تُمثّل سنة 1972 نقطة تحوّل في تاريخ العمل البيئي الدولي بانعقاد مؤتمر استوكهولم حول البيئة البشرية خلال الفترة بين 5 إلى 16 يونيو (حزيران). ونتج عن المؤتمر صياغة رؤية أساسية مشتركة حول كيفية مواجهة تحدي الحفاظ على البيئة وتعزيزها. وهو يُعدّ أول مؤتمر ترعاه الأمم المتحدة وتَرِد كلمة "بيئة" في عنوانه، كما شهد بداية الحوار بين الدول الصناعية والدول النامية حول الصلة بين النمو الاقتصادي وتلوث الهواء والماء ورفاه الناس في جميع أنحاء العالم.
وفي 15 ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً باعتبار 5 يونيو (حزيران) من كل سنة يوماً عالمياً للبيئة، تقوم فيه الحكومات والمنظمات بنشاطات تؤكد من خلالها حرصها على حماية البيئة وزيادة الوعي البيئي. كما اعتمدت الجمعية قراراً آخر كان من نتائجه إنشاء برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب).
"لا نملك سوى أرض واحدة" كان شعار مؤتمر استوكهولم قبل 50 سنة، واليوم تستضيف السويد مؤتمر "استوكهولم +50" وفعاليات يوم البيئة العالمي تحت الشعار ذاته. وسيوفّر اجتماع استوكهولم فرصةً للمجتمع الدولي لتعزيز التعاون وإظهار الريادة في التحوُّل نحو مجتمع أكثر استدامة.
ويُعتبر يوم البيئة العالمي منصة حيوية لتعزيز التقدم في الأبعاد البيئية لأهداف التنمية، ويُحتفل به في هذا اليوم سنوياً منذ عام 1974، وتشارك بفعالياته أكثر من 150 دولة. كما تتبنى المؤسسات التجارية الكبرى والمنظمات غير الحكومية والمجتمعات المحلية والحكومات والمشاهير من جميع أنحاء العالم الوسم المستخدم في يوم البيئة العالمي لدعم القضايا البيئية.
وفي المنطقة العربية، كانت بيروت استضافت فعاليات يوم البيئة العالمي في 2003 تحت شعار "الماء، مليارا إنسان يموتون لأجله"، كما استضافت الجزائر العاصمة فعاليات يوم البيئة العالمي في 2006 تحت شعار "الصحاري والتصحُّر، لا تهجروا الأراضي القاحلة".
تحديّات وجودية للإنسان والكوكب
يمثّل اختيار شعار "لا نملك سوى أرض واحدة" من جديد تأكيداً على أن الكوكب الذي نعيش عليه لا يزال هو الموطن الوحيد المتوفّر للبشر، لذا يتحتّم عليهم حماية موارده المحدودة لضمان بقائهم واستمرارهم. وتواجه الأرض ثلاث حالات طوارئ كوكبية هي الاحترار العالمي على نحو متسارع بحيث يتعذّر على الناس والطبيعة التكيُّف معه، وفقدان الموائل والضغوط الأخرى على الكائنات الحيّة مما يهدد مليون نوع بالانقراض، واستمرار التلوث في تسميم الهواء والماء والتربة.
وتشير الأحداث التي يشهدها العالم منذ سنوات إلى جسامة المخاطر التي تحيط بالبشر نتيجة إخلالهم بالنُظم البيئية. فالظروف المناخية القاسية أودت بحياة الآلاف، وتسببت بحالات جفاف واسعة وحرائق هائلة قضت على أجزاء من الغابات المدارية المطرية، وألحقت ضرراً بمصادر دخل الكثيرين. كما أظهرت جائحة "كوفيد-19" بصورة مؤلمة مدى الترابط بين البشر والتنوُّع الحيوي، وأكّدت على ضرورة النظر من جديد في علاقتنا بالأحياء والنُظم البيئية.
ولا تستطيع النُظم البيئية مواكبة نمط الاستهلاك الحالي للبشر الذي يتطلب موارد تعادل نحو 1.6 مرات مما يقدمه كوكب الأرض، مما يوجب تبديل أنماط الاستهلاك. ويخلص تقرير "استعادة النظام البيئي من أجل الناس والطبيعة والمناخ"، الذي صدر عن (يونيب) في منتصف 2021، إلى أن الإفراط في استغلال الموارد الطبيعية يؤدي إلى تقويض مكاسب التنمية التي تحققت بشقّ الأنفس ويهدد رفاهية الأجيال القادمة.
وإلى جانب ترشيد أنماط الاستهلاك، تُمثّل استعادة النظام البيئي واحدة من أهم طُرق المعالجة القائمة على الطبيعة لمشاكل انعدام الأمن الغذائي، وتخفيف تغيُّر المناخ والتكيُّف معه، وفقدان التنوُّع الحيوي. وهي تتطلب إجراء تغييرات عميقة في كل شيء، بدءاً بالطريقة التي نقيس بها التقدم الاقتصادي إلى كيفية زراعة المحاصيل وماذا نأكل.
ولا تساهم أنماط الحياة المستدامة في استعادة النُظم البيئية فحسب، بل تقلّل أيضاً من الانبعاثات الكربونية الناتجة عن النشاط البشري بنحو 40 إلى 70 في المائة بحلول 2050. ويمكن أن يدفع الاستهلاك والإنتاج المستدامان التنمية الاقتصادية، كما يخففان من تغيُّر المناخ ويؤثران بشكل إيجابي على الصحة العامة.
