قسَّم علماء التوزيع الجغرافي الحيوي (biogeography) مياه البحار والمحيطات المنتشرة على سطح كوكبنا الأزرق إلى العديد من البيئات أو الممالك البحرية (realms). وذلك بناء على الخواص الحيوية لكل بيئة، أي ما تحويه من أنواع حيوانية ونباتية تميزها عن البيئات البحرية الأخرى، وأيضاً الخواص الطبيعية مثل درجة الحرارة والملوحة وشفافية الماء. وقد أوضح القرآن الكريم هذه الظاهرة منذ أكثر من 1400 عام في قوله سبحانه وتعالى في سورة الرحمن: "مَرَجَ البحرين يلتقيان بينهما برزخٌ لا يبغيان".
وقد اختلف خبراء التوزيع الجغرافي الحيوي حول عدد هذه البيئات. فعلى سبيل المثال، صنف بعضهم البحر الأحمر كبيئة منفصلة عن بيئة المحيط الهندي، بينما يصر آخرون تقليديون على اعتباره جزءاً من بيئة المحيط الهندي. أما بيئة البحر المتوسط فتعتبر امتداداً لبيئة شمال المحيط الأطلسي المعتدلة. وعلى كل حال، يتفق هؤلاء الخبراء على وجود سبعة نظم بيئية رئيسية تنتشر في بحار العالم ومحيطاته، هي: بيئة المحيط الهادئ، وبيئة المحيط الهادئ الهندي المشتركة، وبيئة المحيط الهندي، وبيئة المحيط الأطلسي الشمالي، وبيئة المحيط الأطلسي الجنوبي، وبيئة المحيط المتجمد الشمالي، وبيئة المحيط المتجمد الجنوبي.
تصل قناة بناما بين بيئة جنوب المحيط الأطلسي في الشرق وبيئة المحيط الهادئ في الغرب، وهما مسطحان مختلفان تماماً من حيث خواصهما الطبيعية والحيوية. في العام 1879 شرع المهندس الفرنسي فيردينان دو ليسيبس في حفر قناة بناما، بعد عشر سنين من إنجازه حفر قناة السويس. ولكنه لم يوفق في ذلك لعدة أسباب، منها اختلاف المعطيات الجغرافية لجمهورية بناما عن منطقة السويس، فضلاً عن فتك حمى الملاريا والحمى الصفراء بعشرات الآلاف من العمال. ونحمد الله على عدم نجاحه، فلو استطاع أن ينفذ مشروعه في خلط هذين المسطحين البيئيين الهائلين والمختلفين تماماً، فربما تسبب ذلك في تغير التركيبة البيولوجية لكل من بيئة جنوب المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ، ونشوء تنافس كبير بين الأنواع الحيوانية والنباتية المختلفة التي تعيش فيهما، وتالياً انقراض الكثير من الأنواع في كلا الجانبين.
بعد فشل دو ليسيبس في حفر قناة بناما، ابتدع الأميركيون تقنية جديدة للوصل بين المحيط الهادئ والمحيط الأطلسي، عن طريق نقل السفن التجارية على "بغال" ميكانيكية (mechanical mules) في أحواض من المياه العذبة تمنع انتقال الحيوانات والنباتات البحرية من كلا الجانبين.
بين المتوسط والأحمر
رغم التشابه الكبير بين شرق البحر المتوسط والبحر الأحمر في ما يتعلق بدرجات الحرارة والملوحة، فان عدداً قليلاً جداً من أنواع الحيوانات كانت مشتركة بينهما قبل افتتاح قناة السويس عام 1869. ويعود ذلك لأسباب تاريخية. فخلال العصر الميوسيني (الثلثي الأوسط) قبل نحو 24 مليون سنة، اتصل المنخفض الذي أصبح يشغله الآن الجزء الشمالي من البحر الأحمر بالبحر المتوسط، وذلك قبل اتصال البحر الأحمر بالمحيط الهندي الذي حدث لاحقاً في العصر البليوسيني (الحديث القريب) أي منذ نحو أربعة ملايين سنة.
