليمية من هذا النوع، وبازدياد التعاون الاقليمي، يكمن استقرار المنطقة العربية وازدهارها وأمنها على المدى البعيد.