في موازاة اقتلاع الصخور والرمال البرية تحت ستر تراخيص استصلاح الأراضي وشق الطرقات، تمارس في لبنان سرقة الرمل البحري من الشواطئ ومجاري الأنهار، وتمتد أنابيب الشفط غير المشروع الى قاع البحر بحجة تعميق ميناء أو تنظيف مأخذ مياه تبريد. في هذا التحقيق عرض لعمليات النهب في ثلاثة مواقع رئيسية على الشاطئ اللبناني، نجحت جمعيات بيئية في وقفها بعدما تضامنت في حملة شرسة على الناهبين.
من المفجع أن ظاهرة شفط الرمال البحرية أضحت في هذه الايام منتشرة على طول الشاطئ اللبناني، رغم نتائجها المأسوية على البيئة البحرية وعلى الشواطئ الرملية بشكل خاص. فهذه الشواطئ أصبحت قيد الانقراض في لبنان، علماً أن البحر المتوسط ليس بمعمل لانتاج الرمل، لكون الجرف القاري ضيقاً والمناطق الرملية ضيقة فأصبحت بالتالي محدودة. والشواطئ التي نهبت منذ سنوات ما زالت تنتظر عودة الرمال اليها، كما هي الحال في الناقورة والصرفند على سبيل المثال. والى ذلك فان شفط الرمل من قاع البحر يزيل الدعائم الأساسية للشاطئ الرملي، الذي ينهار بفعل انهيار قاعدته في البحر ويتسبب في تآكل الاراضي المجاورة، كما حدث في القاسمية وفي شاطئ سهل الدامور حيث أضحت بعض العقارات الخاصة أملاكاً مطمورة في قاع البحر.
عمليات شفط الرمل البحري تحدث بالسرقة من قبل أفراد نافذين يحصلون على تراخيص لاستصلاح الشواطئ المملوكة، كما حدث في شاطئ صور الشمالي مؤخراً. كذلك تحدث بناء على تراخيص تعطيها المديرية العامة للنقل البري والبحري في وزارة النقل والأشغال العامة بناء على طلب من وزارة الطاقة، من أجل تنظيف الرمال التي تتراكم حول شفّاط مياه التبريد في معامل توليد الكهرباء، كما هي الحال في معمل الجية والمعامل الأخرى المنتشرة على طول الشاطئ اللبناني. وسبب آخر لاعطاء هذه التراخيص هو لتنظيف مجرى أي نهر كما حصل في نهر الكلب مؤخراً، او لتعميق ميناء سياحي كما حصل في الهوليداي بيتش او ميناء صيادين كما حصل في ميناء العبدة شمال لبنان. وهذه التراخيص ما هي الا اذن شرعي لسرقة احدى أهم ثروات هذا الوطن الطبيعية والتي هي ملك لكل اللبنانيين ويمكن اعتبارها ''ذهب لبنان الأصفر''. ولا نفهم لماذا تفرّط المديرية العامة للنقل البري والبحري بهذه الثروة، بشكل لا يصدق، وهي المؤتمنة عليها، وذلك عن طريق تشريع التعديات أو التغاضي عنها.
لا شك أن من الضروري في بعض الحالات اعطاء تراخيص لتعميق ميناء أو لفتح مجرى نهر أو لتنظيف مآخذ مياه التبريد التابعة للمعامل الحرارية كما في الجية والذوق. ولكن من الضروري أيضاً أن تبقى عمليات الشفط محصورة في المنطقة المحددة بالترخيص، وأن تعاد الرمال المشفوطة الى داخل البحر أو تنشر على الشواطئ التي تحتاج الى كسوة رملية، وما أكثرها في لبنان.
ماذا يحصل في الجيّة؟
أخطر عمليات لشفط الرمل من قاع البحر حصلت مؤخراً في الجية ونهر الكلب والعبدة. وقد قامت نقابة الغواصين المحترفين برصدها وتوثيق المخالفات بمئات الصور الفوتوغرافية وساعات من الفيديو فوق الماء وفي قاع البحر. وشاركت في هذه الحملة الوطنية 17جمعية بيئية هي: الخط الأخضر، بحر لبنان، الهيئة اللبنانية للبيئة والانماء، بيبلوس ايكولوجيا، غرينبيس، المربع الأخضر، طبيعة بلا حدود، شعاع البيئة - الصرفند، أمواج البيئة، التجمع اللبناني لحماية البيئة، أصدقاء البحر، تجمع شباب الهرمل لحماية البيئة، الارض - لبنان، هيئة حماية البيئة والتراث في الكورة وجوارها، رابطة الاساتذة الجامعيين لحماية البيئة، الجمعية التعاونية لصيادي الأسماك في ساحل الشوف، ومنتدى انسان.