وتؤكد تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ على ضيق الوقت المتاح لتحقيق هدف اتفاقية باريس للمناخ، بإبقاء زيادة الاحترار العالمي دون 1.5 درجة مئوية مقارنةً بحرارة الكوكب قبل بدء الثورة الصناعية. ذلك أن التعهدات المناخية الوطنية الحالية ما زالت تضع العالم على المسار المؤدي لارتفاع درجة الحرارة بمقدار 2.7 درجة مئوية بنهاية هذا القرن.
ويُظهر تقرير "فجوة الانبعاثات لعام 2021" أن العديد من خطط المناخ الوطنية تؤخر العمل إلى ما بعد عام 2030. وفيما يستوجب تحقيق هدف باريس المناخي خفض الانبعاثات بنحو 55 في المائة مما هو متوقع في 2030، فإن المساهمات المحددة وطنياً تلحظ خفضاً مقداره 7.5 في المائة فقط.
وتتسبب أزمة المناخ في أحداث جوّية قاسية تقتل أو تشرد الآلاف، وتؤدي إلى خسائر اقتصادية بتريليونات الدولارات. في المقابل، يمكن أن توفر الاستثمارات في الطاقة المتجددة عوائد اقتصادية مرتفعة، وهي خطوة مهمة على طريق إزالة الكربون على مستوى الاقتصاد، لا سيما أنها جاذبة للاستثمارات من القطاع الخاص.
وترتبط خسائر الاقتصاد العالمي أيضاً بفقدان الموائل وتراجع التنوُّع الحيوي، وهي تؤثر على رفاهية 3.2 مليار شخص، أو 40 في المائة من سكان العالم. ومنذ عام 1700، شهد كوكب الأرض تدهور ثلث أراضيه الزراعية، واختفاء نحو 87 في المائة من أراضيه الرطبة الداخلية.
وتحذّر الأمم المتحدة من أن عدم الكفاءة في إنتاج الغذاء العالمي هو السبب الجذري للارتفاع الهائل في الجوع، وهو مسؤول عن ثلث الانبعاثات الناتجة عن النشاط البشري، وعن 80 في المائة من فقدان التنوُّع الحيوي. كما يؤدي التلوث البحري بالنفايات البلاستيكية إلى إلحاق أضرار كبيرة بمصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية وقطاع السياحة، وتبلغ الكلفة الاقتصادية العالمية لهذا التلوث ما بين 6 إلى 19 مليار دولار وفقاً لمعطيات سنة 2018.
أما أكبر خطر بيئي على الصحة العامة فهو تلوث الهواء، الذي يتسبب بنحو 7 ملايين حالة وفاة مبكرة كل سنة، ويزيد هذا الرقم عن مجموع الوفيات الناتجة عن جائحة "كوفيد-19" منذ ظهورها إلى الآن. وتشير تقارير (يونيب)، التي صدرت خلال العام الماضي، إلى أن 57 في المائة من البلدان ليس لديها تعريف قانوني لتلوث الهواء بالرغم من تعرض 92 في المائة من البشر لتلوث هواء يتجاوز إرشادات منظمة الصحة العالمية.
مقاربات تحمي البيئة بتكاليف معقولة
تتطلب مواجهة هذه التحديات الوجودية إجراءات عاجلة يشارك فيها الجميع، الناس والشركات والحكومات. الشخص العادي يملك دائماً القدرة على التغيير، وبعض التغييرات البسيطة يمكنها أن تحقق نتائج باهرة، ومن ذلك مثلاً تطبيق شعار "تقليل الاستهلاك والتدوير وإعادة الاستخدام" في دورة حياة المنتجات وإنقاص النفايات. ويمكن للأفراد أيضاً المساهمة في الحفاظ على صحة الكوكب، من خلال الترشيد في استهلاك الطاقة والموارد الطبيعية وتبنّي أنماط معيشة أكثر استدامة.
وتساعد مبادرات القطاع الخاص المدعومة بسياسات حكومية متطورة في تسريع التغيير الذي نحتاجه. وتؤكد الدراسات على وجود علاقة مباشرة بين ممارسات الأعمال المستدامة ومؤشرات الأداء وأسعار الأسهم، ولذلك فإن الإدارة البيئية الاجتماعية للشركات ليست مجرد أسلوب عمل بل هي ضرورة حتمية لتحقيق الأرباح.
إن نهج الاقتصاد الدائري، الذي يرشّد استهلاك الموارد ويقلّل إنتاج الانبعاثات والمنصرفات والمخلّفات، وكذلك نهج الاقتصاد الحيوي، الذي يعتمد على الموارد الطبيعية المتجددة لإنتاج الغذاء والطاقة والسلع والخدمات، يساعدان في خفض الانبعاثات الكربونية ويعيدان تدويرها ضمن سلاسل الإنتاج والتوريد. وهما يمثّلان خياراً تحويلياً جيداً للحكومات نحو الاستدامة، باعتبارهما متاحين بكلفة ميسورة.
وفيما يُعتبر دور الحكومات كصانع للسياسات أمراً حاسماً في سياق الحفاظ على البيئة والحدّ من مخاطر تدهورها، فإن هذه السياسات تعتمد في المقام الأول على دعم المواطنين ومدى رغبتهم في العيش بظروف أفضل لا تصادر موارد الأجيال القادمة. وتثبت أحداث مثل "يوم البيئة العالمي" و"يوم الأرض" أهمية التوعية في الحثّ على منع التلوث وحماية الموارد، من خلال تثقيف الأفراد كخطوة استباقية بدل البحث عن حلول للمعالجة.
الأرض هي ما نشترك فيه جميعاً، ويستحيل المضي قدماً من دون تغيير، ولكن هذا التغيير يجب أن يكون إيجابياً في صالح الإنسان والطبيعة. ويمكن لكل شخص أن يساهم في الحفاظ على هذا الكوكب الفريد والجميل موطناً مريحاً للبشرية، ففي النهاية "لا نملك سوى أرض واحدة".