لا تنتهي كل النفايات في المكب، كما أن النهر أو المجرور أو الشاطئ لا يلتقط كل ما تجرفه الأمطار. والواقع أن أكبر مكب للنفايات ليس على اليابسة.
رقعة النفايات الضخمة التي تمتد مئات الكيلومترات عبر شمال المحيط الهادئ اكتشفت عام 1988، وهي بمثابة ساحة خردة غامضة عائمة في أعالي البحار. انها النموذج لمشكلة عالمية: بلاستيك يبدأ في أيد بشرية وينتهي في المحيط، وغالباً داخل معدة حيوان أو حول عنقه. وقد سُلِّط الضوء مؤخراً على هذه النفايات البحرية، بفضل تغطية إعلامية متنامية وعلماء ومستكشفين يزورون شمال المحيط الهادئ ليشهدوا على التلوث البلاستيكي في أبشع صوره.
ممَّ تتكون؟
وصفت رقعة النفايات الضخمة في المحيط الهادئ بأنها ''جزيرة نفايات''. لكن ذلك اعتقاد خاطئ في رأي هولي بامفورد، مديرة برنامج النفايات البحرية في الإدارة الوطنية لعلوم البحار والغلاف الجوي (NOAA) في الولايات المتحدة، ''فلو كانت الأمور بهذه البساطة لكان بوسعنا الذهاب الى هناك وإزالة الجزيرة. لو كانت كتلة كبيرة واحدة لسهلت مهمتنا كثيراً".
الأحرى أنها تشبه مجرّة نفايات تتكون من بلايين جزر النفايات الصغيرة التي قد تكون محتجبة تحت المياه أو منتشرة على مدى كيلومترات. وهذا يجعل دراستها صعبة الى حد بعيد، ''فما زلنا لا نعرف كم هو حجمها''، تقول بامفورد، مضيفة: ''نسمع أقوالاً بأنها تعادل تكساس، ثم أنها بمساحة فرنسا، حتى أنني سمعت من يصفها بأنها قارة".
وقد تفاوتت تقديرات مساحتها من مليون الى 15 مليون كيلومتر مربع، ما يصل الى 8 في المئة من مساحة المحيط الهادئ. وقدر أنها تحوي أكثر من 100 مليون طن من النفايات.
وفي حين ما زال هناك الكثير مما لا نعرفه عن رقعة النفايات، فاننا نعلم أن غالبيتها مكونة من البلاستيك. من هنا تبدأ المشاكل. فبخلاف معظم النفايات الأخرى، البلاستيك لا يتحلل بيولوجياً، أي أن الجراثيم التي تفكك مواد أخرى لا تتخذ البلاستيك غذاء لها، فتتركه يطفو في المياه الى الأبد. وأشعة الشمس في النهاية ''تحلل ضوئياً'' أربطة البوليمرات البلاستيكية، لتتحول الى قطع أصغر فأصغر، ما يجعل الأمور تتفاقم. فالبلاستيك مع ذلك لا يزول، وإنما يصبح مجهرياً، وقد تأكله كائنات بحرية بالغة الصغر فيدخل السلسلة الغذائية.
يأتي من اليابسة نحو 80 في المئة من نفايات الرقعة العائمة في المحيط الهادئ، معظمها أكياس وقوارير بلاستيكية ومنتجات استهلاكية متنوعة. وتشكل شباك الصيد المتروكة العائمة 10 في المئة من جميع النفايات البحرية، وفق تقديرات الأمم المتحدة. وتأتي غالبية البقية من ركاب الزوارق الاستجمامية ومنصات النفط البحرية وسفن الشحن الكبيرة التي ترمي في البحار كل سنة نحو 10,000 مستوعب فولاذي ممتلئة بأشياء مختلفة، من شاشات الكومبيوتر الى الألعاب. وعلى رغم هذا التنوع وكثرة المعادن والزجاج والمطاط في رقعة النفايات، فان غالبية المحتويات هي من البلاستيك، لأن معظم الأشياء الأخرى تغرق أو تتحلل قبل أن تصل الى هناك.