انطلقت الحملة من منطقة الجية، حيث تقوم شركة الشرق الأوسط لاستخراج الرمول بشفطها من قاع البحر بموجب ترخيص من المديرية العامة للنقل البري والبحري في وزارة النقل، بعد التزام ''أشغال تنظيف منطقة معمل الجية من الرمول وسائر المواد''. وقد بلغت قيمة الالتزام 482 مليون ليرة لبنانية، بعد طلب قدمه مدير معمل الجية الحراري الى مؤسسة كهرباء لبنان عبر وزارة الطاقة، وبعد إجراء مناقصة عمومية لتنظيف الحوض الذي يحتوي على برك تدخل مياه البحر من خلالها عبر المصافي لتبريد معدات توليد الكهرباء.
أعطيت الشركة الملتزمة الحق باستخراج 67,000 متر مكعب من الرمال مع 15 في المئة هامش سماح، ما يوصل الكمية الى 77,000 متر مكعب من داخل حوض البرك ومن مساحة تمتد 50 متراً خارج مدخل الحوض من رأس ''السنسول'' الصخري. وحدد الترخيص مدة الأشغال بأربعة أشهر مقسمة الى مرحلتين، الأولى من 11/10/2004 حتى 11/12/2004 والثانية من 7/4/2005 حتى 7/6/2005. ويحق للشركة خلال هذه الفترة استعمال عشرات الشفاطات اذا ارتأت ذلك لتنفيذ الالتزام ضمن المهلة المحددة خلال ساعات الليل والنهار، أي 24 ساعة يومياً، ولكن بشرط ألا يقوم الملتزم باخراج أي رمال من مواقع التجميع الا خلال ساعات النهار، لمراقبة الكمية المستخرجة والتي يتولاها المهندس المشرف من قبل المديرية العامة للنقل البري والبحري. والمضحك أن هذا المهندس يتقاضى معاشه من الملتزم نفسه حسب دفتر الشروط، الذي ينصّ على أن ''أتعاب هذا المهندس هي على عاتق المتعهد الذي يتوجب عليه أن يعقد اتفاقاً معه يخضع للموافقة المسبقة للادارة''. والأغرب أن المنطقة التي حددت في الخرائط لاستخراج الرمل منها صغيرة نسبياً، اذ تقع ضمن ميناء صغير لا تتعدى مساحته 4000 متر مربع ولا يمكن ان تحتوي على أكثر من 5000 متر مكعب من الرمل. والسؤال المهم هنا هو: من أين أتت المديرية العامة للنقل البري والبحري بكمية 77,000 متر مكعب؟ فلو حاولت المديرية وضع هذه الكمية الخيالية في المنطقة المحددة في الخريطة، لخرج من قاع البحر جبل رملي علوه عشرات الأمتار!
وقد ثبَّت الملتزم هذا بفعله، اذ قام بوضع شفّاط داخل الحوض وشفّاطين في البحر خارج المنطقة المحددة بالترخيص. وبدأ شفط الرمال من قاع البحر بطريقة عشوائية وإجرامية، ونقلها عبر أنابيب طويلة الى الجهة الجنوبية الغربية من الحوض الذي التزم المشروع تنظيفه من الرمال المتراكمة بمحاذاة مداخل أنابيب التبريد، والتي يزعم مدير معمل الكهرباء أنها تسبب أضراراً للمولدات. بعد ذلك تقوم ''البوكلين'' (جرافة) بنقل هذه الرمال من داخل الحوض الى خارجه، ومن ثم الى الشاحنات التي كانت تنقل الرمال المباعة الى ورش البناء. وبما ان الكمية التي كانت تشفط من البحر لا يمكن تصريفها بالسرعة التي تشفط بها، عمد المتعهد الى تجميعها في منطقة سبلين العقارية في مقلع كسّارة توقف عن العمل منذ سنوات. وقدرت كمية الرمال المجمعة في هذه المنطقة بنحو 50,000 متر مكعب.
بدت المخالفات واضحة وموثقة بالصور. لكن الجمعيات البيئية فشلت في التوصل الى صيغة تفاهم مع المديرية العامة للنقل البري والبحري، التي ماطلت لأكثر من شهر ونصف شهر، الى أن اصطفت مدافعة عن الملتزم رافضة وقف أعمال الشفط وفسخ العقد مع الشركة الملتزمة. فلجأت الجمعيات الى وسائل الاعلام والى اللجنة النيابية للأشغال التي طلبت احالة الملف في منطقة الجية الى التفتيش المركزي. وبعد ذلك قرر وزير النقل آنذاك احالة ملفي نهر الكلب والعبدة الى التفتيش المركزي أيضاً.