وفي هذه الفترة، كما يشير التاريخ الجيولوجي للمنطقة، تكوَّن نهر النيل، فقذف بكميات كبيرة من المياه العذبة والطمي إلى ساحل البحر المتوسط. وجَرَفت التيارات البحرية هذه المياه بما تحويه من طمي الى جهة الشرق لتكون حاجزاً طبيعياً عذباً أعاق هجرة المجتمعات الحيوانية والنباتية بين المسطحين المائيين. استمر هذا الوضع لفترة جيولوجية طويلة نسبياً. ونتيجة تعرض الحيوانات والنباتات لظروف بيئية جديدة تختلف عن بيئتها الأصلية ولفترات زمنية طويلة، حدثت لها طفرة وراثية (mutation) ساهمت في تطور تركيب الصبغات الوراثية، ما أدى الى نشوء أنواع جديدة من الحيوانات والنباتات في هذه المنطقة تختلف تماماً عن الكائنات التي انحدرت منها والتي تعود في أصولها إلى البحر المتوسط.
لذلك تتميز منطقة شمال البحر الأحمر في الوقت الحالي بوجود أنواع نباتية وحيوانية خاصة بها لا تعيش في شرق البحر المتوسط أو جنوب البحر الأحمر أو خليج عدن.
هجرة عبر السويس
تاريخياً، كان هناك اتصال غير مباشر بين البحر المتوسط والبحر الأحمر قبل حفر قناة السويس عام 1869. ففي القرن التاسع عشر قبل الميلاد حفر الفراعنة قناة تصل بين نهر النيل والبحر الأحمر. وفي عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب أعيد حفر هذه القناة لنقل مؤن الإغاثة إلى الحجاز في عام القحط المعروف باسم "عام الرمادة"، بناء على توصية من أقباط مصر.
حفر قناة السويس كان له التأثير الكبير في هجرة الحيوانات والنباتات البحرية من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط، والتي عرفت بعد ذلك باسم الهجرة الليسيبسية (Lessepsian migration) نسبة الى فيردينان دو ليسيبس الذي يعود الفضل إليه في حفر قناة السويس. أما الهجرة من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر فقد أطلق عليها اسم الهجرة المعاكسة للهجرة الليسيبسية (Anti-Lessepsian migration).
تأثير هجرة الأحياء البحرية عبر قناة السويس درسته عام 1924 بعثة استكشافية أرسلت من جامعة كيمبردج البريطانية. وقد أوضح الباحثون في تلك البعثة أن أكثر من 80 نوعاً من الأسماك التي وجدت في قناة السويس هاجرت من البحر الأحمر، وأن اليسير منها جاء من البحر المتوسط. وعزا علماء التوزيع الحيواني ذلك إلى التيارات البحرية. فمن الثابت علمياً أن متوسط مستوى سطح مياه البحر الأحمر هو أعلى بمقدار 1,2 متر عن متوسط منسوب مياه البحر المتوسط، وذلك خلال عشرة أشهر من العام، من أيلول (سبتمبر) إلى حزيران (يونيو)، بينما يزيد متوسط ارتفاع مستوى المياه في البحر المتوسط، أو يتساوى مع مستوى البحر الأحمر خلال شهري تموز (يوليو) وآب (أغسطس). ويعود السبب في ذلك إلى تأثير الرياح الموسمية التي تهب على بحر العرب، والتي تتسبب عادة في انخفاض مستوى المياه السطحية للبحر الأحمر.
بالقرب من سواحل مدينة السويس تيار مد قوي يعمل على نقل المجتمعات الحيوانية والنباتية من البحر الأحمر حتى منطقة البحيرات المرة، التي تنعدم التيارات البحرية تماماً في جزئها الشمالي. ولكن الفرق بين مستوى المياه السطحية للبحر الأحمر والبحر المتوسط يعمل على نقل هذه الكائنات، خصوصاً الهائمات النباتية والحيوانية (plankton) شمالاً في اتجاه البحر المتوسط خلال فترة عشرة أشهر من السنة بينما قد تتجه جنوباً فقط خلال شهرين (تموز/يوليو وآب/أغسطس).