كيف تكوّنت؟
تحدث في المحيطات خمس أو ست حلقات لولبية ضخمة (gyres) تتكون بفعل تصادم التيارات. ومن أكبرها حلقة شمال المحيط الهادئ التي تسود معظم المساحة بين اليابان وكاليفورنيا. وفي الجزء العلوي من هذه الحلقة، على بعد بضع مئات الكيلومترات من جزر هاواي، ترتطم المياه الدافئة الآتية من جنوب المحيط الهادئ بالمياه الباردة الآتية من الشمال. وفي منطقة الالتقاء هذه تتجمع النفايات.
تدعو بامفورد منطقة الالتقاء ''أوتوستراد النفايات''، لأنها تنقل القمامة البلاستيكية عبر ممر طويل شرقي ـ غربي يصل بين دوامتين تسميان ''رقعة النفايات الشرقية'' و''رقعة النفايات الغربية''. ويكوِّن هذا النظام مجتمعاً ما يسمى ''رقعة النفايات الضخمة في المحيط الهادئ'' Great Pacific Ocean Garbage Patch).
قد يستغرق وصول النفايات الى هذه المنطقة عدة سنوات، وذلك يتوقف على المكان الذي تأتي منه. فقد ينجرف البلاستيك من داخل القارات الى البحر عن طريق مجارير الصرف الصحي والجداول والأنهار، أو عن الشاطئ. وفي كلتا الحالتين، قد تستغرق رحلته ست سنوات أو سبعاً قبل أن يبدأ الدوران في رقعة النفايات. أما شباك الصيد والمستوعبات الفولاذية فترمى مباشرة في البحر مع النفايات الأخرى.
ما هي المشكلة؟
تهدد النفايات البحرية الصحة البيئية بطرق متعددة، أهمها:
الوقوع في الشباك: إن ازدياد عدد شباك الصيد البلاستيكية المهملة هو من أكبر أخطار النفايات البحرية فيه. تلتف حول الفقم والسلاحف وحيوانات بحرية أخرى في ظاهرة تدعى ''صيد الأشباح''، وغالباً ما تغرقها. وبما أن مزيداً من صيادي البلدان النامية يستعملون الشباك البلاستيكية بسبب كلفتها المنخفضة ومتانتها العالية، فان كثيراً من الشباك المهملة تواصل الصيد وحيدة طوال شهور أو سنين. ومن الأنواع الأكثر إثارة للجدل شباك الأعماق الخيشومية، التي تطفو بواسطة عوامات وتثبَّت بقاع البحر، وأحياناً تمتد ألوف الأمتار.
البلاستيك يمكن أن يعرض أي كائن بحري للخطر، لكن يبدو أن السلاحف البحرية سريعة التأثر بشكل خاص. فإضافة الى التفاف شباك الصيد حولها، غالباً ما تبتلع أكياس البلاستيك ظناً أنها قناديل البحر التي هي فريستها الرئيسية. وقد شوهدت سلحفاة كبرت وهي مقيدة بحلقة بلاستيكية حول جسمها.
النفايات السطحية الصغيرة: حبيبات البلاستيك نوع شائع من النفايات البحرية. وهي تُشحن بكميات كبيرة حول العالم ، لتذوَّب في مصانع خاصة وتصنع منها منتجات بلاستيكية متنوعة. ونظراً لصغر حجمها ووفرتها، كثيراً ما تقع على الطريق، فتجرفها مياه الأمطار الى البحر. وهي تطفو عادة، وفي النهاية تتحلل ضوئياً، لكن ذلك يستغرق سنين عديدة. وفي هذه الأثناء تعرِّض طيوراً بحرية للخطر، على غرار القطرس.
تغادر طيور القطرس فراخها على اليابسة في جزر المحيط الهادئ للتفتيش عن غذاء على سطح الماء، خصوصاً بيوض الأسماك الغنية بالبروتين. هذه البيوض الصغيرة تطفو تحت سطح المياه مباشرة، وتبدو شبيهة بحبيبات البلاستيك. تنقد طيور القطرس هذه الحبيبات وتعود لتطعم فراخها، التي تنفق في النهاية بسبب الجوع أو تمزق أعضائها. وكثيراً ما تشاهد فراخ القطرس نافقة ومتحللة ومعدها ممتلئة بالنفايات البلاستيكية.