نهر الكلب والعبدة: سرقة في وضح النهار
مشروع نهر الكلب يحمل شقين، الأول تنظيف مجرى النهر كي لا يفيض، لكنه تحول الى مشروع طويل الأمد لقطع الطريق على الرمل من الوصول الى البحر ومن ثم سرقة رمل الشاطئ. والشق الثاني كان تعميق ميناء الهوليداي بيتش، الذي يحتاج الى تعميق حقاً، ولكن المتعهد سمح لنفسه أن يشفط الرمال من كل البحر ومن كل المناطق التي توجد فيها رمال، وبحسب قول وزير البيئة فقد ''وصل الى قبرص''. والسؤال هو: أين المديرية العامة للنقل البري والبحري المانحة للترخيص؟ وأين المهندس المشرف من قبلها؟ ولماذا مشروع يحتاج الى عدة أسابيع على الأكثر يبقى شغالاً لسنين؟
أما في العبدة، في شمال لبنان، فالهدف هو تعميق ميناء الصيادين. وتعميق موانئ الصيادين عملية بسيطة تتطلب من المتعهد أن تكون لديه عوامة (barge) يضع عليها ''بوكلين''، وبواسطتها يحفر قاع البحر داخل حرم الميناء ويضع الرمال أو الاوساخ داخل العوامة ومن ثم ينقلها الى حيث يريد. لكن المتعهد قرر أن يردم طريقاً في وسط الميناء بذريعة الحاجة لوصول البوكلين الى داخل الميناء. ولكن من المستحيل أن تصل ذراع البوكلين أبعد من عدة أمتار في كلا الاتجاهين، أي شمال وجنوب الطريق التي قام بردمها في وسط الميناء. والسؤال هنا: كيف أعطي المتعهد التلزيم من دون أن يملك المعدات اللازمة؟ أين مراقب المديرية العامة للنقل البري والبحري المرخِّصة للمشروع؟ ولماذا أعطي المتعهد ستة أشهر لتنفيذ المشروع الذي لا يتطلب أكثر من اسبوعين أو ثلاثة على الأكثر؟
لكن المهم هنا أن المتعهد لا يعمل على تعميق الميناء، بل يقوم علانية وفي وضح النهار بسرقة الرمال البحرية من القاع ومن الشاطئ الواقع في محاذاة السور الجنوبي للميناء (أي الشاطئ الجنوبي) بواسطة بوكلين، وأحياناً اثنتين، وتجميعها ومن ثم نقلها الى منطقة تخزين تقع مقابل الميناء. أحد السكان أخبر وفد الجمعيات البيئية الذي زار المنطقة بنيَّة البلدية تحويل الشاطئ المنهوب الى مسبح شعبي. وهذا بالتأكيد سيكون سبب غرق كثيرين من زوار هذا الشاطئ.
ومن العجيب غياب أو تغييب البلديات التي تقع ضمن حدودها هذه الشواطئ التي تنهب علانية، فلا تكترث ولا تحرك ساكناً. ففي منطقة الجية، على سبيل المثال، لم يقتنع رئيس البلدية الدكتور جورج قزي بالمشاركة في الحملة التي تهدف الى وقف التعديات وسرقة رمال شاطئ الجية، مع أنه ادعى بغضب وعتاب شديدين تهميش البلدية من قبل المديرية العامة للنقل البري والبحري. وقد فوجئنا بعد أيام بأن شركة الشرق الأوسط لاستخراج الرمول قدمت الى البلدية هدية متواضعة عبارة عن حمولة أربع أو خمس شاحنات رمل مسروقة من شواطئ الجية! ووضعت هذه الكمية بالقرب من مبنى البلدية، ولكن عندما علم أهالي الجية بالأمر ثار غضبهم، فعمدت البلدية الى ارجاع الهدية الى الشركة. كذلك أثارت هذه القضية غضباً عارماً لدى الجالية اللبنانية في اوستراليا، حيث يوجد نحو عشرة آلاف لبناني من أهالي الجية، الذين عبروا عن رفضهم الشديد لسرقة رمال شاطئ بلدتهم ودعمهم المطلق للجمعيات البيئية المتصدية للمعتدين على هذه الاملاك العامة.
رمال محجوزة حتى إشعار آخر
أثارت الجمعيات البيئية كارثة شفط الرمال عبر وسائل الاعلام. وأرسلت ملفات مزودة بالصور الى وزارات النقل والطاقة والبيئة. لكن الرد الفعلي والجدي، من بين كل هذه الوزارات المعنية مباشرة، لمسناه فقط عند وزير النقل والاشغال العامة آنذاك ياسين جابر، الذي وعد بوضع حد لمسلسل شفط الرمال في لبنان وبعدم منح أي رخص جديدة والتحقيق في كل الملفات الموجودة لدى المديرية. ووافق على نقل الرمال المشفوطة من منطقة معينة ولسبب معين الى شواطئ قريبة من مكان الشفط لكسوها. وهذا ما كان طالب به رئيس لجنة الأشغال النيابية النائب محمد قباني، الذي أحالت لجنته ملف الجية الى التفتيش المركزي، ووعد المديرية العامة للنقل البري والبحري بدعم مادي يصل الى مليون دولار لتنفيذ مشاريع في المستقبل لنقل الرمال المشفوطة الى شواطئ تحتاج لكسوة رملية.