وكانت البحيرات المرة عند نشأة قناة السويس بمثابة حاجز طبيعي يمنع هجرة المجتمعات الحيوانية عبر القناة، وذلك لملوحة مياهها المرتفعة نسبياً والتي كانت تصل إلى نحو 50 جزءاً في الألف. ولكن نتيجة اختلاط مياه البحيرات بمياه خليج السويس، انخفضت ملوحتها إلى درجات متدنية نسبياً بحيث لم تعد تمثل عائقاً في هجرة الحيوانات والنباتات عبر القناة.
حذارِ الغرباء!
كائنات البحر الأحمر التي هاجرت إلى الحوض الشرقي للبحر المتوسط عديدة، منها 80 نوعاً من الأسماك والعديد من الحيوانات القشرية، من أهمها فصيلة عشريات الأرجل التي تأقلمت على العيش في جميع النظم البيئية للبحر المتوسط. وبما أن جميع التيارات البحرية في الحوض الشرقي للمتوسط تتجه دائماً الى الشرق، فهي غالباً تدفع الكائنات المهاجرة في ذلك الاتجاه. لذلك فإن معظم النباتات والحيوانات المهاجرة يتمركز وجودها بشكل رئيسي على سواحل مصر وفلسطين وسورية ولبنان. ومثال على ذلك هجرة السرطان الأزرق Portunus pelagicus (كابوريا)، الذي أصبح من السلع الشائعة في أسواق السمك في جميع دول شرق وجنوب شرق المتوسط وامتد انتشاره حتى شمال شرق قبرص، والذي لم تعرفه النظم البيئية للبحر المتوسط قبل حفر قناة السويس.
الطحلب الأخضر السام Caulerpa taxifolia الذي تعود أصوله إلى البحر الأحمر، والذي لوحظ انتشاره في مساحات واسعة من البحر المتوسط في منتصف ثمانينات القرن الماضي، اختلف الكثير من خبراء التوزيع الحيوي الجغرافي حول الطريقة التي هاجر بها من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط. فبعضهم يعتقد أنه نقل بطريقة مباشرة عن طريق شركات الأكواريوم التي تستخدمه في أحواض أسماك الزينة، وبعضهم يعتقد أنه انتقل عبر قناة السويس ملتصقاً على السفن التجارية الضخمة أو مع مياه توازنها (ballast water)، والبعض الآخر يرى أنه هاجر مع التيارات البحرية عبر القناة.
ولكن بصرف النظر عن طريقة انتقال هذا الطحلب الأخضر السام من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط، فانه أصبح يمثل تحدياً خطيراً لجميع المجتمعات الحيوانية والنباتية في جميع النظم البيئية للمتوسط.
خبراء البيئة في الولايات المتحدة دقوا ناقوس الخطر، بعد الانتشار الكبير والسريع للطحلب الأخضر السام في مياهها الإقليمية على طول سواحل كاليفورنيا الجنوبية. فقد بات يشكل تهديداً خطيراً ليس فقط للموارد البحرية الطبيعية (جميع أنواع مصائد الأسماك) وغير الطبيعية (جميع أنواع المزارع السمكية)، بل للنظم البيئية البحرية كافة، مما قد يسبب تغيراً كبيراً في مكوناتها.
السؤال الذي يطرح نفسه بشدة هو: هل هناك هجرة معاكسة لحيوانات ونباتات ضارة من بحار العالم ومحيطاته إلى البحر الأحمر؟ الجواب هو نعم. فمنذ فتح قناة السويس للملاحة البحرية، هاجر قديماً الى ديارنا الصرصار الأميركي الأحمر، والجرذ الكبير، وحديثاً الغربان وأنواع كثيرة من الطيور. على أن أهم الهجرات المعاكسة الضارة هي هجرة الكائنات الدقيقة المسببة لظاهرة المد الأحمر القاتلة لنظمنا البحرية الساحلية.
الدكتور علي عدنان عشقي أستاذ علم البيئة في كلية علوم البحار بجامعة الملك عبدالعزيز في جدة، السعودية.