التحلل الضوئي: عندما تحلل أشعة الشمس النفايات العائمة، تزداد كثافة المياه السطحية من جراء القطع البلاستيكية الصغيرة العالقة. وهذا مضر لسببين: الأول هو السمّية الملازمة للبلاستيك، اذ يحتوي غالباً على ملونات ومواد كيميائية مثل ثنائي الفينول ـ أ (BPA) الذي ربطته الدراسات بمشاكل بيئية وصحية متنوعة، وقد ترشح هذه السموم الى مياه البحر. وتبين أيضاً أن البلاستيك يمتص من مياه البحر ملوثات عضوية مثل ثنائيات الفنيل المتعددة الكلورة (PCBs)، وهذه قد تدخل السلسلة الغذائية مع BPA وسموم أخرى اذا ابتلعت الكائنات البحرية القطع البلاستيكية.
ما العمل؟
قال القبطان تشارلز مور، مكتشف رقعة النفايات الضخمة في المحيط الهادئ، إن عملية لتنظيف هذه الرقعة من شأنها أن تعرض أي بلد للافلاس وتقتل الكائنات البحرية في الشباك المستخدمة لهذا الغرض.
ومع ذلك، تقوم الإدارة الوطنية الأميركية لعلوم المحيطات والغلاف الجوي برحلات جوية لدراسة رقعة النفايات، وأبحر فريقا أبحاث الى هناك في آب (أغسطس) 2009 لجمع عينات من النفايات والمياه. وعقد علماء من مؤسسة سكريبس لعلوم المحيطات مؤتمراً صحافياً بعد عودتهم من رحلة دامت ثلاثة أسابيع، ووصفوا كمية النفايات بأنها ''مروعة''. وقد عثروا على قطع كبيرة وصغيرة، فضلاً عن طبقة ضبابية شاسعة من الرقائق البلاستيكية المتحللة ضوئياً تحت سطح المياه. وهم يجرون الآن تحليلات لعيناتهم لمعرفة كيف يتفاعل البلاستيك مع البيئة البحرية. وفي الوقت نفسه أمضى باحثون من مشروع كايسي الدولي شهر آب (أغسطس) 2009 بكامله في رقعة النفايات، دارسين محتوياتها، آملين في النهاية إعادة تدويرها أو تحويلها الى وقود.
وفي 20 آذار (مارس) 2010، انطلق ''الايكولوجي المغامر'' ديفيد روتشيلد في رحلة للإبحار حول رقعة النفايات في قارب مصنوع من قوارير بلاستيكية معاد تدويرها. وكان قام برحلة اختبارية في أوائل شباط (فبراير) 2010 بعد تأخير طويل بسبب مشكلة في تركيبة القارب الذي يدعى ''بلاستيكي''. والهدف تسليط الضوء على العلاقة بين النفايات البلاستيكية على اليابسة والنفايات البلاستيكية في البحر، وهي علاقة تزداد وضوحاً، ليس فقط نتيجة الاهتمام الإعلامي برقعة المحيط الهادئ، وإنما أيضاً لاكتشاف رقعة مماثلة مؤخراً في شمال المحيط الأطلسي.
ويرى علماء أن اعادة تدوير البلاستيك واستعمال مواد تتحلل بيولوجياً هما أفضل أمل للتحكم برقع النفايات. لكن هذه معركة شاقة. تقول بامفورد: ''علينا أن نقفل الحنفية عند المصدر، وأن نتفق على التخلص المناسب من الأشياء التي لا تتحلل، مثل البلاستيك. ويجب تشجيع إعادة التدوير، لكن بعض الناس يشترون ثلاث قوارير ماء كل يوم! علينا كمجتمع أن نتصرف بشكل أفضل حيال إعادة استعمال ما نشتري".