ولا بد من التنويه بالدور الأساسي الذي قامت به مديرية التفتيش المركزي عبر رئيسها القاضي جورج عواد، الذي تابع وما زال يتابع التحقيق في هذا الملف الشائك بأدق تفاصيله وبجرأة وسرعة ربما لا سابق لهما. وحبذا لو تكون نزاهته وجرأته وجديته في التعاطي مع الملف ومصداقيته مع الجمعيات البيئية مثالاً أعلى لكل مسؤول مؤتمن على ثروات هذا الوطن وخيراته.
وزارة البيئة لم تصدر أي بيان استنكار ولم تباشر أي تحقيق. وقد طلبت الجمعيات البيئية المشاركة في الحملة مقابلة وزير البيئة السابق وئام وهاب لتسليمه ملفاً كاملاً عن هذه الكارثة البيئية، فلم تعطَ أي موعد طوال فترة توليه الوزارة.
الجمعيات البيئية شاركت في هذه الحملة بحزم عنيد، رغم الضغوط الكثيرة من أصحاب النفوذ. وفي هذا عبرة للملوثين والناهبين والمدمرين للبيئة، لأن عيون الجمعيات الفاعلة ساهرة على حماية ما تبقى من ثروات طبيعية في لبنان ومستعدة للذهاب الى أبعد الحدود للدفاع عنها.
حتى تاريخ كتابة هذا المقال، ما زالت ''ستوكات'' الرمال المنهوبة من بحر لبنان، في الجية ونهر الكلب والعبدة، موضوعة تحت الحجز من قبل النيابة العامة التمييزية حتى انتهاء مديرية التفتيش المركزي من التحقيق. فهل يبقى الفاعل مجهولاً ومن يدفع الثمن؟
رسالة مفتوحة الى وزير النقل والأشغال
قدمت الجمعيات البيئية الى وزير النقل والأشغال العامة السابق ياسين جابر رسالة مفتوحة تتضمن المطالب الآتية:
أولاً، فسخ العقود الموقعة بين المديرية العامة للنقل البري والبحري وكل من شركة الشرق الأوسط لاستخراج الرمول (الجية) وشركة الحاج كونتركتنغ (نهر الكلب والعبدة)، وعلى مسؤولية هؤلاء المتعهدين، وتحميلهم العطل والضرر البيئي الذي تسببوا به نتيجة المخالفات، وإلزامهم اعادة الرمال المشفوطة بغير حق الى البحر وعلى نفقتهم الخاصة.
ثانياً، فتح تحقيق للوقوف على حقيقة التقصير الحاصل في مراقبة تنفيذ تلك الالتزامات، وتحميل مسؤوليته في حال تأكد حصوله للأشخاص المقصرين أو المتواطئين.
ثالثاً، أن تكون الالتزامات المستقبلية بتنظيف الاحواض أو تعميق الموانئ على طول الشاطئ اللبناني مشروطة باعادة الرمال المشفوطة الى عرض البحر أو الى شواطئ أخرى بحاجة لكسوة رملية، وأن لا يكون للمتعهد أي حق بتملك تلك الرمال أو بيعها، باعتبار أنها جزء من الثروة الوطنية وبحكم الاملاك العامة.
رابعاً، تقديم اقتراح تعديل لمواد المرسوم 3899 الصادر في 6/8/1993 لجهة اشتراط موافقة وزارة البيئة بعد تقييم الأثر البيئي لأي مشروع لاستخراج مواد معينة من عمق البحر أو عن الشواطئ البحرية.
خامساً، استصدار قانون في مجلس النواب يعطي الجمعيات البيئية الصفة والحق في المراقبة وتقديم الشكاوى الى المراجع الادارية والقضائية المعنية، في حال تبين لها حصول اعتداء على البيئة وتغيير في معالم الطبيعة نتيجة تنفيذ مشروع ما.
خطر البناء برمل البحر
بيَّن فحص مخبري في الجامعة الأميركية في بيروت أجراه الدكتور عماد سعود أن في كل متر مكعب من رمل البحر نحو كيلوغرام من الملح. وفي هذا خطر جسيم على المنشآت التي يستخدم فيها الرمل المشفوط حتى لو تم غسله، علماً أن بعض مقاولي البناء يستخدمونه في جبل الاسمنت من دون أي غسل.